الجمعة ٣١ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم عبد العزيز غوردو

المجذوب...

إلى الذي سألني عن حدود العلاقة
بين الإبداع والجنون.

كان المجذوب أستاذا مبدعا قبل أن يصاب بالجنون... هكذا سمعتهم يقولون عندما دخلت المدينة أول مرة وبدأت أحتك بأهلها.

ما زال ينتج أدبا رفيعا... يقولون... لكنه يخفي كل ما يكتب معه ولا يطلع عليه أحدا، فقط بيتا من الشعر أو جملة قصيرة أنيقة يسرقها منه بعضهم عندما يحتاج "المجذوب" لسيجارة من حين لآخر.

ذات مساء – قبل عشر سنوات – شاهدت شبحه يمر قرب بابي... سقطت منه ورقة دون أن يشعر بها، التقطتها، وخلسة قرأتها: حقا إنه يبدع بجنون، ولعل أروع ما في الإبداع الجنون!؟

في اليوم الموالي سمعتهم يقولون بأن "المجذوب" قد انتحر بعد أن أحرق كل أوراقه، وحدي كنت أعرف بأنه لم يحرقها كلها، وما أرجوه الآن، بعد مرور عشر سنوات من الأرق والعذاب، وتأنيب الضمير، هو ألا تكون الورقة التي اختلستها ذاك المساء هي التي تسببت في انتحاره.

اليوم، وبعد مرور كل هذي السنين، وأنا أفتش بين أوراقي القديمة عثرت على تلك الورقة: سر المجذوب، ولأن السر لا يسمى سرا إلا لأنه يفشى، فإنني سأبوح به... لعل البوح يحمل لي بعض الخلاص.

نص ما جاء في الورقة، أحدس أنها كانت رسالة، مبتورة، لم يكتب لها أن تبعث أبدا:

"... ما لا تعرفينه يا عزيزتي هو أنك قد نمت معي الليلة... لا تقولي بأنك لم تغادري فراشك ولم تسافري هذا المساء، فما يدريك؟ لعلك سافرت دون شعور منك! أنا على الأقل متأكد من أنك كنت هنا على فراشي، ممتدة بأنوثتك الكاملة، وعيناك الواسعتان مفتوحتان تنظران إلي، وأنا أداعب خصلات شعرك الجميل...

في الصباح فتشت عنك في فراشي فلم أجد إلا الوسادة خالية كئيبة... صدقيني لم يكن حلما، كنت هنا، أنا متأكد من ذلك، وكنا نتحدث ونمرح ببراءة الأطفال!

في الصباح فتشت عنك فلم أجد إلا الوسادة خالية كئيبة... خلت للحظة أنك في المطبخ... ناديتك فلم تجيبي... عاودت النداء فلم تجيبي... ردت علي الجدران والصمت المطبق تذكرني أنه كان حلما: ما أجمل الحلم إذن، وأجمل منه عيناك الواسعتان.

قد تعتبرين هذا جرأة، أو ربما وقاحة! أما أنا فأعتبره مجرد صراحة بريئة كبكارة العروس، لأنني لا أستطيع إلا أن أكون صريحا معك حتى حدود الخيال.

تعرفين، عندما نكون معا فقلما تلتقي أعيننا، وعندما تلتقي فإننا نرتبك، وتسرع نظراتنا بتغيير الاتجاه درءا لحالة التلبس... في الحلم كنت تنظرين إلي وأنظر إليك، متلبسين كنا، وكنا نلبث كذلك حتى نرتوي، وهل نرتوي؟

في الحلم كانت نظراتنا تتشابك، أصابعنا تتشابك، وكنت تقتربين من وجهي حتى أحس نَفَسك الدافئ يداعب وجنتي وأنت تهمسين في أذني بكلمات جميلة، لا أذكر الآن أي شيء إلا أنها كانت جميلة، وأجمل منها عيناك الواسعتان.

تشبثت يداك النحيلتان بأطراف السرير، شفتاك المحمومتان كانتا تحاصراني، تأسراني برفق، وأنت إلى جانبي كنتِ، ابتسمتُ وابتسمتِ، وأبعدنا التكلف الذي كبلنا طويلا...

توقف الزمن هذه الليلة، توقف الحلم في منتصف الطريق، توقفت شفتاك المحمومتان وفي داخلي حريق... توقف كل شيء على نظرة من عينيك، على ابتسامة... جميلة كانت الليلة، وأجمل منها كانت عيناك الواسعتان.

آه كم يؤرقني هذا الليل الشتوي الطويل، وكم هو عاتٍ هذا الفراش الجليدي الذي علي أن أقارعه وحدي...

آه كم يعذبني هذا الفراق، وكم هو قاسٍ ومدمٍ أن أستيقظ فلا أراك... أن أنام فلا أراك... أن أموت فلا أراك..."

ملحوظة: إذا أردت، عزيزي القارئ، تتمة الحكاية فما عليك إلا أن تفتش عنها في الرماد، أي رماد، لعل العنقاء تتكشف لك يوما...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى