الجمعة ١٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم خالد خميس السحاتي

خربشات صبيانية

منهمكة طيلة وقتها بالنظر في مرآتها الصغيرة، حقيبتها الرمادية الجديدة تنوء بما تحمل من معدات تجميل حشرتها في داخلها
بشكل عشوائي، الفصل في حالة يرثى لها، مقلوبا رأسا على عقب، الصغار يتراشقون ببـــــقايا الورق المـــمزق وقشور البرتقال
،ويدبرون الحيل الماكرة لبعضهم، السبورة تتسول من قطعة الطباشير ولو حرفا واحدا تخــطه عليها، كلــــما ارتفــع ضـجيج
الصغار في الفصل بادرت المعلمة بتلمس عصا الخيزران وضربها على الطاولة بقــوة لتثـــــــير الخــوف في نفـوســـهم،فيـــسـود
الصمت لبرهة،ثم تعود الضجة من جديد لتدوي في المكان،وتعود المعلمة لمرآتها وأدوات تجمــــيلها، تخرج أحمر الشفاه الذي
أهداه لها خطيبها وتمرره على شفتيها بسرعة، تكتحل، وتمشط شعرها، تنظر في المرآة، يرتفــــع صخب الصغار من جديد،
تتذكر هي جدول الضرب، فتأمرهم بترديده مع بعضهم،يطلق الصغار العنان لأحبــــــالهم الصوتية،ويبدؤون بالترديد بصــوت
واحد،دون توقف :( واحد في الواحد بواحد .. واحد في الاثنين باثنين .. واحد في الثلاثة بثلاثة ..).

تنــتشي المـعلمة فرحـا،
تنظر إلى وجهها في المرآة، ثم تأخذ عصا الخيزران، ميممة بوجهها صوب باب الفصل،لتخرج منه بسرعة، وتدخل كالعــادة
دون أي مقدمات في الحوار الساخن الذي كان دائرا أمام الفصل المجاور بين بعض المعلمات، ليـــس ثـــمة خطــوط حــمراء،
أو أدوات استثناء، أو حتى قواعد معينة تسير عليها أو تتوقف عندها تلك الهدرزة النسائية الرائقة، التي تمــضي دون تردد
كتدفق مياه شلال هادر إلى مصبها،فتـــمر بأطــــايب الأكلات اللذيذة، إلى آخر صيحات الموضة في الألبسة والمــجــوهــرات،
ولا تتوقف عند تفاصيل العلاقات الاجتماعية بزواج هذه، أو طلاق تلك،تتوسع دائرة الحوار، يترك الصــــــغار جــــــدول
الضرب، ويعودون لشقاوتهم، يعبثون بحقيبة المعلمة، أحمر الشفاه،كريم تفتيح البشرة، مشط العاج، كلها أضحت بيـــــن
يدي الصغار ألعوبة، كمن يواجه مصيره المحتوم ويقف مكتوف اليدين،لونوا وجوههم وأيديـــهم، ورســموا بخــربشـــاتهم
على جدار الفصل لوحات صبيانية مزركشة بفوضى الألوان الفاقعة، توقفوا برهة، خطرت لهم فكرة، بدت لبعضهم غير رائقة
لأول وهلة، ترددوا، نظر بعضــــهم إلى بعـــض، دهــــشوا لما بــدا عليه فصلهم،سيطر الصمت على المكان،بـــدأ الخـوف
يدب في أوصالهم،احتبست دموعهم في مآقيهم، لملم بعضهم شتــــات الشجاعة الضائعة،ثم لم يلبثوا في تنفيذ حيلتهم الماكرة
للإيقاع بمعلمتهم في شركها، أخذوا أماكنهم، حبسوا أنفاسهم، تأهب أحدهم للتنفيذ،بحث عن شيء صلب ينجز به عمــله،
عثر أخيرا على قطعة حديد من مقعد مكسور،أمسكها بيد مرتعشة، ودون سابق إنذار، رمى بها على النافذة اليمنى بكــل قــوته،
تهشم زجاج النافذة سريعا، محدثا ضجة رهيبة، فزعت المعلمة المســـكينة، وأتـــت بخطوات مــتلاحقة، لكن خطوات ناظر
المدرسة كانت أسرع، فوصل إلى الفصل لينظر ما الذي حدث، تعثرت قدماه بالحــبل الذي كان مربـــوطا أســفــل البــــاب،
ووقع خارا على وجهه، وسط هول الصبية الأشقياء، فالأمر لم يكن متوقعا بالنســــبة لـــهم، دخلت المعلمة الفصل،رمقــت
تلاميذها بنظرة عابرة، ثم أخذت حقيبتها الرمادية التي لم تعد جديدة، وخرجت مسرعــة، وقد عقدت العزم على ألا تعود
إلى هـــذا الفـــصل مـــن جـــديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى