الأحد ٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم رانية عقلة حداد

4 أشهر 3 أسابيع ويومان

إنسان المرحلة يشبهها

سمكتان تسبحان في حوض مائي ضحل وصغير يستقر على طاولة أمام نافذه غرفة تشغل منتصف الكادر في لقطة متوسطة، حركة السمك في المساحة المحدودة، والدخان المتصاعد من سيجارة على طرف الطاولة، والصمت الثقيل يكسره صوت ضربات الساعة جميع هذ الأمور تذكي التوتر في هذا المشهد، بالإضافة إلى الكاميرا غير المستقرة والمهتزة عندما تنسحب قليلا إلى الخلف بعد اكثر من عشر ثواني، فتكشف عن وجود غابيتا (لاورا فاسيليو) التي تدخن بقلق منتظرة شيئا ما من الجهة المقابلة، وبعد ثواني من الترقب يأتيها صوت اوتيليا (اناماريا مارينكا) من خارج الكادر لتبلغها بانها موافقة... بعد أن تشكرها بهدوء تنهض غابيتا لتستكمل اعداد حقيبة السفر.

بهذا المشهد الافتتاحي يبدأ الفيلم الروماني "4 أشهر و3 أسابيع ويومين"، اخراج (كرستيان منجيو)، ليضعنا في جو من غموض وترقب واضطراب وقلق يشبه شخصيات الفيلم، المتأثرة بالجو العام المحيط الذي يعود إلى منتصف ثمانينات القرن الماضي، عهد النظام الشيوعي في رومانيا، والذي يعد الاجهاض واحد من جملة الأمور التي يحظرها هذا النظام ويعاقب عليها بالسجن، هذا ما يشرح الجو المتوتر الذي يسود الفيلم، كما أن عدم الإفصاح حتى منتصف الفيلم تقريبا عن الامر الذي وافقت عليه اوتيليا وباشرت بتحضيره، يضاعف من الاحساس بالغموض والسرية.

غابيتا واوتيليا طالبتان جامعيتان وصديقتان تشتركان بالغرفة نفسها في السكن الجامعي، غابيتا متورطة بحمل غير شرعي، فتود التخلص من الجنين وبما أن الاجهاض محظور في رومانيا، يتطلب هذا الالتزام بسرية تامة تكفل حمايتها من السجن من جهة، وتفرض حالة توتر وخوف من افتضاح الامر من جهة اخرى، وتتفق مع شخص يدعى بيبي ليقوم باجهاضها في احدى غرف فندق آمن اعتاد بيبي التعامل معه، ثم تسأل اوتيليا أن تساعدها في انجاز الامر بسرية، وباقتراض مالا اضافيا لتغطية تكلفة العملية برمتها.

كباقي الأفلام التي تدور احداثها خلال يوم واحد، كذلك "4 أشهر3 أسابيع ويومين" إذ من شأن ما يحدث في طيات هذا اليوم أن يعصف بحياة البطل ليشكل نقطة تحول، فتتغير حياته بين ليلة وضحاها إلى غير رجعة، فماذا حصل ل اوتيليا في ذلك اليوم؟

أن كانت الاحداث تدور حول اجهاض غابيتا بسرية، إلا أن الدور الرئيسي تلعبه اوتيليا اذ تحمل على عاتقها مساعدة صديقتها وتسهيل ما يلزم لانجاز الامر، فتذهب لاقتراض النقود من حبيبها آدي من الجامعة، ثم تذهب إلى الفندق الذي من المفترض أن تكون غابيتا قد حجزت فيه، لتكتشف أنهم لا يأخذون بحجز غابيتا على الهاتف، بعدها تحجز في فندق اخر لكن بسعر اعلى، ثم تذهب لإحضار بيبي، وتطلب من غابيتا أن تلاقيهما في الفندق.
لن تسير الأمور على ما يرام بعد أن يدرك بيبي عدم التزام غابيتا بشروط الاتفاق بينهما، بداية وجود اوتيليا الذي يوسع من دائرة العالمين بالموضوع مما اثار غضبه وارتيابه، ثم تغيير الفندق الآمن المتفق عليه، وادعاء غابيتا بان اوتيليا اختها، إلى عدم توفير مقابل مادي مناسب، فما أن يلتقي ثلاثتهم في غرفة الفندق، حتى يؤنب بيبي غابيتا على عدم التزامها بالاتفاق، ويمن عليها بمخاطرته بحياته، ويباشر باسلوب ابعد ما يكون عن التعاطف الإنساني، باعطائها تعليمات محددة ما أن تعرضت لأي مضاعفات جراء وضع الأنبوب المؤدي إلى الاجهاض بداخلها، وتتصعد الأمور عندما يكتشف بعد فحصها أنها حامل باربعة أشهر وليس بشهرين كما كانت قد أعلمته، وأخلاق التاجر التي يحملها بيبي جعلته بعد ذلك يرى في عملية الإجهاض تلك صفقة خاسرة غير مجدية، مما دفعه إلى التهديد بالانسحاب أو دفع مبلغ يتلاءم ومقدار المخاطرة التي قد تودعه السجن، لكن الفتاتين لا تملكان المال الكافي، وبيبي بطبيعة الحال ليس بذلك الطبيب الملاك، فحاولت اوتيليا أن تصل معه إلى حل بتأجيل الدفع، لكن لا شيء يحتمل التأجيل مع نذالة بيبي، فما كان إلا أن بذلت اوتيليا كل نفسها من اجل صديقتها غابيتا الغارقة في انانيتها، وكان جسدها هو الثمن ثم جسد غابيتا من بعدها.

ماذا بعد أن بذلت اوتيليا جسدها؟ وما الذي يجبرها على كل هذا الالم... وعلى دفع ثمن اخطاء غابيتا؟ هل هي الصداقة؟ في المقابل هل كانت غابيتا ستقدم كل هذه التضحيات من اجلها؟

عندما غادر بيبي وبعد حوار قصير بين اوتيليا وغابيتا، ساد صمت جعل اوتيليا تدرك أن صديقتها قد خذلتها واستغلتها وكذبت عليها، وهذه من اللحظات القليلة التي يستخدم فيها المخرج لقطة قريبة تُظهر اوتيليا في لحظات الصمت والتأمل ثم الحوار دون أن نرى ردود افعال غابيتا، لاهمية لحظة الاكتشاف هذه بالنسبة لاوتيليا، والتي ستشكل نقطة انعطافها، لا في قطع العلاقة مع غابيتا لكن في الكيفية التي ستنظر فيها إلى الحياة بعد ذلك.

تواصل اوتيليا الانتقال من خيبة امل إلى اخرى، ومن محك إلى اخر جعل علاقة الاخرين بها موضع عدم ثقة، فمن حبيبها آدي الذي اكتشفت عدم استعداده لتحمل أي مسؤولية ما أن كانت هي الحامل، إلى اهله واصدقائهم فالحياة باسرها.

ربما لهذا كان عليها أن تضحي، لان تلك التضحية كانت عتبتها لمعرفة واكتشاف الحياة والعلاقات الإنسانية من جديد، والالم هو الثمن الطبيعي لهذا النوع من المعرفة.

إنسان المرحلة يشبهها

الفيلم الروماني "4أشهر 3أسابيع ويومين" انتاج 2007، يستحضر من الذاكرة الفيلم الايطالي "المغامرة" انتاج 1960 للمخرج مايكل انجلو انطونيوني، المنتمي إلى تيار الواقعية الايطالية الجديدة النقدية، فاذا كان الاخير يكشف تركيبة الإنسان الحديث ومقدار الوحدة والعزلة التي يحياها، فان الاول يكشف تركيبة إنسان المرحلة الشيوعية والوحدة والعزلة التي يحياها في ظلها، فان يبدو للوهلة الاولى أن الفيلم يتحدث عن معاناة غابيتا في التمكن من الاجهاض سرا في ظل نظام يحظر هذه العملية، لكنه في حقيقة الامر، يتحدث بشكل اوسع عن إنسان تلك المرحلة قبل سقوط جدار برلين الذي نستدل عليه من مكان وزمان الحدث، بالإضافة إلى بعض التفاصيل اليومية الصغيرة؛ كالدخان والصابون ومستحضرات التجميل التي تباع في السوق السوداء في سكن الطلاب الجامعي الذي تسكن فيه بطلتا الفيلم غابيتا واوتيليا، وبما أن الشخصيات وقيمها هي انعكاس لمجتمعاتها، فتصبح القسوة الخداع والكذب والانانية... قيم تلك المرحلة، والوحدة والقلق والتوتر وعدم الثقة مشاعر إنسان تلك المرحلة، وكما ينتقد انطونيوني سخافة الطبقة البرجوازية في ايطاليا، كذلك منجيو ينتقد سخافة الطبقة المتعلمة في رومانيا، التي تجلت في مشهد عيد ميلاد أم آدي –حبيب اوتيليا- حيث على مدار سبع دقائق نستمع لمشاغل واحاديث افراد النخب المتعلمة الفارغة، لا شيء سوى الاكل والثرثرة والاستعلاء على غير المتعلمين، ويوظف المخرج لقطة واحدة طويلة ثابتة بكاميرا مهتزة على مدار السبع دقائق - مدة المشهد- لتشعرنا بالملل من احاديثهم، وبغربة اوتيليا التي يتم تجاهلها في وسطهم.

عالقون في المكان

قد تعمد المخرج في فيلمه هذا تعطيل السمات المميزة للسينما، واعادتنا إلى زمن المسرح المصور في الاسلوب، حيث اغلب الأحيان الكاميرا ثابتة في زاويتها مع استخدام التقطيع والانتقالات المونتاجية في حدها الادنى والاعتماد بشكل رئيسي على اللقطة الواحدة- اللقطة المشهد- الواسعة غالبا، والطويلة زمنيا؛ قد تستغرق سبع دقائق في بعضها، كذلك استخدام الحد الادنى في التنويع في احجام اللقطات، ومن زوايا التصوير فلا تظهر وجهات نظر ابطاله، كما أن الكاميرا كانت ثابتة في مكانها لكنها مضطربة في اهتزازها.

يأتي اسلوب الفيلم هذا ليوازن بين العقل والعاطفة أو الاحساس، فمن ناحية يجعلنا نتوحد كمشاهدين مع ثبات الكاميرا لنشعر باننا مكبلون... نشهد دخول الاشخاص، حركتهم داخل الاطار، ثم خروجهم بينما نحن عالقون في المكان، والشخصيات المفترضة على الشاشة تمتلك حرية لا نمتلكها نحن كمشاهدين، واهتزاز الكاميرا مع غياب زاوية وجهة نظر الابطال، يجعلنا نختبر حالة الإنسان المضطرب في ظل النظام الاشتراكي الصارم والجامد الذي يختفي فيه تعدد وجهات النظر، فليس سوى زاوية واحدة للنظر وثبات قاتل، مقابل هذا الاحساس يمنح المخرج عقلنا فرصة للتفكير والتأمل، من خلال ايقاع الفيلم الهادئ، وبخلق مسافة بيننا وبين عناصر وشخصيات الفيلم داخل الكادر، فنحافظ على نظرة موضوعية اتجاهها من خلال غياب زوايا وجهات نظر الشخصيات الذاتيه، وبتوظيف لقطات بعيدة ومتوسطة تغلب على اسلوب الفيلم، وتمنعنا معها من الدنو من وجوه ومشاعر الشخصيات الداخلية فلا نتعاطف معها، أو نتبنى مواقفها، فالمخرج لا يريدنا أن نندمج عاطفيا مع شخصيات الفيلم انما أن نختبر الشعور الذي يفرضه وجود النظام الاشتراكي في رومانيا على إنسان تلك المرحلة.

يحاول الفليم أن يقارب الواقع في اعتماده على الاضاءة الموجودة في المكان مسبقا مثل؛ الكريدورات والشوارع المظلمة والتي نخوض فيها مع البطلة ذات الشعور بالخوف من ارتياد المجهول، كذلك الابقاء على الضجيج، والمؤثرات الصوتية الطبيعية للاماكن العامة، والاستغناء عن الموسيقى التصويرية، وهذه بعض الأمور التي تتقاطع مع قواعد الدوغم95، التي تسعى إلى تخليص السينما من أي زخارف واضافات أو مؤثرات صوتية وبصرية.

رغم الأسلوب الذي يقترب من المسرحي – المقصود- إلا أن الفيلم لا يفقد القدرة على شد المشاهد، بفضل اداء الممثلين المتميز على وجه الخصوص اوتيليا (اناماريا مارينكا)، كما أن مساحات الصمت الكبيرة في الفيلم، لعبت دورا يفوق في اهميته الصوت والحوار في ايصال الفكرة والاحساس بالتوتر والقلق والترقب والحزن واللألم.

كما اسلفت قد يبدو أن الفيلم يتحدث عن الاجهاض لكنه يتحدث عن كل شيء إلا الاجهاض، فهو يأخذنا بعيدا عن تقيم الاجهاض اخلاقيا، لنتأمل العلاقات الإنسانية؛ الصداقة والحب والثقة، والحياة في ظل الفكر الشيوعي والنظام الاشتراكي، الذي يُضيق على الإنسان هامش الحرية، تماما كالسمكتين اللتين تسبحان في ماء ضحل في المشهد الافتتاحي من الفيلم وعلى خلفية الحوض هناك صورة باهتة وغريبة لمدينة.

"4 أشهر و3 أسابيع ويومين" الذي قد يشير في عنوانه إلى عمر الجنين، يكتسب مستوى اخر من الدلالة، فهو تجربة النظام المراد اجهاضه والتخلص منها نهائيا ليصبح في طي النسيان، فبعد أن تلقي اوتيليا الجنين في النفايات وتعود إلى صديقتها في الفندق، ينتهي المشهد الاخير وهما جالستان على طاولة المطعم، فتسأل غابيتا اوتيليا: هل دفنتيه؟

فتجيبها: هذه اخر مرة نتحدث فيها عن هذا الموضوع؟

الفيلم بصورته القاتمة امتدادا لأفلام الواقعية الايطالية الجديدة النقدية، التي تعرض الواقع بقيم وسلوك افراده لتنتقده.

إنسان المرحلة يشبهها

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى