الأحد ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٢
واحد من رواد القص العربي
بقلم محمد جبريل

سعد مكاوي ... ذكرى وتحية

رغم إنتاجه الغزير والمتميز لم يحتل سعد مكاوي المكانة الخاصة به، كان كاتباً عزوفاً ومتفرداً وأميل للعزلة. وقد ظهرت هذه الخصائص في تفاصيل أدبه.

لم أتتلمذ – شخصياً – على سعد مكاوي، وإن مثلت أعماله بعداً مهماً في كتبي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" و "مصر المكان" و "مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات".
التقيت سعد مكاوي ، للمرة الأولى، في قصصه القصيرة التي كان ينشرها في "المصري"، وفي بعض المجلات التي كانت تصدر أوائل الخمسينات ، ثم تعرفت إليه ، بصورة أعمق، حين اقتنيت مجموعتين له، صدرتا في وقت متقارب هما "مخالب وأنياب" و "في قهوة المجاذيب"، وحين قدمت الى القاهرة قدمني إليه الكاتب الكبير أحمد عباس صالح. اكتفى بالترحيب الصادق والطيب، ثم انشغل بأوراق في يده، فاكتفيت بأن أضيف تلك اللحظة الى رصيد ذكرياتي. وأتاحت لي دراسة أعمال سعد مكاوي ، فيما بعد، أن أتعرف الى جوانب موهبته الخصبة والمتفردة، وأن أفيد من كتاباته التي لم تقتصر على جنس أدبي محدد، لكنها شملت الكثير من ألوان الكتابة بما يذكرنا بإسهامات جيل الرواد.

من الدلتا الى باريس

ولد سعد مكاوي في 16 أغسطس 1916 بقرية "الدلاتون" التابعة لمديرية – محافظة – المنوفية، وهي القرية نفسها التي شهدت مولد صديقه وزميله عبد الرحمن الشرقاوي، والتي مثلت النبع نفسه الذي اغترف منه مكاوي والشرقاوي مظاهر الحياة في القرية المصرية . كانت مكتبة أبيه في البيت الذي أمضى فيه أعوام النشأة بالقرية هي المصدر الأول والأهم لتكوينه الثقافي المبكر. تعرفه من خلال ما تضمه من كتب الأدب والتاريخ والسياسة والتراث الى جوانب شتى من المعرفة الإنسانية . ولعله يمكن القول إنها كانت هي البداية التي استفزت الفنان في وجدان سعد مكاوي الصبي، قبل أن يسافر الى القاهرة، ليحصل فيها على شهادة التوجيهية (الثانوية العامة). ثم سافر الى فرنسا، وأمضى عاماً واحداً بكلية الطب بجامعة مونبلييه، ثم دفعه حب الأدب، ونتذكر هيكل والحكيم ، الى الالتحاق بكلية الآداب بجامعة السوربون. وبالطبع، فقد أتيح لسعد مكاوي – في أثناء إقامته بفرنسا 1936/1939، فرصة التعرف الى الآداب والفنون، والثقافة الأوروبية عموماً، في أحدث معطياتها. وهو ما انعكس في كتاباته التي عنيت بالموسيقى والفن التشكيلي وغيرهما من الفنون، بالإضافة الى التراجم التي لم تقتصر على المشاعل من الأدباء، وإنما عنيت بالمشاعل في الإنسانيات المختلفة. وعاد سعد مكاوي الى القاهرة ليمارس العديد من الأعمال المعبرة عن اهتماماته الثقافية والفنية، فقد عمل محرراً أدبياً في صحف "المصري" و "الشعب" و "الجمهورية".

وكان آخر المناصب التي تولاهاه رئاسة هيئة المسرح، ولما أحيل الى المعاش تفرغ للكتابة الإبداعية. وتزوج سعد مكاوي في 1953، وأنجب ولداً وفتاة، يعملان مهندسين معماريين، وقد انضم الى عضوية نقابة الصحفيين، وكان من الأعضاء المؤسسين لاتحاد الكتاب.

عزلة وإبداع

أما قلة الدراسات التي عنيت بأعمال سعد مكاوي، فهي لم تكن نتيجة إهمال من جانب النقاد، بقدر ما كانت حرصاً من الفنان على أن يبدع في غيبة من أضواء وسائل الإعلام، مع أنه كان إعلامياً. ومن تجمعات الأدباء والمثقفين، حتى في أعوامه الأخيرة كانت جلسته المنفردة في النادي القريب من بيته، ولا يخلو من دلالة أن الأحاديث التي وافق على أن تجرى معه كانت في عام 1970 . كانت العزلة، في تقديره، شرطاً مهماً من شروط الإبداع الفني، فهي تهبه القدرة على الرصد والمراقبة والتأمل واجترار الخبرات، وإفراز ذلك كله في إبداعات تتخلق من داخلها دون أن يحاول المبدع أن يقحم عليها فكرة ربما لا يتقبلها السياق. وحين يتحدث عن صديقه الفنان التشكيلي، فكأنه يتحدث عن نفسه، فهو الفنان التشكيلي، يعمل في عزلة خصبة، تيسرها له قناعة جميلة، ودخل بسيط أخضعه لفهمه العميق لفنه، وطبع أصيل فطر على ازدراء الصيت الرخيص، وتقديس الفن الكريم، إنه لا يتبع نظرية معينة، ولا يدق الطبول لنظرية ما، لكنه يرى أن الفن كائن حر وحي، ينمو ويتطور، فلا نظرية فيه ولا مذهب، ولا قديم ولا جديد، وإنما هو نهر دافق عبر الأجيال من الإحساس الذاتي للفنان بما يدور حوله، وفي نفسه موصول بكفاح الماضي وقيمه، وانطلاقات المستقبل وآفاقه.

ويصف فائق الجوهري، وأدين لإسهاماته في حياتنا الثقافية بالكثير من تكويني المعرفي، سعد مكاوي بأنه "إنسان صامت لا تعرفه الأندية والمجتمعات، والكثيرون جداً من القراء لا يعرفون صورته".

وبالطبع ، فإن تلك القناعات التي تملكها ضرورة التفرغ للعملية الإبداعية لا تلغي أهمية أن يهبط الكاتب من برجه العاجي، أستعير تعبير الفنان، ويبرح صومعته، وفي يده المشعل، لكي يمتزج بحياة الشعب، ويصور آلامه وآماله، تلك، في تقديره، رسالة الكاتب في أعلى مراتبها.
وقد اختار معظم أدباء جيل الوسط، أو جيل الأربعينيات، جنساً أدبياً واحداً، يقصر كل منهم غالبية إبداعه عليه. ذلك ما فعله نجيب محفوظ حين تحددت اهتماماته في البداية في المقالة الفلسفية، ثم كتب القصة القصيرة والرواية لا يجاوزهما الى أجناس أدبية أخرى.

وهو ما فعله عبد الحميد السحار، وهو ما فعله أيضاً محمود البدوي الذي كانت القصة القصيرة قوام إبداعه، الأمر نفسه بالنسبة لصلاح ذهني، وكانت المسرحية هل الملمح الأهم في إبداع علي أحمد باكثير، والأمثلة كثيرة. أما سعد مكاوي، فقد جعل من جيل الرواد مثلاً يحتذى به، أبدع القصة القصيرة والرواية التي تصور الواقع، وتوظف التراث، وكتب المسرحية ، والمقالة الفنية، والترجمة، وغيرها من فنون السرد.

إخلاص للإبداع

نحن نستطيع أن ننسب تعدد كتابات سعد مكاوي الى احتذائه ريادة الجيل السابق، لكننا نستطيع أن ننسب ذلك التعدد أيضاً الى أن سعد مكاوي كان مخلصاً في التعبير عما يشغله بالفعل. كتب ما تثقف فيه، وما أخلص في تأمله، وما نبضت به موهبته، وكانت محصلة ذلك كله إبداعات قصصية وروائية ومسرحيات وتراجم وتأملات مجتمعية وغيرها. ساعد على ذلك أن عمل سعد مكاوي لم يقتصر على ترف الكتابة وحدها، وهو ترف يصعب الادعاء أنه أتاح لكاتب ما أن يتقوت منه. لكنه عمل ، لأعوام طويلة، بالصحافة قبل أن تنقله السلطة الى وظيفة غير صحفية. لقد وضعت جريدة "المصري" إحدى قصصه في موضع المانشيت، وبامتداد صفحتها الأولى، وكان ذلك احتجاجاً على مصادرات الرقابة آنذاك، لكن العمل الصحفي، وكان مكاوي محرراً أدبياً، كان يلزمه بالكتابة في غير القصة. فتنوعت كتاباته بما أملته عليه طبيعة عمله، وباتساع اهتماماته الى نهاية أفقها.

ومع ذلك، فقد كانت القصة القصيرة هل الملمح الأهم في كتابات سعد مكاوي. منجزه الإبداعي فيها يقارب الثلاثمائة قصة. صدر غالبيتها في 14 مجموعة قصصية هي: نساء من خزف، مخالب وأنياب، قهوة المجاذيب، راهبة من الزمالك، الماء العكر، مجمع الشياطين، الزمن الوغد، القمر المشوي، أبواب الليل، الرقص على العشب الأخضر، شهيرة وقصص أخرى، الفجر يزور الحديقة، على حافة النهر الميت، كلمات في المدن النائمة. أما الرواية، فقد صدر لسعد مكاوي أربع روايات هي: السائرون نياماً، الرجل والطريق، الكرباج، لا تسقني وحدي. وهو الرقم نفسه الذي بلغته مسرحياته، فقد كتب: الميت الحي، أيام صعبة، الهدية، الحلم يدخل القرية، كما صدرت لسعد مكاوي دراستان عن الموسيقى "لو كان العالم ملكاً لنا" والتاريخ السياسي "رجل من طين".

والحق أن مجموع كتابات سعد مكاوي، حتى الكتابات غير القصصية، تنسبه الى التيارات التقدمية، وتصنفه باعتباره كاتباً منحازاً الى قضايا البشر. وكان لسعد مكاوي وجهة نظره التي تبين عن قسماتها وملامحها في مجموع كتاباته، والتي يمكن إيجازها في ثقته المعلنة بأن عصر التمزق والانسحاق والحيرة يبشر بغد إنساني جميل غض، وأن الواقع المرير الذي يكابده الجنس البشري في عنق الزجاجة لم يؤثر في إيمانه بأن إنسان العصر القادم سيكون أبهى وأعظم من المسودات البشرية، والتعبير للفنان. إن القرن العشرين لا يعدو أن يكون معمل تفريخ لطبقات جديدة راقية من الإنسان، وإن إنسان ذلك القرن وما بعده سيكون على الصورة التي يستشرفها. يقول في حوار مع عبدالعال الحمامصي: "التزامي نابع من إيماني الإنساني، أنا ملتزم بالقضية الإنسانية في عمومها وشمولها. وشعاري في هذا أنني مع الحرية ضد الزيف، مع الحق ضد الاستبداد، مع الشجاعة ضد الخوف، مع الإرادة ضد القهر، مع الجمال ضد القبح، مع الحب ضد الكراهية، التزامي في كلمة واحدة هو مستقبل الإنسان وقدراته المتجددة التي لا يمكن لأي ايديولوجية معاصرة أن تحتويها. فمن الذي يعطينا الحق في أن نصادر المستقبل، ونحجر على إمكاناته، وما تنطوي عليه صيرورته من قابليات". وفي هذا الإطار ينبغي أن نضع أعماله التي تنتسب الى أدب الخيال العلمي، إنها إطلالة جيدة لاستشراف آفاق المستقبل.

القرية والمدينة

نشر سعد مكاوي أولى قصصه القصيرة في فبراير 1936، وصدرت المجموعة الأولى لسعد مكاوي سنة 1948. ثم توالت أعماله في القصة القصيرة والرواية والمسرحية ، فضلاً عن كتاباته في أثناء عمله كمحرر أدبي. وتصدر أعماله الإبداعية بعامة عن واقع القرية المصرية، والصلات بين القرية والمدينة من خلال أبناء القرية الذين يهجرون قراهم للدراسة أو للعمل في المدينة، والحس الفكاهي في بعض كتاباته لا يخفي قسوة الواقع الذي شغل بتناوله. والصوفية ملمح مهم يصعب إغفاله في إبداعات سعد مكاوي، بل إنه اختار عناوين لبعض مجموعاته القصصية تبين عن هذا الملمح.

والتصوف، كما يبرزه الفنان، ليس مظاهر انجذاب ودروشة، لكنه تعبير عن الغياب الذي تعانيه الطبقات الأدنى بين طبقات المجتمع ككل.

وقد حاول سعد مكاوي أن ينطلق من أرضية الواقع، الخير والشر والرذيلة والعطف والقسوة والصعلكة والجوع والغواني وكل المولد البشري. التعبير للفنان نفسه، الى الحب والتسامي بقوة هائلة الأثر في حياة الجنس البشري ، الى أن جعل من الحب موضوعاً لقصته. يقول: "إني لست ممن يجدون في الكلام عن الحب والكتابة عنه شيئاً مخجلاً أو زائداً عن حاجة الناس الحقيقية، بل إنني من المؤمنين بأن الحب في عصرنا القلق المشحون بالخلافات والكراهية والقلق قد صار في حاجة الى تفسير ومناقشات جديدة، وأن الحب هو دين المستقبل الجديد". وحين بدأت سعد مكاوي في كتابة روايته "الرجل والطريق" فقد كان مشروعها التخطيطي أن يكون الحب هو البطل الحقيقي باعتباره القوة هائلة الأثر في حياة الجنس البشري، والشيء الكبير الأساسي في حياة الكل في كل زمان ومكان، والقوة الدافعة المثمرة من قوى الطبيعة الإنسانية الخلاقة البناءة. وينفي أن يكون انصرافه الى كتابة "الرجل والطريق" مجرد كتابة قصيدة غنائية تتغنى بالحب وتتبع أحوال المحبين، لكن ما شغله أن يعبّر عن الحب باعتباره عاطفة إنسانية ترتبط بالمساعي الإنسانية المتشابكة، والتطور الاجتماعي ، فضلاً عن ارتباط الحب بكيمياء الجسد الإنساني.

ومع أن ثلاثية الرجل – المرأة – الجنس لم تكن مما يلفت النظر في قصص سعد مكاوي، بعكس قصص البدوي التي كانت في مجموعها إلحاحاً على تلك الثلاثية، فإنه كان يرى في الحب بحثاً عن الوسيلة لتحويل جاذبية الجنس الى الشوق للكمال من خلال شخص من الجنس الآخر يختاره المرء فلا يعود لجنسه كله وجود إلا في صورته. تلك هي ميزة الإنسان على الحيوان. من يستطيع أن يثبت غريزته على شخص واحد، فيستغني عن الجنس الآخر كله، إرادة الطبيعة هي أن يكون الجنس والحب متحدين، ولذلك توج المجتمع هذا القانون الطبيعي بمؤسسة الزواج.

مع تعدد الأعمال التي وظفت التراث الفرعوني والعربي والإسلامي، بداية من جيل الرواد ، فأدباء المدرسة الحديثة، ثم أدباء جيل الوسط: محفوظ والسحار وباكثير وغيرهم، فإن معطيات سعد مكاوي في الرواية التاريخية، روايته الأهم "السائرون نياماً"، على وجه التحديد، كان هي الحادي الذي مضت من ورائه محاولات الأجيال التالية لتوظيف التراث. لم يكن الأمر مجرد حنين الى أزمنة جميلة، ولا استعادة ملامح من تراثنا القومي والوطني، بل كان، وبوضوح، توظيف الحادثة التاريخية، أو الشخصية التاريخية، في الإشارة، هذا هو التعبير الذي يحضرني الى الظروف التي كانت تضغط على المجتمع في الفترة التي كتب فيها الفنان رواياته، وهو الهدف نفسه الذي عني به مبدعو الأجيال التالية الذين حاولوا توظيف التراث في إبداعاتهم.

محمد جبريل


مشاركة منتدى

  • بسم الله الرحمن الرحيم
    أتوجه بالشكر للأديب المصرى والروائ الكبير محمد جبريل لإلقائه ضوءا باهرا على الحياة الأدبية والخاصة للرائد سعد مكاوى .. وأتمنى أن يسرد علينا المزيد من ذكرياته الخاصة مع كل ممن ذكرهم فى المقال . وخاصة وإنى أعرف أنه يعرف الكثير من أسرار حياتنا الأدبية من واقع إشرافه على الصفحة الأدبية لصحيفة المساء المصرية كل يوم سبت مع بداية الأسبوع وشكرا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى