السبت ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم هاني محمود

يَاكْشِى تِوْلـَع

هانى محمود

حين تسلمت العمل في الشركة، كنت قد انتهيت لتوى من قصة حب فاشلة شهدها رحاب الجامعة،وانتهت كما تنتهي كثير من قصص الحب في الجامعة، بفشل ذريع، وتزوجت حبيبتي بعد أن تشاجرت مع خطيبها ــ وكان زميلا لنا ــ وكدت أفصل من الجامعة

ولم أشعر بأنني خسرت كثيرا إذ أنني بعد شهر واحد من العمل في الشركة أدركت أن هناك فرقا كبيرا بين حياة الجامعة وبين الحياة العملية بعد التخرج، وتساءلت كيف كنت سأفتح بيتا بمرتب لا يتعدى المائة والخمسين جنيها في الشهر ؟!

وتمنيت لها السعادة، وحمدت الله لأن فرع الشركة الذي أعمل به لم يكن به من صنف الحريم سوى امرأتين، أحدهما زوجة، والأخرى مطلقة لاتحمل من مؤهلات الجمال سوى اسمها، أما الباقي، فالبعد عنه أحسن .

ومضى عامان … ثم انتقلت إلى فرع آخر للشركة، في قلب العاصمة وذهبت إلى الفرع ينتابني فزع شديد، فقد كان الفرع الجديد ــ كما علمت ــ يضم من النساء مالا يقل عن الخمسين نصفهن من الآنسات .

ودخلت من باب الشركة وأنا أتعثر في خجلي كأني لم أكن ذات يوم في جامعة تضم آلاف الفتيات، كان إحساسي بالخجل ينبع من أنه قد طال عهدي بالبعد عن الفتيات ولا أدرى هل مازلت بعد قادرا على أن أعود كما كنت، لي شلة من الفتيات والفتيان، وهل مازلت قادرا على أن أتعامل معهن بعد ما كان من حبيبتي السابقة، وحتى تكتمل مصيبتي وجدت نفسي محشورا في مكتب يضم سبع من الزميلات، ولم يطل فزعي كثيرا، إذ اكتشفت أن من بينهن ثلاث كن معي في الجامعة. استقبلتني فاطمة بترحاب شديد وبسخرية أشد، إذ يبدو أنها لم تنس سخريتي الدائمة منها .

ومر اليوم الأول بعد أن قدمتني فاطمة لباقي الزملاء والزميلات وهى تسخر منى في كل لحظة، كأنها تنتقم لسنوات الجامعة، ولم أعد إلى البيت إلا بعد أعادتني فاطمة إلى أيام الجامعة أسخر منها وأداعبها، فتقبل على، ساخطة ثم راضية.

وفى الأيام التالية توطدت الصلات بيني وبين الزميلات، وعرفت أن خمسا منهن آنسات وبفضل فاطمة أصبحت معظم الفتيات في المكتب مثلها يسخرن منى وأسخر منهن، وتجمعنا ضحكة كبيرة ونفترق على ود، وتعجبت من نفسي، إذ سريعا ما أصبحت الفتيات بمثابة صديقات أعرفهن من زمن، حتى المرآتان المتزوجتان كانتا تقبلان على، تضحكان معي وتحكيان كأني صديق قديم. أما بقية فتيات الشركة فقد توقفت علاقتي بهن عند إلقاء التحية أو الكلام العابر فيما يخص أمور العمل، وعرفت بقية الزميلات بأمر قصة الحب الفاشلة، وضحكاتهن تجلجل وتملأ المكتب وأنا أحكى لهن كيف أهديت حبيبتي قصرية أطفال بعد أن زارتني في دكان الأدوات المنزلية الذي أعمل به عقب شجاري مع خطيبها وانبرت سعاد وفاطمة تحكيان كيف تلقى الزميل العريس علقة محترمة جعلت لي ولأصدقائي هيبة في وسط الدفعة و خاصة بعد أن نجونا بمعجزة من موضوع الفصل.

وهكذا وجدتني في وسطهن أعود إلى ذكريات الجامعة وأحدثهن عن الفرع الآخر للشركة، وعن زميلتي المطلقة ذات الاسم الجميل فقط، وأمل تطلق ضحكاتها تزلزل جدران المكتب

وأصبحت أيامي في المكتب متشابهة، كثير من العمل وكثير من الضحك، لا يخلو الأمر من مشادة أو مشكلة نتيجة ضغوط العمل، لكننا سريعا ما نعود إلى ضحكاتنا الكبيرة، ونجمع أموالا ونشترى طعاما، تصور لقد اشترينا يوما فسيخا وأكلناه في المكتب، اشتراه لنا الأستاذ عبد الودود وتحمل وحده تقريع وتأنيب مدير الشركة، بعد أن فضحتنا الرائحة الجبارة والأستاذ عبد الودود يهمس في أذني :

 ما رأيك في أمل ؟

 جميلة محترمة

 لماذا لا تخطبها ؟

 إن صوتها عال، وضحكتها بلا كنترول

وظننت أن الأمر سيتوقف عند أمل ولكن زملائي المتزوجين راحوا يرشحون لي كل فترة عروسا من بين فتيات الشركة. ولم أكن أفكر في الزواج، لم تكن بينهن من تستطيع أن تدفعني إلى هذه الخطوة، الكثيرات منهن لا يعيبهن شىء. أدب وجمال، وخفة ظل وعائلة محترمة، ولكن العيب فيَّ. لم أستطع أن أحب واحدة منهن، فأنا صاحب مبادئ وأهم مبدأ أؤمن به أنه لا زواج بلا حب. كنت أؤمن بقول تشيكوف : «الزواج بلا حب، كالعبادة بلا إيمان» ولهذا كنت أراهن جميعا زميلات، لا أكثر، نضحك معا ونتشاجر معا، لكنني لا أحبهن ــ لا أحبهن بالمعنى الذي تفهمونه ــ لكنى أحبهن كأخواتي البنات. لا يمكن أن يكون بيني وبين إحداهن أكثر من ذلك وإن غازلت واحدة، فأنا أغازل أختي.قلت لسارة وهى تبحث عن السكر: - يكفى أن تضعي طرف إصبعك في كوب الشاي .

واحمر وجهها وغادرت المكتب. ولم أشعر بأني فعلت شيئا إلا أنني داعبت أختي. وأحببت اللعبة، ولم أعد أسخر منهن فقط ولكني أغازلهن فيضحكن، ويخجلن، لكنهن لا يغضبن والأستاذ عبد الودود يزن في أذني :

 ما رأيك في سناء، أدب وأسرة

 لو أنجبنا طفلا سوف نرميه

كانت سناء أسود من فحم المغارة، وكانت بشرتي أفتح منها قليلا !! ولا أدرى هل كان الأستاذ عبد الودود يسخر منى أم أنه كان جادا

ولم أشغل نفسي كثيرا بأمر جديته أوسخريته، ولم أتساءل هل ستقبل سناء أو غيرها الارتباط بي أم لا، فقد كنت مشغولا بأمور أهم، كنت مشغولا بالقراءة والكتابة والكمبيوتر وأشياء أخرى. وكل يوم يحدثونني عن فتاة وأبحث في وجهها عن شىء. وأعود لهواياتي، ويظنون أنني أنظر إلى فوق ويقولون :

 ما رأيك في ابنة مدير الشركة ؟

وأبحث في وجهها عن شىء، وأعود لهواياتي، ويتهمونني ويسخرون منى لم يعد الزملاء الرجال وحدهم يسخرون، لكن زميلاتي أيضا يسخرن منى، همست أمل في أذني : أنت معقد وقالت فاطمة : اذهب إلى شيخ، فربما كان معمولا لك سحر، حتى أولئك اللاتي كنت ألقى عليهن التحية فقط، سمعتهن يسخرن منى، والأستاذ عبد الودود يشير من طرف خفي إلى أنني مغرور

وبعد عامين بات لدى الزملاء اقتناع تام، بأنني لا أفكر في الارتباط بواحدة من فتيات الشركة وأصبح أملهم معقودا على التعيينات الحديثة، وكلما سمع أحدهم بأن فتاة تم تعيينها في الشركة، يدور الحوار حول هذه الفتاة ونرسم لها صورة قبل تسلمها العمل، ولم أكن العزب الوحيد في الشركة كنا خمسة، وكان يحلو لنا أن يرسم كل منا صورة للفتاة القادمة، وكثيرا ما كانت الصورة الجميلة التي نرسمها تذهب أدراج الرياح. قالوا إن واحدة تعيين حديث اسمها نرمين سوف تتسلم العمل الأسبوع القادم، وكعادتنا رسمنا لها صورا شتى، واستقر رأينا على أنها ستكون: شابة بيضاء قصيرة ترتدي منظارا طبيا، رشيقة متزنة، تفور بالصحة والعافية فأخوها طبيب

وجاءت، كانت قصيرة بيضاء، ترتدي منظارا طبيا، لكنها فوق الأربعين، وحين تسلمت صفاء صفاء العمل أدركنا أن المنصورة ليست كلها فتيات جميلات كما يشاع. وعدت من إجازة قصيرة، ليحدثني الأستاذ عبد الودود عن زميلة جديدة تسلمت العمل، ولم يدفعني الفضول لرؤيتها فأمامي أيام كثيرة سأراها فيها، كما أنني أعرف ذوق الأستاذ عبد الودود وبعد يومين رأيتها، وبحثت في وجهها عن شىء، ووجدته، وسألت عنها إنها جادة جدا، وكعادتهم همس الزملاء في أذني، وأعدت عليهم الأسطوانة التي أحفظها :

 إنني لا أفكر في الزواج الآن

وكنت كاذبا، فأنا أفكر ونصف، ووجه صاحبتنا كما رأيته أول مرة، جادا لا يدعوك إلى إلقاء التحية. وألقيت التحية، وجاءني الرد جادا

كانت مختلفة، كانت تقرأ، تقرأ كما لم أر من قبل. تقرأ في الأدب والدين والمعلومات العامة وأحاول أن أمد الجسور بيني وبينها. أقول: يافلانة، فتقول: يا أستاذ فلان، فأعود، وأقول: يا أستاذة فلانة، وأحدثها عن متاعب العمل وهمومه، فتقول وهى تضحك : ياكشى تولع وأرى ملامحها الجادة، وإخلاصها في العمل، فأفهم أن جملتها تعني: فلنعمل بجد وليكن ما يكون وأحببتها، أحببتها، لأنني وجدت في وجهها شيئا كنت أبحث عنه، أحببتها، لأنها تقرأ، ولأنها تعمل كثيرا وتضحك قليلا. وخرجت من الحمام ذات يوم وأنا نصف عار لأقول لأخواتي البنات :وجدتها، وعرفت من صديقتها المقربة أنها غير مرتبطة ولم أشك لحظة في أنها ستختارني كما اخترتها، فأنا أيضا أحب القراءة، وأنا مثلها صاحب مبادئ، واحترم جملتها: ياكشى تولع وقلت لها: أريد أن أخطبك. هكذا بدون مقدمات. وردت بعد يومين بأنها لا تفكر في هذا الموضوع، وجن جنوني !! كيف ترفضني، وأنا مثلها !! أقرأ في الدين والأدب والمعلومات العامة وأخلص لمبادئي، مثلها ؟!! كيف لا تفكر فيَّ، وأنا أعشق وجهها الجاد وضحكتها الصافية، وهى تقول ياكشى تولع .

كيف ترفضني، وأنا منذ سنوات أرفض الفتيات من أجلها؟! وذهبت إلى أبيها أطلب يدها وجاء الرد على لسانها

 لنكن زملاء

لست أدرى كم من الوقت سيكون قد مضى حين تقرأ أنت هذه القصة ولكن على حسب ساعتي مر ثلاثة أعوام، ولم أعد أسخر من أحد، أما هي فمازالت جادة، تتمسك بمبادئها

وما زالت تقرأ، وكل ما فيها ينظر إلى وجهي في تحد ساخر، ويقول:
 ياكشى تولع [1]


[1بلهجة أهل الصعيد، تفيد اللامبالاة، وعدم الاهتمام، أو بمعنى: ولا يهمك. ومعناها الحرفي: أنا لا اهتم، حتى لو احترقت وحلت بك مصيبة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى