الاثنين ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
الرجل الذي كان يعشق الموسيقى
بقلم عادل الأسطة

قراءة في قصة جبرا

قصة " الرجل الذي كان يعشق الموسيقى " هي واحدة من قصص مجموعة جبرا إبراهيم جبرا القصصية الوحيدة التي عنوانها "عرق وبدايات من حرف الياء " التي صدرت طبعتها الأولى في العام 1956، وتوالت طبعاتها إلى أن وصلت إلى خمس، أضاف إليها جبرا قصة واحدة.

وقصص جبرا إبراهيم جبرا هذه لفتت أنظار دارسي فن القصة القصيرة في فلسطين ، فكتب عنها غير دارس. تناولها دارسون وهم يدرسون هذا الفن ،وتناولها آخرون وهم يدرسون جبرا إبراهيم جبرا أديبا. وقد توقفت أمام استقبالها في دراسة مطولة كتبتها للمؤتمر الذي عقدته جامعة بيت لحم في 28 و29 آب من العام 2004، وصدرت في كتاب ضم أكثر الأوراق التي ألقيت تحت عنوان:

"مؤتمر جبرا إبراهيم جبرا " وقد حرره كل من د.محمود أبو كته ود. عزيز خليل

دال العنوان :

يتكون العنوان من جملة اسمية طويلة تتكون من خمس مفردات، إذا غضضنا النظر عن اسم كان، وهو ضمير مستتر يعود إلى الرجل.ويمكن أن يقرأ المرء العنوان قراءتين، وهو يقرأ القصة ضمن مجموعة جبرا على النحو التالي:

هذه قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى، أو الرجل الذي كان يعشق الموسيقى من قصص جبرا،
وتفتح القراءة الأولى للعنوان المجال لتأويلات منها: ماهي قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى؟ من هو الرجل الذي كان يعشق الموسيقى؟ولماذا كان الرجل يعشق الموسيقى؟ وهل توقف عن عشقها؟ ولماذا توقف عن عشقها إذا كان توقف عن عشقها بالفعل؟ ما السبب؟ هل يكمن في أنه انشغل عنها بشيء اخر أهم؟أم أنه مات فتوقف عن سماعها؟

وإذا ما تذكرنا أن هذه القصة كتبت في مرحلة مبكرة من حياة جبرا في العام 1956 أو قبله، فهل يكتب جبرا عن رجل عربي أم عن رجل أوروبي؟ وإذا كان يكتب عن رجل عربي،فمن هذا الرجل، والى أيه فئة اجتماعيه ينتمي؟ لابد أنه مثقف أو مسيحي.لماذا؟ لأن غير المثقفين لم يكونوا،في أوساط القرن العشرين، يهتمون بالموسيقى وسنعرف أنه ليس مثقفا .وأما أنه مسيحي ،فلأن للموسيقى حضورا لافتا في حياة المسيحيين، ينشأون على حبها ، منذ ذهابهم إلى الكنيسة. وسيكتب جبرا قي سيرته الذاتية "البئر الأولى " عن هذا الكثير ، ولكن " البئر الأولى " صدرت في العام 1987- أي بعد ثلاثين عاما من صدور "عرق " وستضيء لنا السيرة جوانب ربما نغفل نحن عنها، ممن لم ننشأ في بيئة مسيحية، أو في بيئة ثقافية غنية تهتم بالموسيقى اهتماما لافتا.

موجز القصة :

تدور القصة حول رجل يقيم في مدينة لا يذكر اسمها، يغدو، حين يصل الأربعين، ثريا بطرق عديدة قد يكون منها الغش والخداع، ويغيب هذا عن المدينة فترة من الوقت، يفتقده الناس خلالها. ويكون، في أثناء غيابه، ذهب بصحبة مهندس لبناء قصر له في قمة جبل.وحين يعود إلى المدينة يجمع اسطوانات الموسيقى التي كانت في بيته، ويرحل، هو الذي كان يتحدث مع الناس بتحفظ. ويقيم في قصره المتواضع الأثاث ، ويستمع إلى الموسيقى، ولا يكتفي بذلك ، إذ يريد للآخرين أن يستمعوا إليها، وهكذا يربط (الغرامفون) بسماعات، ليصدح الصوت في أعالي الجبال، ويقرر ذات يوم الانتحار، فيشغل (الغرامفون ) ويذهب إلى الصخور ليموت بينها، وهو يستمع إلى الموسيقى، بعد أن يكون مزق الجنيهات التي جمعها، لأنه يحتقر المادة.

القصة بين الحقيقة والخيال :

في دراستي "جبرا إبراهيم جبرا والقصة القصيرة " توقفت أمام هذا العنوان الفرعي، وأوردت أراء الدارسين في قصص جبرا، وأراء جبرا نفسه في قصصه (أنظر ص137 ، 138، 139، 140)
وأتيت أيضا على القصة موضع الدراسة.

يفتتح جبرا قصته بالفقرة التالية :

"هذه قصة غريبة يكاد المرء حالما يسمعها يقول: أن قصتك ياهذا مستحيلة، ولكنني صدقها القارئ أم لم يصدقها، لا أحجم عن روايتها ثانية. وسأرويها لك، كما رويتها لغيرك، ولك ان تصدق أو لا تصدق "( ص198، ط5، 1989)
من هو الراوي ومن هو المروي عليه الذي يخاطبه الراوي ومن هم المروي عليهم الذين كان قص عليهم هذه القصة؟ ثم لم يفترض الراوي أن القراء لن يصدقوها؟

ثم هل الراوي غير الكاتب، وهل المروي عليه غير القارئ؟

يبدأ السارد قصته بإدراكه أن سامع القصة حالما يسمعها سيقول: أنها مستحيلة. وسرعان ما نجده يلتفت إلى القارئ:" ولكنني صدقها القارئ أم لم يصدقها "، ما يعني أن الراوي هو الكاتب، وأن المروي عليه هو القارئ. ولكن الراوي كان روى القصة على مسامع آخرين، فهل كان، قبل أن يكتبها وينشرها، ليقرأها القارئ، هل كان رواها مشافهة على بعض معارفه، ولم يصدقوها؟ ومع ذلك كتبها لينشرها؟

السؤال هذا يقودنا إلى طبيعة قصص جبرا هل كان جبرا، مثل محمود سيف الدين الإيراني، ينسج قصصه ويستمد شخصياتها من الواقع الذي يعيش فيه؟ كان الإيراني، كما يقول عن شخصيات قصصه، يستمدها من واقعه، هو الكاتب الواقعي، ولكن جبرا لم يكن يفعل ذلك، فقد كان يكتب عن شخصيات من نسج خياله، ليكتشف، فيما بعد ، أنها قد تغدو واقعية ، وهذا ما حدث معه حين كتب، في بداية حياته، قصة " ابنة السماء ". بطلة القصة. من نسج الخيال ، ولكنه ، بعد عام ، سرعان ما التقى بفتاة تشبهها.

القارئ المتغير في الزمان :

ربما لا نستطيع أن نوحد بين كاتب القصة وراويها إلا زمن كتابتها، أما الآن فجبرا في ملكوت السماء. لقد رحل وانتهى، ومع ذلك فما زال راوي القصة يرويها. ويمكن قول الشيء عن المروي عليه فيها زمن كتابتها. لقد مات الأشخاص الذين عاصروا جبرا وقص عليهم قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى. وقارئ القصة اليوم غير قارئها زمن كتابتها، فإذا كان ذلك لا يصدق ما ورد فيها، فهل ينطبق الأمر على قارئها الآن، في القرن الحادي والعشرين؟

ربما لا يجد قارئ القصة اليوم، في القصة التي يقرأها، قصة جبرا، الرجل الذي كان يعشق الموسيقى، ربما لا يجد أية غرابة. وربما تنتفي الحاجة لأسطر مفتتحها التي اقتبستها. ما كان يدعو إلى الغرابة في العام 1956 أو قبله، ما عاد يبدو غريبا في العام 2007. وسرعان ما يشعر قارئ القصة اليوم، أنه ليس المخاطب في النص. إن القارئ الذي في النص قارئ آخر، ينتمي لزمن آخر كانت قصة القصة، قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى على تلك الشاكلة، تبدو له غريبة. هل يعني هذا أن هذه القصة عديمة الجدوى أم انه يجدر أن نقرأها غير غافلين عن زمن كتابتها؟

جبرا وموضوعات قصصه:

ربما يتذكر المرء، وهو يقرأ أكثر قصص جبرا القصيرة، وربما أكثر رواياته أيضا، بخاصة "صراخ في ليل طويل"، ربما يتذكر القصص الأولى في القصة القصيرة الفلسطينية، وتحديدا قصص خليل بيدس "مسارح الأذهان"، وربما يتذكر المرء أيضا مقولات النقاد فيها. إنها قصص لم تكن تمت للبيئة العربية، في حينه، بصلة، وهذا ما جعل د. هاشم ياغي يقول الشيء نفسه عن قصص جبرا: إنها منبتة الجذور، ولا صلة لها بالحياة الفلسطينية.
وحين يقارن المرء ما كتبه جبرا بما كتبه قاصان بارزان في حينه، هما سميرة عزام وغسان كنفاني، فانه، لا شك، سيعزز ما قاله د. ياغي. وجبرا هنا مثل فدوى طوقان وتوفيق صايغ. كان أكثر الأدباء الفلسطينيين، في الخمسينات من القرن العشرين، يكتبون عن قضايا وطنية، واجتماعية لها صلة بالواقع العربي، فيما كان جبرا، ومثله فدوى و صايغ، مشغولا بالتعبير عن تجارب ذاتية عاشها في لندن وبغداد غالبا. وأجواء لندن وبغداد،وتجارب جبرا فيهما بعيدة كل البعد عن الواقع الفلسطيني الذي لم يأت عليه جبرا في قصصه إلا لماما.

هل نتذكر هنا ما قالته فدوى طوقان عن رد فعلها إزاء طلب أبيها منها أن تكتب، بعد وفاة إبراهيم، شعرا وطنيا؟ في سيرتها "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" تعلمنا فدوى أن أباها، طلب منها ذات يوم، بعد وفاة إبراهيم، أن تكتب قصائد وطنية، هو الذي كان يهملها ولا يلتفت إليها، ولا يسمح لها بالمشاركة في الأحداث السياسية. وتعلمنا أيضا عن ردة فعلها، إذ رفضت تلبيه طلب أبيها متسائلة: بأي حق يطلب أبي مني أن أكتب شعرا وطنيا، ولم يكن يسمح لي بالخروج من المنزل، وأنا لا أكتب إلا عن تجارب أمر بها؟

وجبرا كان، في نهاية الأربعينات، وبداية الخمسينات، بعيدا عن فلسطين، ولم يعش مآسي الناس ونكبتهم، ولم يمر بها، وهكذا لم يكتب عنها إلا لماما. لقد كتب عن تجاربه في لندن، عن دراسته هناك، وعن علاقته بالفتيات الإنجليزيات والشباب الإنجليز وغيرهم من زملاء الدراسة، وهذا ما يبدو جليا في قصة "السيول والعنقاء".

كانت سميرة عزام تقيم في لبنان، وكان غسان كنفاني أقام في الشام أولا، وبعد فترة قصيرة أقامها في الكويت، عاد إلى لبنان ليقيم فيها قريبا من المخيمات الفلسطينية التي عرف أبناءها واستوحى شخوص قصصه منهم، وهكذا كتب، مثل سميرة عزام، في بعض قصصها، عن النكبة وما جرته على الفلسطيني. عن اللجوء واللاجئ، والخيمة والذل والحصار. هل نلوم جبرا على ما كتبه؟ ربما كان هو نفسه أدرك هذا فيما بعد، وربما لهذا كتب روايته "البحث عن وليد مسعود" التي جاءت مغايرة، في موضوعها وانتماء بطلها الفلسطيني، لكثير مما كتب. ربما.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى