الاثنين ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم إبراهيم ياسين

هل للمثقف العربي عذر؟

يطالب البعض من حين إلى حين هذا المثقف بأن يتحمل مسؤوليته وإلا اتهموه بالجبن والتقاعس... والانبطاح والخنوع والخضوع... وألقوا عليه شتى الأسماء والنعوت التي تجود بها لغة الضاد... يطالبونه بأن يتحمل مسؤولية لم يستطعها الحكام والقادة... أمانة تخلى عنها العلماء والدعاة... فمن يكون هذا المثقف حتى يحمل أمانة الأمة بكاملها؟ أهو رسول أوحي إليه وأسند بالمعجزات، أم هو نبي بشر به قومه؟ أم هو من وماذا؟ ما المقصود بالمثقف؟ أهو المعلم الذي يدرس سيلا من التلاميذ وهو بعد ذلك يحاول أن يكتب مقالة هنا أو مقالة هناك؟ أهو الأستاذ الذي وضع في غير موضعه وكلف بمهمة غير مهمته وبعد ذلك نطالبه بالتضحية... أهو الموظف البسيط... المبدع... هل المثقف الذي عليه أن يتحمل أمانته كائن أسطوري؟ ما المقصود بالمسؤولية؟ أهي أن يسب الحكام والمسؤولين...؟ أم هي أن يوزع الرغيف على الفقراء والمساكين...؟

إن أغلب من يكتبون ويبدعون في الوطن العربي موظفون يتقاضون رواتبهم من الدولة... فمن هو هذا الموظف الذي صانه إبداعه عن العمل والتكسب... وبالتالي عن الخضوع للترقيات المزيفة.... والتزامات المهنة المقصرة للأعمار...

هب أننا اتفقنا حول هذا المثقف واتفقنا حول مسؤوليته، فكيف يتحمل الأمانة من أنهكته متاعب الدهر ومصائب الزمان والمكان...؟ وحتى لا نقع في التعميم فإننا نتحدث عن المثقف في العالم العربي... وهذه الأمور لا يدركها إلا من اكتوى بنارها، هذا المثقف تحاصره الدولة بكل الوسائل من التهديد والترهيب والقمع... إلى التفقير والتجويع... مرورا بالإغراء... وانتهاء بالنفي والتشريد... تحاصره وسائل الإعلام بسفاسف الأمور... يحاصره القارئ الذي لا يقرأ... القارئ الذي يبحث عن البهرجة والصور الفاضحة، إنتاج المثقف للرياح... هذا المثقف تحاصره دور النشر... يكتب ليلا، ويكتب نهارا... ودور النشر تغلق أبوابها ونوافذها في وجه الشاعر والناقد والكاتب والمبدع إجمالا... وتفتح أبوابها لغثاء السيل... على غرار: التداوي بعسل النحل، ومحاربة الجن والشياطين... وكتب الأبراج... تنسخ منها مئات الآلاف... تغلق أبوابها في وجه الآلاف من الأطروحات الجامعية الرصينة القابعة في رفوف الجامعات يمتص رحيقها الغبار... قد يتحدث متحدث عن الغش في الأطروحات... عن التفاهة في بعض الرسائل... طيب فمن يثبت لنا أو حتى يزعم أن جميع الرسائل فاسدة، أو أن جميع ما أبدعه المبدعون فاسد... من يزعم هذا؟ إن التعميم أمر ممقوت... الجرائد في المغرب على الأقل... تملأ صفحات عدة بصور فاضحة لعاهرات من النوع الرخيص... والمجلات تغلق أبوابها في وجه دراسات قيمة... لسبب بسيط هو أن كاتبها مغمور... أحيانا يملأ هذه المجلات والجرائد كتاب كبار... يكتبون خواطر تافهة أو يكتبون سير حياتهم... غثاء... فيسدون الأبواب أمام المثقف المبتدئ وأمامهم دور النشر مشرعة الأبواب... في مشارق الأرض ومغاربها... يقول الواحد منهم: أكتب الدراسات للمجلات التي تدفع... وأملأ الصفحات بأي شيء... للمجلات والجرائد التي لا تدفع... علما أن من الكتاب الصغار من يودون أن تعرف أسماؤهم... لا يريدون درهما ولا دينارا... حتى إذا قال هذا المثقف: لا بأس أنا لست منتميا... لا إلى حزب... ولا إلى نقابة... ولست منخرطا في اتحاد من اتحادات الكتاب التي ينخرها السوس... لأني ببساطة أعجز عن الانحناء... عمودي الفقري متصلب متخشب... لا بأس سأنشر إبداعي في مجلة رقمية... ما أكثر المجلات الرقمية الرصينة! ما أكثر البوابات والمواقع الثقافية التي تشرف هذه الثقافة...! وهنا تبدأ ملاحظات أخرى يطول شرحها... ثمة مجلات ومواقع... توظف عدادا... فتستغرب... نص إبداعي رصين لكاتب مبدع كبير: تاريخ النشر يشير إلى سنة: 2006 على سبيل المثال، سنتان والنص مستلق تحت أشعة شمس الانترنت... 700 يوم وأكثر... عدد القراء: كارثة: 100 أو 150... أقل كثيرا أو أكثر قليلا، نص مجاني يقرأه مائة قارئ في أمة تعداد سكانها يفوق:300 مليون من النمل... فلك أن تتصور!

قد ينشر المثقف نصا من نصوصه في مجلة من المجلات الرقمية فتنشأ متاهات أخر لا حصر لها... فإذا قرر أن يسلك طريقا غير طريقه... أو مسلكا غير مسلكه المعتاد... فإذا قرر أن يبحث عن موضوعه عوض البحث عن المجلة ليتأكد بأن نصه قد نشر... كثيرا ما يكون الأمر مفاجأة حين يجد نصه قد نشر في مواقع أخرى... لم يحدث له أن سمع بها... فإذا تعقب النص وكان حسن الحظ... وجد نصه قد نقل... وعليه اسمه... أما إذا ساء حظه فإنه يجد النص... وقد أسقط منه اسم صاحبه... في بعض المنتديات... تجد نصا مسروقا... لا ينتابك شك في ذلك ببساطة لأنه نصك أنت، تعرفه كما تعرف أصابع قدميك: تموت كمدا إذا وجدت الزائرين لهذا المنتدى يتقدمون للسارق بالشكر الجزيل على ما أتحفهم به من إبداع جميل... وسيدة الكوارث أن هذا السارق يتخفى وراء اسم مستعار بشع أحيانا: قاهر البحر ـ كلب الجبل... وشيء من هذا القبيل: أسماء ميكروبية يتسلل بها هؤلاء إلى الثقافة من مسام الجلد كالجراثيم تماما... وأحيانا لو تود التأكد من نصك: لا يسمح لك بالدخول، سجل نفسك... يا الله... يضطر المثقف للتسجيل في منتدى رخيص ليطلع على عمله... فإذا وجد نصه من غير اسمه زاد همه، وتساءل فورا: لمن يكتب المثقف؟ ألبشر لا يقرأون أم للصوص لا يستحيون أم لمن؟ بعد هذا يطالب هذا المثقف الذي ظلمته أمته وقهره حكامه وخانه إخوانه من المثقفين الكبار واللصوص الصغار... وأهانه العامة والسفلة... قهره الفقر وغلاء المعيشة... بعد هذا كله يطالب بالدفاع عن النمل، من سن للمثقف سنة أن يحارب الطواحين الهوائية... وهو أعزل؟ إن ما سمي بالأدب الملتزم... والفكر... لا يعدو أن يكون مدرسة أو اتجاها... فثمة مدارس ووجهات نظر أخرى لعل أشهرها: الفن للفن... فما الفرق إذن ما دمت تكتب... والقارئ غائب...؟!

مثالان من أمثلة عدة:

ـ ظاهرة المدونات: نموذج مدونات مكتوب أو جيران... ابدأ من حيث شئت: أكثر الإدراجات... أو أكثر التعليقات... أو أكثر الزيارات... مدونة غريبة تحمل عنوانا يثير التقزز إن كنت جائعا... والغثيان إن كنت... تجد عدد الزوار يعدون بمئات الآلاف ويتجاوز العدد أحيانا المليون... والتعليقات... الآلاف... والإدراجات لا تعد ولا تحصى بطبيعة الحال من الغثاء... من هذه المدونات ما يتجاوز عدد زوارها في اليوم الواحد زوار مدونة شاعر عراقي كبير في سنة وربما أكثر... وللقارئ الكريم أن يتأكد إن شاء... متى شاء، من ذلك كله...

نموذج آخر: أدعو القارئ الكريم إلى قراءة السير الذاتية المختصرة لعدد مهول من الكتاب والشعراء والنقاد والمبدعين... من مشرق بلاد العرب إلى مغربها... مبدع يمارس مهنة الإبداع ربما قبل أن يولد جيلي... ماذا تقرأ: مبدع عراقي كبير الحجم (العراق على سبيل المثال) ينشر مجموعة قصصية واحدة خلال عشرين سنة... ولائحة كتب تنتظر النشر... طويلة... طويلة جدا... المطبوع: 1... المخطوطات:

بالعشرات... إن ما أثار ضحكتي أن الجاحظ أحسن حظا ـ في نشر كتبه طبعا ـ من أغلب كتاب العرب في العصر الحديث!!!

الواحد من هؤلاء يقترض، وقد يبيع ما يمتلك من أجل أن ينشر أصغر كتبه حجما... حتى إذا استبشر بالمولود الجديد... بضع مئات من النسخ... يوزع أكثرها مجانا للمتزلفين... والمتملقين... حتى يضمن حفلة توقيع زائفة... فإذا انتهت حفلة الشاي... وانقضت أشهر... وجد كتيبه على رفوف المكتبات وقد تراكمت عليه أغبرة... فيقول في نفسه: تبا لإبداع لا يصون صاحبه... ينظر يمينا وشمالا... يلقي بصره جهة الغرب... كاتب تافه يصدر كتابا أتفه... فتباع منه الملايين... يصير صاحبه مليونيرا... الكاتب في العالم العربي ـ باستثناء قليلين ـ يقتطع من قوت أولاده ليمول القراءة والكتابة ويقتطع من رواتب المستقبل لينشر...

خلاصة القول: إن الذين يلومون المثقف العربي أحد اثنين:

ـ إما أنه مثقف والسؤال المطروح عليه: ماذا صنعت أنت؟ هل حاسبت نفسك قبل أن تحاسب غيرك؟!

ـ وإما أنه ليس مثقفا ولا تربطه بالثقافة أدنى رابطة... فيقال له آنئذ: كيف تحاكم من لم تتطلع على أحواله وظروفه... فلكم واسع النظر؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى