الأحد ٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
أغار على شمسي أو
بقلم إبراهيم مشارة

الحنين إلى الأوطان في شعر المهجريين

إذا كان لمصر فضل السبق في تجديد أدبنا العربي وبعثه في حلة قشيبة، موفور الصحة، تام العافية، فقد كانت أرض الكنانة منذ عصر الفاطميين قبلة العالم العربي الثقافية والدينية، ففيها وجد أدباء الشام الحرية والمناخ الملائم للإبداع والنشاط الخصب ونذكر على سبيل المثال-لا الحصر- جرجي زيدان ويعقوب صروف ومي زيادة وغيرهم ولمطبعة بولاق فضل لا ينكر ومزية لا تجحد في نشر الأدب والثقافة وتعميم نورهما على العالم العربي الخارج لتوه من ظلمات العصور الوسطى، المستفيق من سبات عميق حجب عنه نور العلم وثمرة الفكر وإشعاع الحرية، وكيف يجحد فضل مصر وثلاثة من كبار شعرائها هم الذين أحيوا الشعر العربي؟ ونقصد البارودي وشوقي وحافظ، وثلاثة من كبار كتابها هم الذين بينوا الطريق الصحيح للأدب ووجهوا الناشئة إلى دروب الإبداع حسب المقاييس الفنية؟ ونقصد العقاد وطه حسين وإبرهيم عبد القادر المازني.
على أن مصر لم تكن في المضمار فريدة فالشام رديفتها وصنوها في التجديد والإحياء ورسم معالم النهضة الأدبية الحديثة ولعل هذا ماعناه شاعر النيل- حافظ إبرهيم- حين قال:

لمصر أم لربوع الشام تنتسـب

هنا العلا وهناك المجد والحسب

ركنان للشرق لازالت ربوعهما

قلب الهلال عليهما خافق يجب

خدران للضاد لم تهتك ستورهما

ولا تحول عن مغناهـما الأدب

أيرغبان عن الحسنى وبينهـما

في رائعات المعالي ذلك النسب؟

فأدباء الشام- سورية ولبنان- لهم في التجديد اليد الطولى وتحديدا أولئك الذين قست عليهم الحياة في وطنهم وشظف عيشهم بعد أن جف الضرع واستعصت سبل الرزق، وتأسن الوضع السياسي بفعل البطش العثماني، فلم يكن أمامهم من باب يطرقونه غير باب الهجرة، ولامن سبيل يلوذون بها غير سبيل الفراق أملا في عيش رغيد وحرية يتعشقونها ومناخ رياحه لواقح وتربته بليلة تستنبت بذور الفكر والأدب.
وإنها لمنة نحمدها للأقدار ورب ضارة نافعة، فقد كانت تلك الهجرة فأل خير وبشرى بأدب حي وفكر صحيح وضمير صاح، ولسنا في حاجة إلى أن نذكر بقول شاعرنا أبي تمام:

وطول مقام المرء بالحي مخلق

لـديباجتيه فـاغتـرب تتجـدد

فإني رأيت الشمس زيدت محبة

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

فهذان البيتان من محفوظاتنا المدرسية أتينا على ذكرهما لمجرد الذكرى – والذكرى تنفع المؤمنين-.
وإذا ذكر أدب المهجر تبادر إلى الذهن جماعة الرابطة القلمية في المهجر الشمالي- أمريكا- والعصبة الأندلسية في المهجر الجنوبي- البرازيل والأرجنتين-.
وأهل الشام -أحفاد الفنيقيين- معرفون بارتياد البحار واصطياد الشمس والكمون للقمر تجري المغامرة في عروقهم مجرى الدم أو كما قال شاعر النيل عنهم:

بأرض "كولمب" أبطال غطارفـة

أسد جياع إذا مـاووثبوا وثبوا

رادوا المناهل في الدنيا ولووجدوا

إلى المجرة ركبا صاعدا صعدوا

أو قيل في الشمس للراجين منتجع

مدوا لها سببا في الجو وانتدبوا

سعوا إلى الكسب محمودا وما فتئت

أم اللغات بذاك السعي تـكتسب

ولقد اغتنت أم اللغات بتلك الهجرة الميمونة بالشعر الصافي السلس المنبجس من الوجدان ومن الفكر الحي الصحيح الملقح بالتجارب الغربية حيث الصناعة والعلم والديموقراطية والحرية ودور المرأة الحي الفاعل في المجتمع، وهذا مانجد صداه في أدب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وآل المعلوف وجورج صيدح وأمين مشرق وميشال مغربي وعبد المسيح حداد وجورج صوايا وغيرهم ممن يضيق هذا المقال عن حصرهم.
إنما الذي يعنينا في هذا المقال كيف كان الحنين إلى الوطن وإلى الأم وإلى الحبيبة وإلى الشلة وإلى ذكريات العيد، ومرابع زحلة وشواهق صنين ونواعير حماة وخرير بردى سببا في هذا الإبداع الخالد المستل من الوجدان، المكتوب بدم الفؤاد، الممهور بشهقة الروح الفاعلة الخلاقة.
إن الانسان حين يهاجر يصاب بالفصام كل حسب استعداداته النفسية وطاقاته الروحية فقد تكونت شخصية المهاجر في وطنه، وتلونت روحه بأطياف الوطن من دين ولغة وعادات وطرائق معيشة بل ومناخ وتضاريس، فجاء فكره انعكاسا لمحيطه، ثم ترك وطنه للأسباب التي ذكرناها آنفا فإذا به فسيلة أو شجرة تزرع في تربة غير تربتها الأولى، إنها عادات جديدة وطرائق حياة مستحدثة وفلسفة في الحياة غير الأولى، والمهاجر مجبر على هضم هذا الموضوع وتقبله لينجح في حياته-المادية على الأقل- ولكنه في الواقع وفي غياهب اللاوعي تكمن عادات ولغة وأسلوب معيشته الأول في الوطن الأم هنا تتجلى المعاناة وتتضخم المأساة، وتتشظى الروح فنجد أشلاءها فيما أنتجه أولئك المهاجرون من شعر ونثر هو الدم والدمع بالنسبة لأصحابه وإكسير البهاء والنقاء لأدبنا الذي غفا في كهف السجع والتورية وشعر المناسبات،
وأدب الرسائل الإخوانية المتسمة بالرياء المتسربل بالوقار والكذب المتشح بوشاح الوفاء بالعهد إنها معاناة روحية وجودية وضعت صاحبها بين مطرقة الضرورة وسندان الحبيب الأول(الوطن). على حد قول شاعرنا:

كم من منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينـه أبدا لأول مـنزل

ونحن في هذا المقال راصدون أشتاتا من تلك المعاناة المتجلية في الحنين إلى مراتع الصبا وحضن الأم وسماء الوطن فيما أنتجة أدباء المهجرين- الشمالي والجنوبي- لنرى كيف كان التجديد في الشكل حين ذابت الأصباغ وتلاشت المساحيق وفي المضمون حين قبر الرياء الماكر والتقليد الأعجم، والإنصراف عن الحياة وهموم الناس، وتطليق المسؤولية الأخلاقية للأديب في مغالبة الفساد ومصارعة الاستبداد وقهر الرجعية وقهر نرعة الردة إلى عصر المغارة.
إن حب الوطن والحنين إليه والوفاء له هو المطهر من الإثم الذي يشعر به الأديب إن أصاب حظا من النجاح المادي والمكانة المرموقة في مجتمعه الجديد، إنه اللاوعي يتخلص من عقدة الذنب التي تسللت إلى نفس الأديب لرهافة حسه ونبل ضميره وصفاء فكره.
وهاهو زكي قنصل الأديب السوري الذي ولد بيبرود عام 1917م وهاجرإلى الأرجنتين فهو من جماعة العصبة الأندلسية يحن إلى مراتع الصبا ومرابع اللهو في نضارة الطفولة إقرأ هذا المقطع وتذوق جماله الفني واستشعر شيئا من الأسى وقدر هذا الحنين من الشاعر إلى وطنه:
أيها الـعائدون للشام هلا

نفحة من شمـيم أرض النبوه

علم الله كم صـبونا إليها

واشتهينا تحت الـعريشة غفوه

وتحسس ألم الضلوع، وانظر عبرة الشوق تتحدر من المآقي، وقدر مافي هذا القلب من شوق ومن حنين:
يـاعائدين إلـى الـربوع

قـلبي تحـرق للـرجوع

نهنهتـه فـازداد تـحنانا

وعـربـد في الضـلوع

يـاعائدين إلـى الـحمى

قلـبي به عـطش وجوع

بـالله هـل في الـمركب

متسـع لملـهوف ولـوع

وحـزمت أمـتعتي فـيا

قلب ارتقب يوم الرجـوع

وهو يحسن وصف أوجاع الغربة وألم البعاد ومكابدة السهاد واسمعه يقول:

ويح الغريب على الأشواك مضجعه

وخبزه من عجين الهم والتعب

يعيش عن ربعه بالجسم مغتربا

وقلبه وهواه غير مغترب

يستقبل الليل لا تغفو هواجسـه

ويوقظ الفجر في ليل من الكرب

يعلل النفس بالرجعى ويخدعها

فهل تحقق بالرجعى أمانيه؟

أما نعمة قازان المولود في لبنان عام 1908م والذي استقر في البرازيل وكان من جماعة " العصبة الأندلسية فهو كصاحبه يذكر التحنان ويقاسي وجع الغربة ويتعشق عهد الطفولة ويتمنى لو تطأ قدمه أرض وطنه لبنان:
بـلادي أأستـطيـع نـكراها

إذن فاقلعوا الحب من بزرتي

ولـبـنان أمـي بـه حفنـة

سقـتك السـموات يـاحفنتي

وأهلـي ومـا أقـول بـأهلي

ومـاذا أقـول بمـحبوبـتي؟

أقـول بـقاع الـدنيا حـلوة

وأحـلى بـقاع الـدنيا بقعتي

وكـنت مـع الله فـي قريتي

فصـرت بـلا الله في غربتي

وكـنت غـنيا مـع الـقـلة

فصرت فقيـرا مـع الكـثرة

ولولا الحبيب وعودي الرطيب

رماني اللهيب إلـى الشـهوة

ولـولا الـرجاء بعـود الرجا

قـذفت بنفسي إلـى الـهوة

وفي شعر هذا الشاعر بعض الركاكة اللغوية والفقر الفني كقوله<وماذا أقول بأهلي، وماذا أقول بمحبوبتي؟>.
وفي شعر المهجريين وأدبهم بعض الإسفاف والكثير من ركاكة التعبير والخروج عن قواعد اللغة-على غير علم وبصيرة- وهو ما أخذه عميد الأدب العربي الدكتور -طه حسين- على كبيرهم الذي علمهم السحر إيليا أبي ماضي، ولكن يشفع لهم أنهم لم يتخرجوا من جامعة ولاترددوا على حلقات اللغة والأدب، وزد على ذلك حياتهم خارج أوطانهم يتكلمون بغير لغتهم وحسب المرء أن ينتج شيئا من هذا الشعر السلس الراقي ولسانه تعود على الكلام بغير لغته الشعرية.
إنما هي الموهبة والسليقة والكد الشخصي والعصامية والتعلق باللغة العربية والقدرة على قرض الشعر والاسترسال في النثر كانت العوامل الداخلية زد عليها هم الغربة ونكدها وحال الشرق وسباته هي التي حدت بهؤلاء إلى البروز في فن القول شعرا ونثرا.
وهاهو الشاعر حسني غراب الحمصي المولود عام 1899م يتحدث عن وطنه أجمل حديث كأنه كلام منتزع من سويداء القلب ومن بؤبؤ العين:

أبعد حمص لنا دمع يراق على

منازل أم بنا من حادثات هلع؟

دار نـحن إليـها كلـما ذكرت

كـأنما هـي من أكبادنا قطع

وملـعب للصبا نـأسى لـفرقته

كـأنه من سواد العين منتزع

وهذا شاعر آخر من فتوح كسروان اللبنانية شكر الله الجر والمقيم بالبرازيل والعضو في العصبة الأندلسية لايخفي تحنانه ولله ما أحلى ذكره لكلمتي الشيح والعرار وهما موحيتان بخصائص الريف الشامي وبلاد العرب عامة اقرأ معي قوله:

ذكـر الأرز بعـد شط مزاره

أي جـرح يسيل من تذكاره

ليس أشهى علـى القلوب وأندى

مـن شذا شيحه ونفح عراره

واقرأ معي هذا البيت الذي يذيب القلب ويقطع الكبد تحسرا فلئن يئس الشاعر من الأوبة إلى بلده فرجاؤه الوحيد أن يدفن في أرضه:
إن حـرمنا من نعمة العيش فيه

ما حرمنا من مرقد في جواره

أما قصة هجرته ومالاقى في سبيلها من لجاج النفس وشك الضمير وتردد العقل فقد وصفها أبدع وصف نكتفي منها بهذا المقطع:

ركـبنا من اليم طودايقل الـ

عـباد فـكل إلـى رغبـته

فـياله مـن مشـهد للـوداع

يـذيب الـحديد على قسوته

فـأم تـضم إلـى قـلـبـها

وحـيدا يـسير لأمـنيتـه

وأخ يكـفكف دمـع أخـتـه

وزوج يـرفه عن زوجتـه

فياليت شعري أيحظى المهاجر

فيما يـرجيه مـن هـجرته

وياليت شـعري أيلقىالمسافر

يـوما سبيـلا إلـى أوبته؟

أم أن اللـيالـي تـزري بـه

فتذرو الفتى الحر في تربته؟

فـلا أم تبـكي علـى قـبره

ولا أخت تسقي ثرى حفرته؟

وأما نعمة الحاج من غرزوز بلبنان والمقيم بالولايات المتحدة فيزيد على أصحابه السابقين في ذكر الحنين والوفاء للأهل والوطن هم الصحوة والبعث والتجديد في الحياة العربية أدبا وفكرا وأسلوب معاش:

مـا نـسـينا ويشـهد الله أنـا

نـحن بـالروح حيث كـنا

إن بـعدنـا وإن قـربنا فلبنـا

ن سنـاه يشع فينـا ومـنا

نـحن في الأرض أنجم ونسور

حلت الـعاليات برجاووكنا

هـذه الـنهضة الـحديثة منكم

قربت منذ نحن بالأمس بنا

قـد نـفحنا ببوقـها وأثـرنـا

نارها والعيون إذ ذاك وسنى

أيـقظتكم مـن الـكرى فهبتم

وأجـدتم تجديدها فهي أسنى

وازدهـى العمران والعلم والفن

تـراه الـعيون أكمل حسنا

أما شفيق المعلوف شقيق فوزي المعلوف الزحلاوي والمولود عام 1905م والمستقر في البرازيل ففي قصيدته "بين شاطئين" استهلال لموضوع الحنين بالحديث عن الوداع والعبرات وخفق الفؤاد:

ذراع مـلاق إثر كـف مودع

تلوحان لي كلتاهما خلف مدمعي

مناديل من ودعت يخفقن فوقهم

فـلا ترهقيهم يـاسفين واقلـعي

بـعدن فـغشاهن مـعي كأنني

أراهن من خلف الزجاج المصدع

ويزيد في هذه القصيدة وصفه لانبهاره بالعمران في أمريكا وبحضارتها:

خـليلي بدت جبارة المدن تزدهي

بأعظم ماازدانت به الأرض فاخشع

أدارت علـى الآفاق مشعل عزها

ومدت إلـى الشمس كـف يـوشع

وأعلت بروجا في الغمام رؤوسها

فما تظفر الحدثـان منـها بـمطمع

مـدينة جن جـود الإنـس نحتها

بـإزميـل جـبار وحكـمة مـبدع

ثم اسمعه يقول صادقا عن التحنان والوفاء:

أطـل عليكم والمنى تزحم المنى

بصدري وأنتم ملء قلبي ومسمعـي

لـئن تسألوا مافي الجنوب فإنني

حـملت إلـيكم قـلبه خافقا مـعي

ويختم ذلك كله بالمهمة الموكلة إلى أصحابه في بعث الأدب العربي وإحياء لغته:

وإن لـواء نـحن قـمـنا نـهزه

خـفوقا على حصن البيان الممنع

لـواء ظـفرتم أنـتم بـاكتسابه

ونـحن ركزنـاه بـأرفع موضع

ولا شك أنه يعني بقوله "ظفرتم أنتم" أدباء مصر وهو ما أشرنا إليه في بداية المقال.

وأما مسعود سماحة المولود في لبنان عام 1882م والمستقر في أمريكا فإن حنينه لوطنه ووفاءه له أنطقه بهذين البيتين وهما دعوة إلى الثورة ومقاومة الاستبداد اسمعه يخاطب أهل لبنان:

مشت القرون وكل شعب قد مشى

مـعها وقومك واقفون ونـوم

لـم تـرتفع كف لـصفعة غاشم

فـيهم ولـم يـنطق بتهديد فم

وأما رشيد أيوب المعروف بالدرويش والمولود في نفس قرية ميخائيل نعيمة "بسكنتا" بلبنان عام 1872م والذي استقر في الولايات المتحدة ففي قصيدته المسافر يذكر المخاطرة والهجرة والآمال:
دعتـه الأمـاني فخلى الربوع

وصار وفـي الـنفس شيـئ كثيـر

وفي الصدر بين حنايا الضلوع

لـنيـل الأمـانـي فـؤاد كـبيـر

فـحث المطايا وخاض البحار

ومـرت لـيـال وكـرت سـنون

ولم يرجع

ويعد الشاعر القروي رشيد سليم الخوري المولود ببربارة بلبنان عام 1887م والذي عاش في البرازيل أمتن شعراء الجنوب لغة وأقدرهم على التصرف في القريض وأجودهم في تخير اللفظ الموحي بمرارة الغربة ووحشة الأمل وأمل العودة واقرأ معي هذا المقطع من قصيدة عند الرحيل:
نـصحتك يـانفس لا تـطمعي

وقلت حذار فلم تسمعـي

فـإن كـنت تستسهلين الـوداع

كمـا تدعين إذا ودعـي!

خـرجت أجرك جـر الكسيـح

تئنين في صدري الموجع

ولـما غدونـا بنصف الطريق

رجعت وليتك لم ترجعي

كفاك اضـطرابا كصدر المحيط

قفي حيث أنت ولاتجزعي

سأقضي بنفسي حقـوق العـلى

وأرجع فانتظري مرجعي

وما أجمله من إيحاء حين يذكر تركه لروحه في وطنه الأم وحمل جثته إلى المهجر.
ويأتي بعد القروي في متانة اللغة وجودة السبك والتصرف في القول إلياس فرحات من كفرشيما في لبنان والمولود عام 1893م والذي أقام في البرازيل ولعل هذا المقطع هو من أشهر أشعاره تغنى بها المشرق والمغرب عن وحدة العرب:

إنـا وإن تـكن الشآم ديـارنا

فقـلوبـنا للـعرب بـالإجمال

نهوى العراق ورافديه وماعلى

أرض الجزيرة من حصا ورمال

وإذا ذكرت لنا الكـنانة خلتنا

نـروى بسـائغ نيلـها السلسال

بـنا ومـازلنا نشاطر أهـلها

مـر الأسـى وحـلاوة الآمال

أما جورج صيدح الدمشقي والذي أقام في الأرجنتين فلله ما أحلى حديثه عن حنينه إلى دمشق ووفائه لها وألم البعاد عنها:

أنـا وليدك يـا أماه كـم مـلكت

ذكراك نفسي وكم ناجاك وجدان

منذ افترقنا نعيم الـعيش فـارقني

والـهم والـغم أشكـال وألوان

عهد الشباب وعهد الشام إن مضيا

فكل ما أعطت الأيـام حرمـان

وفي قصيدته "المهاجر" وصف للمعاناة النفسية وتباريح الجوى:

كـيف يرتـاح وتذكار الحمى

كـلما أقعده الـجهد أقامه؟

بـرجه الـعاجي مـن يقطنه

إنـه يقطن بالروح خيامـه

ويبـعث الـمال سلاما للحمى

فالحمى بلا مال يأبى السلامه

قـل لـمن يحميه فـي غربته

إن مـن أعدائه اللد غـرامه

أما مايلاقيه الفذ من ازدراء في وطنه وتقدير في غيره فقد عبر عنه أجمل تعبير:

رب أحجار بها الشرق ازدرى

أصبحت في حائط الغرب دعامه

أما الشاعر المصري الكبير أحمد زكي أبو شادي (1892-1955م) والذي استقر في أمريكا وكان من مؤسسي جماعة أبولو التي جددت في الأدب خاصة الشعر منه وعرفت هذه المدرسة برومنطيقيتها فقد خاطب أمريكا –وطن الحرية-قائلا:

لـجأت إلـيك يـاوطنا تغنى

بـه الأحـرار واعتز الـنشيد

فـإنك منبري الحـر المرجى

وبدء نهاري بل عـمر جـديد

وقد كان نزوح أحمد زكي أبي شادي إلى أمريكا هروبا من استشراء الفساد وتعفن الوضع السياسي وانعدام الحرية ولكنه في غربته في العالم الجديد يحن إلى وطنه فاسمعه يقول:

بكى الربيع طروب في مباهجـه

وقد بكيت أنا حبـي وأوطانـي

أنا الغريب وروحي شاركت بدني

هذا العذاب بأشواقي وأحزانـي

لي في ثرى مصر دمع نائح ودم

أذيب من مهجتي اللهفى ونيراني

تركته مثل غرس الحب ما ذبلت

أزهاره أو أغـاثت روح لهفان

أشمها في اغترابي حين تلذعني

ذكرى الشباب وذكرى عمري الفاني

واسمع معي ميشال مغربي المغترب في ساوباولو يتأسف على عمره الضائع هدرا في بلاد الغربة وينصح شباب العرب بالبقاء في أوطانهم:

وأناالذي باع الشبيبـة خاسرا

بجلاده وجهاده المتوالـي

أثر النضال على الجبين ترونه

ما الاغتراب سوى حياة نضال

شطر المهاجر لاتولوا أوجها

كالخاسرين ربوعهم أمثالـي

أوطانكم أولى بكم و بسعيكم

وبما ملكتم من كريم خصال

ولأنتمو أولى بطيب هوائها

وجمالها المزري بكل جمال

ويأتي إيليا أبو ماضي المولود بقرية "المحيدثة" بلبنان عام 1889م والذي استقر بأمريكا وكان من الأعضاء المؤسسين للرابطة القلمية في طليعة الشعراء الذين تغنوا بالأوطان ووصفوا الحنين إليها ولوعة البعد عن الخلان، واستذكروا عهد الصبا واقرأ معي هذا المقطع يخاطب لبنان ويناجيه:

وطـن النجوم أنا هنـا

حـدق أتذكر من أنا ؟

أنـا ذلك الـولد الـذي

دنيـاه كـانت هـاهنا

أنا مـن مـياهك قطرة

فاضت جداول من سنا

كم عانقت روحي رباك

وصـفقت في المنحنى

وما أجمل قوله لوطنه لبنان يعتذر له فيه عن البعد عنه ويتعلل لذلك بركوب الأخطار والطموح إلى المعالي والنزوع إلى الأمجاد:

لبنان لا تعدل بنيك إذا هم

ركبوا إلى العلياء كل سفين

لم يهجروك ملالة لكنهم

خلقوا لصيد اللؤلؤ المكنون

لما ولدتهم نسورا حلقوا

لا يقنعون من العلا بالدون

إذا فقد كانت الغربة وتباريحها مهمازا للقريحة وجناحا للتحليق في سماء الخلق الفني وقد استفاد أدبنا العربي من هذه الغربة فتجدد وجهه وازدان بهاء ورونقا، وأصبح الشعر على يد هذا اللفيف من الشعراء تعبيرا عن الوجدان، ووصفا لخلجات النفس وخفقات الفؤاد، بلغة صافية رقراقة متخلصة من أصباغ التكلف وطلاء التصنع، متعالية عن الحذلقة البيانية والبهلوانية الانشائية، وفي هذا الأدب كثير من السقطات وسفاسف القول ولكنها لا تلغي أهمية هذا الأدب بل تجعل أدباءه في الطليعة، مع أدباء المشرق الذين تعاونوا يدا بيد ويراعا بيراع وتزاوجت خفقات قلب بقلب، وخلجات نفس بنفس، وطموح روح بروح على إخراج أدبنا من سبات الكهوف ونفض غبار القرون الوسطى عن حروفه حتى يصير كآداب الدنيا، أدب الحياة بما فيها من صخب ونشاط وهم وترح وفرح وماشئت من أطياف الحياة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى