السبت ١٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم محمد جبريل

محمد غزلان .. والبحث عن أوراق رسمية

هذه هى الرواية الثانية لمحمد غزلان . غالبية
شخصياتها ينتمون إلى العمل نفسه الذى ينتمى إليه كاتب
الرواية ، وهو الصحافة .

يحدد الراوى المشكلة بأنها مجرد نقل أوراق من ملف
حكومى إلى ملف حكومى آخر ، فى حوزة الحكومة ، فى مكان
آخر " . قوام الرواية سعى مواطن / موظف لضم ملف خدمته ،
فيرفع قيمة المعاش إلى حدها الأقصى . متاهات وسراديب
يعرفها المتعاملون مع البيروقراطية الحكومية ، وأساليب
التسويف والابتزاز وفرض الإكراميات .

القضية تناسب تحقيقاً صحفياً ، لكن تزاوج الفنان
والصحفى فى قدرات محمد غزلان الإبداعية ، صنع هذه
الرواية الجميلة الحافلة بالشخصيات والأحداث والمواقف
التى تثير التأمل . وهو ما يستدعى السؤال الذى طالما
يتكرر : هل تمثل الصحافة للأديب دافعاً إيجابياً ، أم
العكس ؟

لعلى أذكرك بقول أرسكين كالدويل : لا أعرف شخصاً
واحداً أضرّ به التمرين على الكتابة من أى نوع . ان
الصحافة ، فضلاً عن أنها تفيد فى التمرين الدائب على
الكتابة ، فإنها تساعد أيضاً على تكوين عادة الكتابة كل
يوم . إن انتظار الوحى عذر قلّما تجده لدى المؤلفين
الذين تمرّسوا بالصحافة .

وحتى الآن ، فإن جارثيا ماركيث يحرص على العمل فى
الصحافة ، ذلك لأن الصحافة ـ فى تقديره ـ تحميه ، وتحرسه
، وتجعله متصلاً بالعالم الحقيقى . كانت الخبرات الصحفية
ـ باعتراف ماركيث ـ وراء العديد من أعماله الروائية ،
مثل قصة غريق ، حكاية موت معلن ، نبأ اختطاف . بل إن
رائعته خريف البطريرك استلهمها من تغطيته لوقائع محاكمة
شعبية لجنرال أمريكى لاتينى اتهم فى جرائم حرب ..

وبالنسبة لى ، فقد تمنيت ـ منذ الصبا ـ أن تقتصر
حياتى على كتابة القصة . لا تشغلنى شواغل أخرى من أى نوع
. لكن الأمنية ظلت فى إطارها لم تجاوزه . فلابد ـ لكى
أكتب ـ أن آكل وأقرأ وأسكن فى شقة ، وأمتلك قلماً وورقاً
، ولابد ـ لتحقيق ذلك كله ـ أن أحصل على مال ، وحتى أحصل
على مال ، فإنه يجب أن أعمل . وكان وقت العمل ـ الذى لم
أحبه دائماً ـ هو المتهم دوماً فى السطو على الوقت الذى
تمنيت أن يكون خالصاً للإبداع .

تبلورت خططى القريبة فى ضرورة أن أظل فى عملى
بالصحافة ، باعتبارها المهنة الأقرب إلى الكتابة الأدبية
، وأن أحصل منها على مورد يتيح لى تلبية احتياجات العيش
، فلا أنشغل بأعمال أخرى تنتسب إلى الكتابة ، لكنها قد
تصرفنى عن القراءة والكتابة.

أعرف أن محمد غزلان مارس فى العمل الصحفى جميع أنواع
الكتابة . كتب الخبر والتحقيق والمقال والترجمة والدراسة
. وهب كل نوع ما يحتاجه من مفردات لغوية وصياغة وتقنية ،
باعتبار القارئ الذى يتجه إليه فيما يكتب . وبالتأكيد ،
فإن قارئ التحقيق الصحفى يختلف عن كاتب المقال الأدبى ،
واللغة القصصية تختلف عن لغة الصحافة . أتاحت الصحافة
لمحمد غزلان ـ فى الوقت نفسه ـ مجالات ربما لم يكن
يستطيع أن يقترب منها فى الوظيفة العادية . سافر إلى مدن
وقرى داخل مصر وخارجها ، والتقى بشخصيات تمتد من قاعدة
الهرم الاجتماعى إلى قمته ، وبثقافات متباينة .

هذا ما حدث . يرويه الفنان بأسلوب أقرب إلى الخاطرة
الصحفية ، أو التحقيق الصحفى ، أو ـ عندما نضعه فى إطار
الفن الروائى [ يستحقه بجدارة ! ] أقرب إلى الفض عما
بالنفس ، إلى الفضفضة والحكى ، والتحدث إلى القارئ
باعتباره صديقاً . ربما لجأ إلى ملاحظات شخصية ،
وتعليقات ، وكلمات عابرة بين السطور ، أو فى نهاياتها .
إنها رأيه الشخصى ، لا يشغله موافقتك على ما قال ، أو
اختلافك عنه .

الفنان ـ من خلال رصده للتصرفات الظاهرة ـ يبين عن
دخائل النفس الإنسانية ، معاناتها ، وكيفية مواجهتها
لقوى السلب فى المجتمع ، أو تماهيها ـ فى المقابل ـ مع
تلك القوى .

الرواية إدانة للحكومية المصرية : الرشوة ،
المحسوبية ، الوساطة ، وغيرها مما تحفل به من عوامل
الفساد والإفساد . الراوى لا يقف عن الآنى ، عند اللحظة
المعاشة ، لكنه يستعيد ذكرياته فى الجهاز الحكومى ، منذ
عشرين عاماً ، ومن خلال العديد من الموظفين الذين تختلف
سحنهم وتصرفاتهم ونفسياتهم ، لكنهم يضيفون إلى تكوينات
اللوحة ، وألوانها ، وظلالها ، بما يساعد على اكتمالها .
يضيف إلى صدق الصورة تشابك الفن السردى بالسيرة الذاتية
، فالاستقالة من التربية والتعليم ، وتزكية الاستقالة
بحكم قضائى من المستشار عبد المجيد بيومى مدكور نائب
رئيس مجلس الدولة ، ورئيس مجلس القضاء الإدارى [ أورد
الفنان اسم المستشار كاملاً ، كما أورد النص الكامل لحكم
محكمة القضاء الإدارى ] ، ثم العمل فى الصحافة .. ذلك
كله مما يصح نسبته إلى السيرة الذاتية ، لكن الفنان أجاد
التضفير ، فلا يعنيك ما ينتسب إلى الذات ، بقدر ما هو
إبداع فنى : الحكى المتسم بالعفوية ، التقاط الجزئيات
والمنمنمات ، العناية بالألوان والظلال والعمق ، إهمال
التوشية والعبارات الكليشيهية والمعانى المطروقة .

وتميل الرواية ـ فى مواضع كثيرة ـ إلى تداعى
الذكريات ، أو استدعائها ، تشمل شخصيات وأحداثاً فى حياة
الراوى ، وفى حياة المجتمع المصرى ، قريبة وبعيدة ،
مظهرها الأهم ما تبين عنه من سلبية .

منذ توعد بطل رواية " الأب جوريو " لبلزاك باريس
بتدميرها ، وشخصية الحاقد على المجتمع الذى تتوزع حياته
إلى مسارب مختلفة ، قد تكون الانتهازية أو الوصولية أو
فعل الشر بعامة ( مترادفات لشخصيات متقاربة ) ، هذه
الشخصية تطالعنا ـ على نحو أو آخر ـ فى الأعمال
الإبداعية . المثل فى أدبنا العربى نجده فى شخصية محجوب
الدايم ( القاهرة الجديدة ) الذى توعد القاهرة ما لم
تحكم بين أبنائها بالعدل ، وحسنين كامل على ( بداية
ونهاية ) الذى أسهمت رغبته فى الوصول فى تحطم أسرته ،
ويوسف عبد الحميد السويفى ( الرجل الذى فقد ظله ) وسعيه
للتخلص من كل ما يعوقه للوصول إلى هدفه . إنها شخصيات
تتفق فى الهدف الذى تسعى إليه ، وإن اختلفت فى الملامح
الظاهرة ، والباطنة ، وفى التصرفات .

" سيد أذى " فى رواية محمد غزلان يحمل نفسية مشابهة
لنفسيات الشخصيات الانتهازية فى الرواية المصرية ، وإن
اختلفت ظروفه الوظيفية . إنه امتداد لهذه الشخصية
المحورية فى العديد من الأعمال الأدبية المصرية . نستطيع
أن نتعرف إلى ملامح منها ، واضحة وشاحبة ، تعكس تطورات
حياتنا السياسية والاجتماعية ، ومدى غلبة الفساد عليها ،
وانحساره عنها . تذكرنا بالخط البيانى الذى يعكس صعوده
وتدنيه بعض الحقائق العلمية ، والتنبؤات .

على الرغم من اختلاف المعنى بين كلمتى " بسيطة " و "
طظ " فإن كلمة هانى الكفراوى تستدعى إلى الذاكرة كلمة
محجوب عبد الدايم . محجوب دفعته ظروفه ونفسيته المدمرة
إلى فعل الشر . أما هانى الكفراوى فهو يتيح ـ بسلبيته ـ
لفعل الشر أن يتحقق . وعلى سبيل المثال ، فإن دفع بعض
المال ضرورة ليس من قبيل الرشوة ، لكنه ـ على حد تعبيره
ـ ثمن الدخان !

من الصعب أن ننسب تصرفات هانى الكفراوى إلى فعل
الفساد ، لكنه يسهم فى ذلك الفعل بسلبية عقيمة ، توافق
على المقابل الحرام ، والتخاذل ، والصمت عن الرشوة ،
والابتزاز ، وكلمة السر ، والحصول على ما هو غير حق : "
حياته الشخصية لا يعرف عنها أحد شيئاً ، وملامحه الجادة
لا تشجع حتى أقرب زملائه إلى الحديث معه ، أو الخوض فى
أمور شخصية .. سيماء الفلاسفة وسمت المفكرين ترتسم على
ملامحه .. يوزع الابتسامات والسجائر ويخلد إلى عمله .
يفخر بأنه قضى حياته الوظيفية دون خصم بواحد من راتبه ،
كما أنه لم يكافأ أيضاً ، ولم يحصل على علاوة استثنائية
أو علاوة امتياز رغم تميزه . لم يتباه بأصل أو نسب أو
أقارب له يشغلون مناصب مرموقة كما يفعل البعض ، ولا
يتقرب من رئيس ، إلا أنه ينصح صغار المحررين بعدم
الابتعاد عن رؤسائهم " !.

المكان فى رواية محمد غزلان له رائحة ، تحققت
بالحركة وليس بالرصد الساكن . عاب أندريه مايكل على
المكان فى ثلاثية أستاذنا نجيب محفوظ أنه مجرد تسميات .
ثمة النحاسين وبيت القاضى والسكرية وبين القصرين وغيرها
، دون مؤشرات من حياة الناس ، تشى بحياة المكان نفسه .
التسميات فى هذه الرواية تكتسب لحماً وعظماً ودماً ،
وتكتسب رائحة ، من خلال حركة الحياة فى تناول الفنان .
إنه يتيح العفوية ، والعين بالتالى ، لوصف الملامح
والقسمات والأجواء التى تهبنا بانورامية المكان بما تكاد
تلامسه أيدينا ، وتتشممه أنوفنا . أشير إلى تنقل الراوى
ـ بصحبة هانى الكفراوى ـ بين الشوارع المحيطة بمبنى
التأمينات الاجتماعية ، وما يشغى به المبنى الضخم من
ظواهر تبين عن البيروقراطية المصرية فى أسوأ تجلياتها .

أكاد أتخيل الفنان ، وقد جعل من عينيه عدسة تلتقط كل
ما تصادفه ، لكنه لا ينسخ إلا ما يضيف إلى تكوينات
اللوحة الروائية . بانوراما متكاملة من حركة الطريق ،
وقعدات المقاهى ، وبطالة الشباب ، والمشكلات الأسرية ،
وقاعات التحرير بدور الصحف ، وبطاقة التموين ، وختم
النسر ، وزحام مترو الأنفاق ، والمدارس الحكومية ، وقطار
الصعيد ، والحياة القاسية فى مدن الجنوب ، والتمسح
بالدين ، ومكاتب الاستشارات التى يعد تقديم الرشاوى ـ
لكبار الموظفين وصغارهم ـ عملها الحقيقى ، والتخلف
التكنولوجى ؛ مثله صعوبة التعامل مع جهاز الكومبيوتر ،
حتى بالنسبة للجهات التى يعد الكومبيوتر فى صميم أنشطتها
. حتى محطات البنزين يشير الفنان إلى الأوضاع القاسية
التى يعانيها عمالها .. ملامح وممارسات متباينة ، تصنع ـ
فى مجموعها ـ مشهد الحياة الاجتماعية المصرية .

إذا بقيت لى ملاحظة على هذا الرواية الجميلة ، فهى
مؤاخذة محمد غزلان ـ لا يحضرنى تعبير آخر ـ لأنه حجب ـ
بلا ضرورة مقنعة ـ موهبة حقيقية ، وكبلها عن الانطلاق فى
آفاق واعد.


مشاركة منتدى

  • غزلان لم يحجب موهبة و لكنه فنان و صحفى معروف الا انه غير كل الصحفيين لا يحب الاضواء بكافة انواعها

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى