الثلاثاء ٢٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم مروة كريديه

وقليل من اللهو يفرفح قلب الإنسان

منذ طفولتي عشقت القراءة، وسبب غرامي لها مجهول، وكان حبّ استكشاف المجهول والتعرفّ على الجديد شيئ يستهويني كثيرًا.... ومع بداية مرحلة تعليمي الثانوي كان لي مع العلم وأهله فلسفة خاصة وجنون عاشق مغروم، فلم اكن ارى هدفًا أهم في الحياة من البحث وطلب العلم والغوص فيه...لأتحول مع مرور الأيام بعد دخولي الجامعة، الى كائن مبرمج الذهن والفكرعلى القراءة المستمرّة والعمل الدؤوب والنقد والتحليل والتدوين والعمل الأكاديمي..

فكان الكتاب رفيقي في حلّي وترحالي، والقلم معلّق برقبني كما يعلق الرسن في رأس الحمار، فهو جزء من معداتي اليومية الذي لا يمكن التحرك دونه .

وكانت حقيبتي اليدوية اشبه ما تكون بمكتبة وثائقية متنقلة، تحتوي على كل هبّ ودبّ ودرج من مستلزمات وعدّة الشغل، من الكتيبات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، منها الرواية ومنها الكتب الفلسفية ومنها السياسية... فلكل واحدةٍ منها وقتها، فلو صعدت باص الدولة العجيب تجدني اخرج قصة خفيفة لا تحتاج الى الكثير من التركيز والتفكير،ولو دخلت غرفة الانتظار في عيادة الطبيب، اخرج كتابًا فكريًّا من العيار الثقيل....

أما شكلي الخارجي فكان اشبه ما يكون بباحثة كيمياء عجوز شمطاء في وكالة سانا، لا تخرج من مختبرها إلا بالمناسبات، فنظارتي تحفر وجنتيّ، وملابسي الواسعة الفضفاضة تتسع لفريق بحث بكامله،

و حذائي العريض الزاحف، يستصرخني مقرقعًا مفرقعًا ان ارحمه مما هو فيه، لأنه تحول بعد اسبوع من شرائه من حذاء محترم الى قارب مهترئ يتأرجح حول كعبي تعصف فيه رمال الطريق وتخترقه امواج مياه الجور التي تنتشر في شوارع بيروت العتيدة .

هكذا كانت مظهري الخارجي اشبه ما يكون بفتاة خارجة من الزمن الغابر، ولم اكن متأسفة على وضعي في ذاك الزمان فليحيا النضال وليحيا العلم ولا شيئ يعلو على القلم والعلم، ومصداقيتي في صدق البحث تعادل رفاهية الكون بأسره في نظري.

كنت في مطلع العشرينيات من عمري، وحالي المادّي لا أحسد عليه ودخلي الشهري عبارة عن مبلغ بخس دراهم معدودة، لا يكفي تلميذ من الطبقة الوسطى في مدرسة ابتدائية، فكنت أدّرس بعض الدروس الخصوصية لأتقاضى في الساعة ما يعادل ثلاثة دولارات، كي أوفر من هذا الدخل العظيم ثمن كتاب او طباعة ورقة أو الرسم الجامعي .

كنت أجوب شوارع بيروت في مطلع التسعينيات على قدمي طولا وعرضًا وارتفاعًا...نعم يا قارئي وارتفاعًا ففي بلدنا الكريم حماه الله من أعين الحاسدين،الكهرباء فيه أندر من الياقوت، والمسؤولين عنها أكذب من مسيلمة، فهي شحيحة قليلة بفضل جهود المتناحرين المتنافرين من السياسيين حماهم الله أجمعين ،لذلك فإننا كشعب نتقن فن القفز، نقفز طيلة يومنا على السلالم ونرتقي الطوابق حتى في الابنية المرتفعة الشاهقة فنحن شعب أشبه ما يكون بسبايدرمان ....

وكانت عملية شراء مرجع علمي عندي أهم عندي من منقوشة زعتر ساخنة،اسكِّت بها صوت معدتي الهائج وجعجة امعائي الفارغة التي تتنتظر بفارغ الصبر والسلوان العودة الى البيت لتصبر نفسها بما هو متيسر و متوفر ...

تخرجت من جامعتي العتيدة وانا لم اقتني احمر شفاه واحد بعد ولا افهم في شيئ مما تعرفه اناث القرن العشرين من مستحضرات التجميل، وشعري لم تلمسه مزينة الشعر ابدا، فهو دائما مشدودا مربوطا للخلف لا يُفك الا عند الاستحمام ليعود بعد ذلك الى قواعده نظيفًا سالما.

ولي حاجبين معقودين بقفلة عجيبة لم تفك الى يوم عرسي عندما اصرت المزينة على ازالتها، فكانا بمثابة جناحي طائر فنيقي قديم يحط على منظار بحار قديم .

مما أذكره اليوم، أنني وفي استراحة قصيرة بعد محاضرة طويلة عريضة في حساب التكامل والتفاضل، أطلتّ استاذة الرياضيات الى عيوني من خلال نظارتي مبتسمة قائلة :

" انتي في عمر الورد وتمكثين هنا حتى بعد انتهاء الدوام؟؟"

اجبتها:" وأين ينبغي أن أكون؟؟

قالت:"اخرجي الى الطبيعة و استمتعي بالحياة !!!هذا العمر اللذي تمرين به الآن لن يتكرر أبدًا وهو اجمل ايام الانسان"

نظرت اليها نظرة غرائيبة، وحاولت ان اعتصر من كلامها مضمون الرسالة الفلسفية الموجهة إليّ، فلم استنتج سوى انها تريد ممازحتي بعد جهد ساعتين من العمل الفكري المضني الشاقّ.

وتمر السنوات وتُطوى الليالي، واستعيد مشهد يوم مرّ عليه اثنتا عشر عامًا... وأرى الأيام هاربة مني تسابق الريح، حققت فيها الكثير ربما... غير أنها لم تعرف العبث أبدًا، فأفهم بدقة مضمون كلام أستاذتي، فقليل من المجون لا يفسد لطالب العلم قضية، وشيئ من اللهو يفرفح قلب الإنسان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى