الأربعاء ٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم السعيد الورقي

همس الذات في مجموعة عزة رشاد

أحب نورا.. أكره نورهان

تقدم الكاتبة عزة رشاد في مجموعتها القصصية الجديدة: أحب نورا.. أكره نورهان همس الذات في بنية سردية حديثة تحتفظ للقصة القصيرة بمفهوم الموقف العابر أو اللحظة المنفصلة، إلا أنها تعمق هذا الموقف في بعديه: الزمني والمكاني لتجعل منه بناءً ملحمياً درامياً، يقدم وجوهاً من أزمة الإنسان المعاصر الذي أصبح يعاني يتمه وغربته وسجنه الحياتي والوجودي معاً.
تدور غالبية قصص المجموعة حول هذا السجن الذي وجد الإنسان المعاصر نفسه في داخله، سجن الحياة وروتينيتها، وسجن العمل المدفوع إليه، وسجن البيت الذي يعيش فيه، ثم سجن الوجود الذي دُفع إليه مصادفة.

هكذا تستنتج البطلة الساردة في قصة "الليل.. لمَّا خِلي" وهي تمر من أمام السجن في رحلة عودتها اليومية إلى سجن البيت، بعد أن تساءلت: من هم السجناء الحقيقيون؟ هل هم فقط هؤلاء المحبوسون خلف الجدران في سجن المذنبين؟ أم أننا جميعاً نعيش أيامنا في سجون مماثلة وربما أقسى.
فمعاينة وجوه الحياة وحركتها في قصة "الليل.. لمَّا خِلي" لا تقدم للراوية سوى التأكيد على هذا السجن الذي نحياه مرغمين، فالحياة من حولها تتحرك في دائرة المحدود والعادي والمحكوم، حتى إذا انتهت إلى شقتها تكرر كل يوم في رتابة مملة، حتى وهي تنتظر عودة زوجها آخر الليل.
وترى الكاتبة أنه على الرغم من وجود هذا السجن وعلى الرغم من السقوط اللاإرادي فيه، إلا أن الإحساس به ليس واحداً عند الجميع، حيث يحتاج الإحساس به إلى درجة من الوعي تمكن الإنسان من الإحساس الرائي، فابن آدم كما تقول الجدة في قصة "عينا أمي" لا يرى سوى ما يريد، فالابنة ترى جحود الأب وخيانته لأسرته، في الوقت الذي ترى فيه الأم أن شيئاً أصابه، فصرفه عنهم.
ومن الطبيعي أن تخلف الرؤيتان نتائج متباينة.

ومع ما يمكن أن يتضمنه هذا الخطاب من خصوصية قد تتصل إلى حد ما بالخطاب النسائي المعاصر، إلا أن الغالب على التوجه النَصي في خطاب السرد بقصص عزة رشاد هو التحاور في دائرة المشترك العام أو الخطاب العام. فمعظم القضايا المُتناولة في المجموعة قضايا عامة، وإن انحازت قليلاً إلى جانب المرأة، حيث بدت صورة الرجل مشوهة إلى حدٍ ما، من خلال رصد مجموعة من الصفات السلبية مثل الأنانية والهروب من المسئولية، على حين أضاءت قصص أخرى نبل الرجل ومسئوليته وفيض حنانه.
المهم إذن كما تقول الجدة: ماذا نريد أن نرى؟
هل تريد عزة رشاد بهذه المقولة أن تحل إشكالية الموقف الجدلي الذي يثيره الخطاب النسوي المعاصر؟
بمعنى: هل تريد أن تقول بنظرة وسطية تقوم على المساواة خشية من أن يؤدي التطرف الأنثوي إلى سيطرة مجحفة، كما أدى التطرف الذكوري من قبل؟
وربما يفسر هذا من نراه في قصص المجموعة من الحرص على المساواة في توزيع الأدوار والصفات، ففي المرأة مثل ما في الرجل، إذ أن كليهما إنسان.
لا يهم إذن أن تكون رجلاً أو امرأة، وإنما المهم أن تكون إنساناً، وأن تعي وجودك الحقيقي، وعندها فقط سوف تكتشف مع الكاتبة وأبطالها أبعاد الموقف الوجودي من حولك، والذي لن ينقذك منه سوى بكارة الإحساس وطزاجته، أو كما يقول الطبيب البيطري في قصة "أكثر من فمٍ مشاكس":
"إن غنائي ليس مجرد بوح، ليس مجرد نوح، بل هو كياني يتشظى.... توقاً لوجودٍ استثنائي، يفتتني شذرات ثم يلملمني من جديد. أما من يفخرون بأدمغتهم، فلا يحسون كيف يضعونها تحت أقدامهم حين يشاركونني الغناء"
ثم يصيح "أنا الطفل الهارب من قسوة الحياة أتحرر بالغناء"

لقد وجدت الكاتبة أن إعمال العقل في ممارسة فعل الحياة لم يحقق للإنسان سوى المزيد من العقم والإفساد، وأنه عليك أن تفتش عن المشاعر، تلك الكامنة وراء قشرة سجن العادة، حيث تكتشف بكارة الأشياء، فما يعني صغيرة قصة "رؤية" في رحلة اصطحاب أبيها لها، كي تشاهدها أمها المنفصلة عن أبيها، كل سبت لمدة ثلاث ساعات، هذه المشاهدة وما يصاحبها من لعب وحلوى تجلبها أمها لها كل لقاء، وإنما الذي يعنيها هو لقاء مريم التي تتماثل ظروفها مع ظروف صغيرة القصة.

تتقابلان، وتمرحان وتلعبان في تواصل إنساني لا يحتاج إلى أن يكون بينهما حديث، كما تقول البطلة "كنا نلعب معاً دون أن نقول أي شيء تقريباً".
فليس المهم الحديث وإنما الأهم هو هذا التواصل الحميمي الإنساني. تقول الساردة :
"أما الشيء الذي أخشاه فهو أن لا تأتي مريم، فعندئذٍ لن يكون هناك من معنى لكدي في جمع أشيائي الصغيرة كي نلعب بها، عندئذٍ ستعود الساعات طويلة ومملة، ولن يكون لديّ ما أحكيه لجدي عند عودتي مساء سوى حكاية قديمة عن العفاريت التي انتزعت الحب من قلبيّ رجل وامرأة، وأحالتهما إلى تمثالين من الرخام".

وهذه المشاعر الإنسانية هي التي عولت عليها صغيرة قصة "أحب نورا.. أكره نورهان" في حبها لابنة مخدومتها التي في نفس عمرها، عندما تصبح كوناً من المشاعر الإنسانية الخالصة وقد طرحت جانباً موروثها الثقافي الفكري الذي يفصل بين الإنسان والإنسان في تمييزات جنسية أو طبقية أو غيرها.
ومن هذا المنطلق اختارت الكاتبة عزة رشاد عنوان هذه القصة عنواناً للمجموعة.
فالمجموعة تقدم إجابة وحلاً لما ساد الواقع الإنساني المعاصر من قلق وغربة ويتم واهتزاز في القيم، مرده كله إلى إعمال العقل، حيث تمكن الإنسان بغباءٍ شديد من أن يخلق لنفسه هموماً أزعجته وأقلقته ونغصت عليه حياته. مع أن الحل يكمن بين يديه، ولن يكلفه الكثير، فليس أمامه سوى البحث عن الإنسان في عالم المشاعر والوجدان، فينطلق مع طبيب قصة "أكثر من فمٍ مشاكس":
"وسأذهب لأقتفي أثر عشقي وجنوني في البلاد البعيدة، لكن قتل أصدقائي ـ المخلصين ـ سيكون أول ما سأفعله هناك. نعم سوف أقتلهم جميعاً".
"أولئك الذين ينحتون كلماتهم بخاماتٍ عديدة، محاولين مداراة تهكمهم، ومتلذذين بمراوغتك، أولئك الذين يختلفون دائماً حول كل الأشياء التافهة أو القضايا المبجلة، اتفقوا أخيراً عليك".
وهي دعوة قريبة لما دعا إليه الرومانسيون من قبل، من نبذ العقل، والاعتماد على الوجدان والمشاعر في تفسير الحياة والوجود تفسيراً إنسانياً.
وهل يعني هذا أننا داخلون في رومانسية جديدة تبحث عن الإنسان في العاطفة الوجدانية؟

أعتقد هذا، فكل النظريات العلمية الحديثة وما نتج عنها من بنيويات وتفكيكات وتوليديات وغيرها، لم تستطع أن تقدم إجاباتٍ مقنعة وهو ما يفسر توقفها السريع وانحسار نتائجها، كما توقفت العقلية والواقعية، وأفسحت المجال إلى وجدانيات قدمتها الرومانسية والرمزية والحدسية.
وهذا هو ما عنيته بقولي: همس الذات في كتابة عزة رشاد
وفي إطار همس الذات اتسمت التجربة الإبداعية بالخصوصية الذاتية التي تطلبت الاتكاء على سرد الراوي الحاضر، حيث اعتمدت الكاتبة في قصص المجموعة على حضور السارد الراوي بضمير المتكلم، مع إتاحة الفرصة بعد ذلك لتداخل الضمائر، وتعدد مستوياتها الحضورية في بعديّ الزمن والمكان، وهو ما دفع بالسرد إلى اتخاذ تقنيات التداعي وتيار الوعي من ناحية، وإلى الاتكاء على اللغة الشاعرية ذات الدلالات الانفعالية، وتركيز اللغة المكثفة، على نحو ما نرى في المقطع التالي من قصة: "تعويذة ضد الفناء":
"ولأنها عابرة هي حيواتنا، ولأننا نسبح في مداراتها، لا نعرف متى تكف أجنحتنا عن الرفيف؟ ولا نعرف تماماً.. ماذا علينا أن نفعل قبل أن نجد أنفسنا قد توقفنا؟ لأجل ذلك أغني لعينيه أغنية كل مساء، وأوقد له شمعة، وأخرى للفتاة التي كتبت بدموعها يوماً رسالة، وثالثة للفتى الذي اعتصر نفسه يوماً في إشارة".

فاللغة السردية هنا في شاعريتها، لغة ذاتية انفعالية، لا تهتم كثيراً بالتوصيل الواقعي، بقدر ما تهتم بالانفعالات والوجدان الذي يتحرك بالصورة التي تثير بدورها مشاعر الموقف.
"أحب نورا.. أكره نورهان" مجموعة قصصية تقدم رؤيا جديدة للحياة، قائمة على وجدانية معاصرة، تعاين الحياة والواقع بالمشاعر والوجدان، ساعية إلى تقديم تفسير وجداني جديد للوجود.

أحب نورا.. أكره نورهان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى