السبت ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
هكذا تتجدد الأمم
بقلم نازك ضمرة

وتحافظ على تواجدها وتفوقها

لم يسبق أن فكرت بالكتابة عن احتفال حضرته من قبل، لكن الشحن الذي عبأني وكاد يحرق أعصابي هذا اليوم، عصرني فقطر مني الكثير من العرق برغم برودة جو الصالة، وقشعريرة النساء عموماً، لحرصهن على إظهارمفاتنهن، وما يجمد عيون الرجال على مواقع خاصة مما وهبه الله لكل منهن، أشعربإحباط من نوع ما، برغم ما أنا فيه من فرح وجو احتفالي خيالي، ثم تصوري لعبثية حياة الإنسان العربي. إن وجودي في هذه الصالة الخيالية لأحضر احتفالاً بتخريج شباب أنهوا المرحلة الثانوية من مدرسة ثانوية واحدة في نورث كارولاينا، عينة من عظمة احتفال بعض الدول المتقدمة بخريجيها، والمتميزين منهم خاصة، نسيت نفسي وابني الذي أتواجد في هذه الصالة الفخمة هائلة الاتساع من أجله، لأنه ضمن قائمة الخرجين من المرحلة الثانوية هذا اليوم، وبرغم فرحي بابني، إلا أن الإعجاب بما أشاهد وبما يجري من ابهة وتفخيم لتهنئة هؤلاء الشباب بنات وأولاداً، بتخرجهم من مرحلة الإعداد إلى مراحل العمل والتخصص والإنتاج أثار في نفسي لواعج مختلطة، سعيد لأن ابني كغيره من ابناء مدرسته الذين أنهوا المرحلةالثانوية، لكن اختلاط مشاعر الفرح بالحزن والإعجاب بالإحباط تراكمت وتفاعلت كلها وكأنني أعاني من حمى غامرة تجعلني لا أقوى على ضبط نفسي، ودموعي تتواصل، لاحظت زوجتي وابنتي الضغط والانكماش والتقوقع عليّ، فحاولن أن يكلمنني، فلم أستطع أن أنطق أو أقول شيئاً، وكون الكتابة متنفس لي، حرصت على حمل ورقة وقلم معي كما أحاول أن أفعل أينما انتقلت، وأنا أتواجد هذه الدقائق في صالة ملوكية، وكأنني أدخل قصر علاء الدين المسحور تحت الأرض، حيث يتواجد فيه ما لايخطر على بال إنسي، أشغل نفسي بتأمل الأبهة والبذخ في الاحتفال بتخريج الشباب، صالة تتسع لألفي شخص جالسين، وثلاثمائة طالب يتخرجون من مدرسة ثانوية واحدة، يجلسون في مقدمة الصالة، وبجانبهم الأيمن أربعون عازفاً موسيقياً، وأكثر من خمسين إدارياً ومراقباً ومصوراً، طلاب أنهوا الدراسة الثانوية بمختلف التخصصات في علوم الصحة، والآداب والفنون، والهندسة والتكنولوجيا بفروعها، وهي مبادئ التخصصات المتوفرة في هذه المدرسة الثانوية

قبل دخولنا للصالة خطر ببالي أن أحصي السيارات التي استطاع أصحابها أن يجدوا لها موقفاً في مرأب واحد من ثماني طبقات، يتسع كل طابق لمائة سيارة، وحشروا مائتي سيارة أخرى في ساحة المبنى الأمامية والخلفية، أي ألف سيارة وجدت لها موقفاً أميناً، لا يضايق الشوارع ولا المارة، وبسبع دولارات اجرة توقف كل سيارة لثلاث ساعات.

الصالة ظننتها ملكاً للولاية أو لمؤسسة حكومية، وبعد التدقيق في اسم الصالة، عرفت انها صالة عالمية تملكها شركة الكهرباء في تلك المنطقة، وتم بناؤها قبل حوالي العشرين عاماً وبتكلفة قدرها مائة مليون دولار، حين كان الدولار نطاحاً وفحلاً، واليوم تمتلئ هذه الصالة التي لم أرى بمثل ابهتها واتساعها والاستعدادات التي بها، ودقة هندسة التصميم والترتيب والتفنن فيها، امتلأت عن آخرها، وكنت انا واسرتي من آخر مائة شخص دخلوها ربما، فوجدنا صعوبة كبيرة في إيجاد ثلاث مقاعد متجاورة، لا بل جلس كل منا في منطقة مختلفة في البداية، وبعدها تفاهمت ابنتنا مع شخصين عاشقين هائمين سمحا لنا باحتلال مقعديهما، وأرى أسماء الخريجين على لوحات ضخمة مضاءة، بالأضافة للأوراق المطبوعة بأضعاف ما يتطلبه الألفان من الحاضرين، حتى يحمل أي شخص العدد الكافي من قوائم الخريجين إلى أهله وأصدقائه ولذكرياته، أما عن المتفوقين فلا تسأل!

لبس الخريجون والخريجات ملابس احتفالية موحدة جاذبة، وتعزف الفرقة الموسيقية ألحان فرح شجية وتحميس يثيرالمشاعر بآلات موسيقية نحاسية وبالنفخ وكمنجات تقليدية وكهربية حديثة، والشباب يتحركون في همة ونشاط، يصطفون أو يستعدون كل لأداء الدور المناط به في القول او العمل أو الدعم، بدأ دخول الخريجين لاحتلال مقاعدهم، وبمرافقة العزف الموسيقي الحي، والتصفيق يكاد يفجر القاعة يرافقه صراخ بعض المتحمسين لهذا الموقف المهيب، من أقارب الخريجين والمشجعين، وكل طالب له ست تذاكر، يتسلمها القادمون عند المدخل، حين يذكرون أو يثبتون أنهم قادمون لحضور تخريج طالب ما، يقف الألفا مشاهد ويصغون لعزف السلام الوطني، والكل ينظر يمنة ويسرة يطالع وجوها نضرة، ضاحكة مستبشرة حوله وامامه وخلفه، والصحفيون والمراسلون ينتشرون في كل مكان داخل الصالة وعبر مستويات الجلوس فيها، و التي بارتفاع ستة طوابق، وصدور النساء تتراقص مع أكفهن وهن يصفقن ويصرخن ويرقصن، فتزداد حرارة الإيمان في قلوب الحاضرين والمشاهدين والمجاورين، ويندمج الكل في جو خيالي لم يتصوره المرء من قبل، وحين بدأ تعداد أسماء الطلاب المتفوقين كل في مجاله، ظل التصفيق والهتاف والصراخ والتشجيع متواصلاً، وما أكثر هؤلاء الشباب، وقد بلغ عدد المتفوقين منهم أكثر من مائة شاب وشابة، ننسى أنفسنا، أحس بأننا في مركبة فضائية نحلق في أجواء لانريد لها الوصول ولا التوقف، مع اننا لا ندري كيف سنخرج منها أو هل سنخرج، تختفي الاتجاهات والماضي والمستقبل في عقلي، ولا أريد أن أعرف أين نسير، بحر يتلاطم بفرح وهمة ونشاط وانسجام لا مثيل له.

هؤلاء الطلاب المبدعون ماذا تتوقع منهم مستقبلاً؟ . . . شعبهم ووطنهم يرقص لهم، ويحتفي بهم، ويغني لهم، ويشعل الأنوار الصارخة، واللوحات الإعلانية، المكتوبة والمضاءة، ولوحات الشاشات التلفزيونية الضخمة في كل زاوية وكل عشرين متراً تمجدهم، وتصور الشاب او الشابة وهو يتسلم شهادة التميز، سيتوجهون لجامعات ترحب بهم، والمثل النفسي و العلمي يقول: (النجاح أدعى للنجاح)، سيبدعون ولا شك بعد أن شاهدوا وسعدوا بلحظات هذا التقدير وهذه الأبهة في الاحترام والحضور والإشهار، سيبدعون أكثر وأكثر في تخصصاتهم مستقبلاً، لأن الناس وأهلهم ومجتمعهم والرسميون يعرفونهم ويعترفون بجهودهم وبعظمة إنتاجهم وجهدهم، ولا شك أن نفوسهم ستتوق لترحيب واستقبال وتوديع يليق بهم بعد تحقيق إبداعات جديدة.

لكن السؤال الذي يداعب رأسي هذه اللحظات: كيف سيكون حالهم وحال بلدهم بعد تخرجهم؟ وبعد الدخول في خلق الحياة وإعادة تشكيلها او حتى تنظيمها؟ والتشجيع جاهز حتماً ودائماً، وهنا أستدرك لأعرف كيف تتقدم شعوب على شعوب أخرى، وكيف تبقى دول في المقدمة وباستمرار، والتنافس ماثل متواجد متواصل، والتشجيع والترحيب والتقدير للمبدعين أهم معطيات الأمة لأبنائها المخلصين الناجحين؟

هكذا تحافظ الأمم على تواجدها وتقدمها وتفوقها، وحين تشهد احتفالاً كهذا، تتمنى لو ان معارفك وكل شعبك شاهده مثلك، على أمل أن نرفع معنويات أبنائنا ليزيدوا من إبداعهم، وليرفعوا من معنوياتنا ولنشعر أن خلفاً صالحاً من بعدنا يصنع الحياة، ولا نملك إلا أن نهنئى كل متفوق في أي مجال، وبطريقة فريدة تجعل نجاحه في المرة الأولى أدعى لنجاح جديد أو متجدد لمرات تالية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى