الأحد ٢٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم هيثم خيري

وَنـس النار

هناك أسباب كثيرة تجعل الأستاذ عمر يكره المتطفلين كره العمى؛ فهم لا يعرفونه، ولم يتحققوا منه ومن حسبه جيدًا، ولا من طريقة تصفيف شعره التي يصنعها بعناية فائقة. فقط يتعطفون عليه لهيئته الرثة، وجلبابه الممتلئ بالشراشيب والثقوب.

الأستاذ عمر (اسمحوا لي أن ألقبه بالأستاذ كما يحب أن ينادي دوماً) كفر بالقاهرة وناسها، فر هارباً من الزحام الشديد، والطلبة الذين يوسعونه ضرباً ومشاكسات بالجيزة. لذا قرر العودة إلى بورسعيد.. أخبر أخاه بالأمر في جدية وحزم شديدين، وأفضى له بنيته في ترك القاهرة والعودة إلى مسقط رأسه، غير أن أخاه عارض في باديء الأمر، فالأستاذ عمر نصف عاقل، نصف ضرير، لا يعمل، وليست لديه وسيلة يتكسب منها، وبالكاد يحمل عصاه التي يتوكأ عليها، عوضاً عن نور عينيه، ولكن حين حسب الأمر بينه وبين نفسه، بعيداً عن اعتبارات الإخوة والواجب، وجد أنه سيبتعد عنه ويستريح من همومه ومشاكله التي لا تنتهي، ثم إن راتبه الشهري سيصله عبر مكتب البريد، أو فتح حساب باسمه.

الآن يقبع الأستاذ عمر أمام بورصة ثورة العمال، التي تطل على ميناء بورفؤاد، لقد عاد لذكرياته القديمة، وأيام عزه، قبل أن يصاب بالحمى الشوكية.. يجلس أمام المقهى، يتحسس ـ بين الحين والآخر ـ لوحة لخيول هاربة، يتلمس واجهتها الزجاجية الملساء، التي لطالما شاهدها عياناً بياناً بصحبة الوالد، كان يستغرق التأمل فيها، فيندلق الشاي بالحليب على قميصه وينهره والده.

 الخيول ما بقيتش تهرب، بقت تدخل جحورها.. إقفاصها.. زنازينها.. أوف، مش فاكر!.
هناك بؤرة ضوء تتحرك في الظلام الدميس، هي صندوق دنياه الواسعة، صباحاً يستمع إلى قناة المجد، ويحب القرآن المجود، وفي الظهيرة يستمع إلى قناة الجزيرة والعربية والحرة. يستمع أيضاً إلى تعليقات رواد المقهى، يجادلهم ويجادلونه، مع علمهم المسبق بعقله الشائط، ثم إنه يعرج بهم إلى موضوعات وقضايا مختلفة تماماً عمّا يتكلمون فيه، يجتذبهم بغتاتة إلى قضاياه ودنياه الخاصة.
 لأ، تايسون ماماتش، إقلب على قناة ميلودي كليب وإنت تشوف الملاكمة على حق ربنا.
يضحك بخيت صاحب المعصرة ويلتفت إلى ما يشاهده، غير عابيء بهذيان الأستاذ عمر.
في المساء يحلو له السهر داخل البورصة، يضطر لترك مكانه الأثير أمام المقهى، ويدخل بحذر إلى الداخل، إما يسند بيده على الواد ماشا القهوجي، أو يتعكز هو بنفسه على عصاه، يضرب بها الموائد، حتى يجد طقطوقة فارغة، ينحيها ـ بحرص ـ جانباً، ثم يجلس القرفصاء مكانها، بعدما يتأكد من وضع الكرتونة تحت مؤخرته.
يغلق باب ثورة العمال على ما فيه منذ الحادية عشرة مساءً، بحيث يراه من بالخارج كما لو كان تكية مهترئة الجدران، لا يعلم من بداخلها إلا خفى الألطاف، أما من في الداخل فيخوضون جولات التحشيش وشرب البيرة لساعات طوال، فيتحول المقهى ـ بين لحظة وأخرى ـ إلى مخانة سهرانة.
أما الأستاذ عمر فلا يغضب الله، لا يقترب من أي مسطلات، ولكنه يكتفى باستنشاقها والائتناس بدفء المكان وملح البحر.
 وقابلت الواد سيد سفنجة، إديته سِنّة أفيون، وكان ناسيني في الأول..
الآن فقط القهوة كلها تستمع للأستاذ عمر، يجلس هو على كرسي مخصوص، يضع الساق على الساق، ويرتشف الشاي بحليب المحبب إليه، وهذا هو سر انتشائه؛ إذ أن الحشيش والبيرة تلعبان بالرءوس، فلا يكاد يعرف الزبون جاره من الشيشة التي يمسكها بيده، حينها ينطلق الأستاذ عمر في حمّى الرغي التي لا تنقطع.
 قفشتكو يا ولاد الكلب.. هاتهربوا مني فين؟!.
يعرف الأستاذ عمر آخر أخبار الصيد والبحر والبورصة وإذاعة سوا الدخيلة علينا من "ولاد الجزمة"، يعرف أخبار الدنيا كلها: الإنجليز سابو مصر، وخرج بونابرتا من إسكندرية والقاهرة وسابها مخضّرة، الزيت والسكر والشاي ولّع نار والأسعار في العالي، حتى السبرتو والبلا لازرق، فلوسي وفلوس العيال مابقيتش تكفي العيش الحاف، استلفت من ريس المركب ـ الله يبارك له ـ حق إزازة البيرة، فاتورة الزبالة هاتدخل مع النور الشهر الجاي، وفاتورة التليفون بقت تكنس الجيوب أول بأول، الناس عايزة تهرب من بورسعيد وبورسعيد عايزة تطلع من هدومها.
يكتفى الأستاذ عمر بالتعقيب على نقاشات الزبائن بجملة مقتضبة: دنيا.. والله العظيم دنيا.
تتواتر الأخبار الطازجة (بالنسبة له) أولاً بأول، يسمعها كل ليلة، ولكن لا تكتسب سحرها الخاص، إلا حين تلوكها الأفواه البطيئة بعفوية شديدة.. عفوية تدعوه للضحك من قلبه أحياناً.
 أمال بتقولوا عليّا مجنون ليه؟!.
الأستاذ عمر لا يشمت، لا سمح الله، هو فقط يسأل سؤالاً بريئاً، لذا تأخذه الناس على قد عقله، غير أنه يتابع أحاديثه، ويتابعون هم الإنصات إليه حيناً، أو الهذيان في أي شيء حيناً آخر.
ليلة الخميس كان بردها قاسياً، لم تتركه ينعم بالصحبة، استطاعت البيرة أن تدفئ الأبدان، أما هو فلم ير طعماً للدفء، ليس لأنه لم يشرب، ولا لأن الجلباب القصير يدخل سلاهيب الهواء إلى كل سنتيمتر من جسده فقط، ولكن لأنه تذكر الموت! لا يعرف لماذا، ولكن هاجساً ملحّاً كان يقول له دوماً: إن البرد سيقتلك ويجعلك تتجمد بسرعة، فلا يشعر الناس بك، ولن يشموا رائحة موتك، سيأتي كلب يقلبك يميناً وشمالاً.. وقتها فقط سيدركون أنك ميت، ولن يستطيعوا الإرسال لأخيك كي يقوم بعمل الصوان وواجب العزاء الذي يليق بك.
 مش باقولكم هاموت موتة الكلاب..

عاوده السؤال: كيف يدفئ نفسه دون أن يغضب الله؟
_ غير أنه سرعان ما وجد حلاً مرضياً له. نهض من فوره، واقترب من بؤر الضوء الموجودة في المقهى، في البداية اعترضه التليفزيون، ثم ولاعة سيد المزين، أخيراً وجد منيته: كلوب النور المرتفع في هدوء، رأي النار تتمايل، أمسك بعكازه لعله يزحزح الكلوب للأمام، غير أن الكلوب هزمه وسقط على الكليم المكوم على الأرض.. بسرعة اشتعلت النار فيه، وحين رأي الأستاذ عمر اللهب واستشعر دفأه ابتعد قليلاً، ثم مد يده إلى الأمام يستدفئ بالنار.
 أخيراً دفيت زيكم.. اشبعوا بيرة وأنا أشبع دفا.
_ الواد ماشا القهوجي فتح الباب في هلع، وأخرج الزبائن المساطيل كما لو كانوا خيولاً تهرب من الموت، رآهم الأستاذ عمر بنظره الطشاش، ولكنه لم يتبين إذا ما كانوا يهربون إلى جحورهم أم إلى أقفاصهم أم إلى زنازينهم.. بصراحة هو لا يتذكر تحديداً، ولكنه اكتفى بنشوة الدفء والونس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى