الاثنين ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم حسين حمدان العساف

لغتنا والتحديات الراهنة

لا أحسبني أجانب الحق في شيء إذا زعمت أن العرب كانوا في الماضي أشد الأمم حرصاً على لغتهم، وأكثرهم اعتزازاً بها، فمنذ وقت بعيد جداً حين رأى العرب اللحن يتسرب إلى لسانهم بسبب اختلاطهم بالأعاجم، انبرى أعلام لغتهم، يلتقطون لغتهم الفصيحة من أفواه أهل البادية من العرب الأقحاح، لا تثنيهم عن أداء مهمتهم مسافات بعيدة، أو مشقّات جسيمة، و أخذوا يدوّنون لغتهم الفصيحة على مراحل منذ منتصف القرن الثاني للهجرة في الرسائل، ثم الكتب فالمعجمات: معجمات الألفاظ ومعجمات المعاني، فتقدمت اللغة بتقدم العرب، ورافقت حضارتهم إلى بقاع جديدة في العالم، ملأتها، وغدت يومذاك لغة عالمية، أقبل على إتقانها العلماء والمفكرون والأدباء والفلاسفة من غير العرب، كما يقبل هؤلاء اليوم على إتقان لغة عالمية، تكون منفذاً، يعبر منه نتاجهم إلى العالم.

وترجمت في تلك الفترة، الكتب العربية الإسلامية من طب وفلك وفلسفة ورياضيات ودين وأدب إلى اللغة اللاتينية لتدرّس في جامعات أوربا، ولمّا انحسر سلطان العرب، وأفل نجمهم، انكفأت العربية على ذاتها، و لاذت آخر المطاف بالمساجد والكتاتيب، وتناولها أعداؤها قدحاً وتشهيراً، وسعوا للقضاء عليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، متهمين إيّاها بالتخلف والجمود، وبعدم قدرتها على مواكبة التطور، و مسايرة العصر، و راحوا ينشطون في الدعوة إلى إحلال اللهجات العامية مكانها، تعزّز مواقفهم الحاقدة الظروف القاسية الصعبة التي كانت اللغة العربية تئن تحت وطأتها، ومرّت لغتنا بأزمة قوية منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، اجتازتها منتصرة، وهي تؤكد من جديد قدرتها على التطور والتجدد، وكشأنها في كل عصر ومصر، كان لها من يحرص عليها، ويدافع عنها، وكان أَن قام في القرن الماضي(( المجمع العلمي العربي)) في دمشق(1919) ثم قام ((المجمع الملكي)) في القاهرة (1932) ثم اتحد المجمعان في مجمع واحد أيام الوحدة سنة (196.) باسم (( مجمع اللغة العربية)) ثم توالى قيام مجامع لغوية أخرى في عدد من البلاد العربية، فحقّقت لغتنا العربية انتصارات باهرة، حيث أصبحت لغة رسمية في هيئة الأمم لمتحدة، وفي المنظمات الدولية، وبدأت تنتشر في الدول الإسلامية، وفي دول آسيا وأفريقية، واستطاعت مجامعنا اللغوية والعلمية، بفضل جهود أعضائها على اختلاف اختصاصاتهم الذين نذروا أنفسهم، كأسلافهم الأوائل دفاعاً عن اللغة العربية، أن تبرهن على مرونة هذه اللغة ورشاقتها وحيويتها، وقدرتها على التطور، وتلبية حاجات العصر، بما تتمتع به من ميزة في بنيتها هي الاشتقاق والنحت، فأنجزت آلاف المصطلحات العلمية والألفاظ الجديدة، وأوجدت تسميات عربية أو معربة لآلاف المبتكرات الجديدة،كما أنجزت عدداً من المعجمات العلمية واللغوية، بينها((معجم القرآن الكريم))ورغم ذلك، فإنَّ مجامعنا اللغوية والعلمية، مازالت تواجه تحديات، تزداد يوماً بعد يوم، لا سبيل إلى نكرانها أو تجاهلها، أهمها:

1- غزو الغرب الحضاري المتقدم للشرق المتخلف، واكبه غزو لغوي، نتج عنه سيل أخذ يتدفق كل يوم من الألفاظ والمصطلحات والتسميات الأجنبية لمبتكرات الغرب المادية و إنجازاته، ملأ حياتنا الثقافية والفكرية، ودخل بيوتنا وشوارعنا وأسواقنا ولهجاتنا، وحاصر لغتنا في أرضها، وبين أهلها، عجزت أَن تتصدى له وحدها مجامعنا اللغوية والعلمية، فلم تستطع احتواء هذا السيل، أو التخفيف من أخطاره، أو تحويله إلى سيل عربي أو معرّب إِن جاز هذا التعبير.

2- غياب القرار السياسي الذي يعزّز دور اللغة العربية ومجمعها اللغوي والعلمي، ولا شك أَنَّ اللغة العربية لغة رسمية في كل بلد عربي، وأَنَّ حركة التعريب أخذت تنشط في دول المغرب العربي تخلصاً من آثار اللغة الفرنسية المتغلغلة في مفاصلها الحيوية لتحلّ مكانها اللغة العربية، لكن اللغة العربية في واقع الحال لم تلق من دولها الدعم الذي يرتقي بها إلى مواجهة التحديات، رغم أَنها دعمتها بدرجات متفاوتة. إِن غياب القرار السياسي، وإن شئت، فقل: إِنَّ غياب الإرادة في اتخاذ القرار السياسي الذي يشدّ من أزر اللغة، ويرتقي إلى مستوى الحدث، تمثل في مستويين اثنين: المستوى القطري والمستوى القومي، ففي المستوى القطري، مازالت البلاد العربية بحاجة إلى سياسة تعليمية ناجحة، ترتكز على أمرين: منهاج مبسّط ومتطور لمادة اللغة العربية، وكادر مؤهل من المعلمين والمدرّسين، يتولى تعليم الأجيال الناشئة، ويعدّها لإتقانها، وفي افتقار البلاد العربية إليهما، نشأت أغلب هذه الأجيال ضعيفة بلغتها الأم، لا تحيط بها، كما يجب، وأخذت اللهجات العامية المترعة بالألفاظ الدخيلة، والتسميات والمصطلحات الأجنبية، تطوّق هذه الأجيال في المدارس والمعاهد والجامعات، حيث تراها ماثلة أمامها في كل مكان: في الدعاوات والإعلانات واللائحات على الجدران وفي الشوارع، وعلى واجهة المحلات المختلفة، ومكاتب المحامين وغيرهم وعيادات الأطباء والمشافي والصيدليات، كما تشاهدها في الأفلام والمسرحيات، وفي برامج التلفاز المختلفة، وتسمعها في أجهزة الإعلام المسموعة، يستعمل الناس الألفاظ والمصطلحات الأجنبية، ويلفظون المخترعات والمبتكرات الغربية الوافدة إلينا بأسمائها الأجنبية دون أَن يعلموا أَن كثيراً منها عرّبته مجامعنا اللغوية، أو أوجدت ما يقابله في اللغة العربية.

وقد ألف الناس هذه الألفاظ الغربية الوافدة لكثرة استعمالهم لها حتى إذا علمت فئة قليلة منهم تعريبها أو ما يقابلها في اللغة العربية آثرت ألسنتهم المفردة الأجنبية على المفردة المعرّبة أو العربية. وآية ذلك أَنَّ الألفاظ الدخيلة تحظى بترويج إعلامي، وتداول شعبي لها أكثر مما تحظى به الألفاظ العربية أو المعرّبة التي ينجزها المجمع اللغوي والعلمي. يحدث هذا كله، ومؤسسات الدولة، وتنظيماتها المختلفة، لا تعلم عن مجمعها شيئاً، ولا تدري ماذا حقَّق من إنجازات، هذا إذا افترضنا أنها سمعت بوجوده.

إِنَّ دور المجمع محدّد واضح هو النهوض باللغة العربية وتجديدها بما يمكّنها من مواكبة العصر والتصدي للغزو اللغوي الغربي من خلال مؤلفاته وإنجازاته اللغوية أمّا الترويج لإنجازات المجمع وتداول ألفاظه فليست مسؤوليته، وإنما هي مسؤولية الدول بمؤسساتها المختلفة لاسيما التربوية والإعلامية والثقافية، ويؤخذ على الدولة تقصيرها الشديد في هذا المجال، ويبدو أنها في واد ومجمعها في واد آخر.

أَمّا على المستوى القومي، فالخلافات السياسية بين الدول العربية، غيّـبت الإرادة السياسية في تكوين رؤية قومية واحدة، تشدّ أَزر اللغة العربية في مواجهة التحديات، ضمن خطة محكمة، تـتبناها جامعة الدول العربية، وتلتزم بها دولها، رغم إدراك هذه الدول أَنّ اللغة العربية أَقوى رابط قومي يجتمع عليه العرب، فالخلافات السياسية دفعت المجامع أَن تفترق عن بعضها، وينعدم التنسيق فيما بينها لمواجهة التحديات القائمة، فما زالت بعض الدول العربية لم تتخلص إلى اليوم من هيمنة اللغة الأجنبية على مؤسساتها العلمية والتربوية رغم ما تبذله من جهود في مجال التعريب، فدول تدرّس اليوم الطب والعلوم الأخرى باللغة الأجنبية، ودول أخرى تدرّسها باللغة العربية، دولة تتداول مصطلحاً لمدلول ما، تتداوله دولة ثانية بمصطلح آخر،مجمع يقر استعمال مفردة دخيلة، وثانٍ يعرّبها، وثالث يوجد لها ما يقابلها في العربية، مجمع تفوته طائفة من الألفاظ الدخيلة دون أن يتداركها، وآخر يتدارك بعضها، وثالث يتدارك بعضها الآخر...وهكذا.لا شك أَنَّ لغتنا ليست منعزلة عن لغات العالم، فهي جزء منها، وهي تتفاعل معها، وتتأثر بها، ونتمنى أَن تؤثر فيها، وهي تعيش في عالم أخذت أقطاره اليوم تتقارب نحو بعضها، لكن ثمة فرق بين لغة تتأثر بلغة، ولغة تتعرض لغزو لغة بل لغات، تهدف إلى القضاء عليها، وقد أصبح تنامي تسرب الألفاظ الدخيلة في نسيج لغتنا العربية يشكل خطراً على مستقبلها، وليس كما يتوهم بعض الناس أَنّه جزء من تطوّر طبيعي لها، سوف يأخذ مداه، تفرضه سِنّة التطور.إِنَّ التطوّر اللغوي الطبيعي له مقاييس وضوابط، لا يخرج عنهما، وإلاَّ أصبح فوضى وانفلاتاً.

نجاح اللغة العربية في مواجهة التحديات:

تستطيع اللغة العربية أَن تواجه التحديات بكفاءة إذا توفرّت لها عوامل النجاح، وأَحسب أهمها، يتمثل فيما يلي:

1- إِنَّ اللغة العربية مرنة، تحمل في بنيتها بذور النماء والتطوير والتجديد بما فيها من نحت واشتقاق وتصريف، فهي لغة حية قادرة على استيعاب مستجدات الحياة والتعبير عنها، لكنّها لا تستطيع وسط مجتمعاتها المتخلفة التي تجهلها أَن تنهض، وهذا الغزو اللغوي الغربي للغتنا العربية جزء من غزو حضاري غربي لأمة متخلفة مجزّأة، علاقتها بالغرب المتقدم الذي ملأت إنجازاته المادية والمعنوية حياتها ليست علاقة الند للند، وإنّها لا تستطيع مواجهته إلاَّ بنهوض حضاري شامل، يواكبه نهوض لغوي، يجعل اللغة العربية أكثر قدرة على امتصاص السيل اللغوي الوافد و احتوائه.

2- قرار سياسي يعزّز مكانة اللغة العربية:
إِنَّ تعزيز مكانة اللغة العربية، و تنشيط دورها في مواجهة التحديات التي تحيط بها من كل جانب يحتاج إلى قرار سياسي جاد على الصعيدين القطري و القومي.

1- على الصعيد القطري:

1ً- أن تعمل الدولة من خلال مؤسساتها التربوية و الإعلامية و الثقافية على تنمية الوعي اللغوي لدى المجتمع، و تبيّن له أهمية دور اللغة في حياته و في تحديد هويته، و توحيد شمل أمته، و التحدّيات المحيطة بها التي تضعف دورها، وتستهدف وجودها، و أَن تكثر الدولة في أجهزتها المرئية و المسموعة من البرامج الثقافية و الفنية و مسلسلات الأطفال و المسرحيات و الأفلام الناطقة باللغة العربية الفصيحة المبسطة، وتدعو إليها، وتحبّب إلى المجتمع لغته تحبّباً يجعله يقبل على إتقانها، ويصرفه عن الكلمات الدخيلة إلى استعماله كلمات عربية دالة عليها، أو كلمات معّربة عنها، من غير أَن يقف هذا الإقبال حائلاً بينه وبين إتقانه لغة عالمية، ينفذ منها إلى العالم .إِنَّ جهل المجتمع لغته ، يضعف دورها في حياته، و يشكّل تحدياً إضافياً لها، و منفذاً يلج منه أعداؤها للنيل منها.

2ً- أن ترفع الدولة من خلال مؤسساتها التربوية و التعليمية مستوى الطلاب في تعلّم مادة اللغة العربية بما يؤدي إلى تجاوز ضعفهم بها، و إتقانها إياها، و تستطيع الدولة بلوغ هذا الهدف الذي ينطبق على المواد الدرسية الأخرى، إِذا وفّرت للعملية التربوية التعلّيمية ثلاثة شروط أساسية: تبسيط المادة بأسلوب تربوي متطور، وفقاً لخطة مدروسة، و مدرّس كفؤ مُعَدّ لتدريس مادته إعداداً جيداً، و تحسين وضعه المعيشي بما يحفّزه للتفرغ في تدريس مادته وحسب، ويصرف تفكيره عن تصيّد طلاّبه، وطرق أبوابهم ، أو هرولته إلى المعاهد الخاصة.كما تستطيع بعض الدول، وهذا من واجبها، التي مازالت تدرّس إلى اليوم في مدارسها و معاهدها و جامعاتها المواد العلمية والطب و الصيدلة و الهندسة و غيرها باللغة الأجنبية، أن تعتمد اللغة العربية في تدريسها، و تستفيد من خبرة الدول التي سبقتها في هذا المجال.

3ً- أَن تفعّل الدولة دور مجمع اللغة العربية من جانبين:

1-أن تعمل على تنشيطه، وتطوير أدائه من خلال توسيع صلاحياته وتعميقها، بحيث تشمل كل فروع العلم و المعرفة و الأدب و الثقافة و الفن و الفلسفة و الفكر، وكل ما له صلة بمختلف جوانب الحياة، و أَن ترفده بمزيد من الأعضاء الأَكْفَاء في مختلف الاختصاصات ممن يتقنون لغات عالمية حيّة، و تمنحهم الحوافز المادية المجزية التي تليق بدورهم الهام.

2-أن توثق الدولة الصلة بين مجمع اللغة العربية ووزاراتها و مؤسساتها و تنظيماتها، و أَن يرفدها المجمع بما يخصها من المفردات و المصطلحات، وأَن تعمل أجهزة الدولة على تعميمها إلى قطاعاتها التابعة لها، تستخدم منها ما يخصها في شؤونها، و تعتمده في خطابها، و تسيير أعمالها، و تطبع الدولة كلّ ما ينجزه مجمعها، و عليها أَن توجّه مؤسساتها المختلفة، لاسيما الإعلامية و التربوية و الثقافية إلى الترويج المستمر المنظم لإنجازات مجمع اللغة العربية، وحين يجد المجتمع نفسه محاصراً بالترويج الإعلامي لإنجازات مجمعه، فلا مناص له من استعمالها والتآلف معها، و لعلّ من أسباب إقبال المجتمع على استعمال الألفاظ الدخيلة التي عرّبها المجمع، أو أَوجد لها ما يقابلها في العربية هو قصور هذه المؤسّسات في الترويج لمنجزات المجمع، فالكلمة تحيا بالاستعمال، وتموت بالإهمال.

2- على الصعيد القومي:

أن تضع الدول العربية المصلحة القومية العليا فوق خلافاتها السياسية العابرة، فتتخذ قراراً سياسياً بتوحيد مجامع اللغة العربية، أو في الأقل ترفع مستوى التعاون و التنسيق فيما بينها إلى أعلى درجة ممكنة، و تنشئ هيئة قومية موحدة لمجامع اللغة العربية تشرف عليها جامعة الدول العربية، يكون مقرها إحدى عواصم الدول العربية،ويتألف أعضاؤها من رؤوساء مجامع اللغة العربية أو من أعضائها الآخرين، هيئة، لا تتأثر بالخلافات، و تتجاوز الولاءات السياسية الضيقة، تعمل على رصد الدخيل وتقد يم البديل،و توحيد المصطلحات والإنجازات اللغوية، وإنجاز معجمات متخصصة: لغة، طب، علوم طبيعية، هندسة، فلسفة......إلخ، تطبعها بين كل فترة و أخرى، وتضيف إليها في كل طبعة جديدة آخر الإنجازات اللغوية المستجدة في كل تخصص، فمجامع اللغة العربية إذا تعاونت فيما بينها، استفادت من خبرات بعضها، وكانت أقدر على مواجهة التحديات المتمثلة بالغزو الحضاري و اللغوي و الانفجار المعرفي.

إِنَّ على الدول العربية وجامعتها مسؤولية كبرى في تطويراللغة العربية، و تفعيل دور مجامعها اللغوية، ومن واجبها نحو لغتها أن تكثر من إقامة المنتديات و المؤتمرات اللغوية، و تدعو إلى تبادل الزيارات والخبرات بين مجامع اللغة العربية و تخصّص جائزة سنوية تمنح للمبدعين في اللغة، و من أسهم في تطويرها، فاللغة صورة عن أبنائها، إن نهضوا نهضت، و إن تخلّفوا تخلّفت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى