السبت ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

شعرية التجريد والغموض في قصص سعيد بوكرامي القصيرة جدا

تمهيـــــد:

يعد سعيد بوكرامي من أهم كتاب القصة القصيرة جدا في المغرب إلى جانب ثلة من المبدعين المتميزين كحسن برطال ومصطفى لغتيري وعز الدين الماعزي وعبد الله المتقي وجمال بوطيب وفاطمة بوزيان.

ويتميز سعيد بوكرامي عن غيره من كتاب القصة القصيرة جدا في المغرب بكونه كاتبا شاعريا تجريديا تميل قصصه إلى الغموض والإبهام والتلغيز.

هذا، ويقتفي في كتاباته القصصية أثر الشعراء المعاصرين في تسطير الأسطر السردية "المشعرنة" بالإيحاء والمجاز ، ويميل إلى كتابة الخواطر الموغلة في التجريد ، وخلخلة الكلمات وإغراقها في شعرية الانزياح، وانتهاك أعراف المعيار ، وقلب حقائق السطح وتكسير مواضعات الظاهر، والنزوح بالكتابة السردية نحو الفضاء الشعري المجنح في الخيال، وتشغيل التصوير المجرد والتخييل والترميز الذي يتخطى نطاق الحس والعقل نحو التشكيل الحلمي المغرق في فضاء دوال العمق والتأويل.

وبالتالي، فمجموعته القصصية" الهنيهة الفقيرة" خير نموذج على جمالية القصة القصيرة جدا، و خير مؤشر على جودة شعرية التجريد والغموض عند سعيد بوكرامي.

أ‌- البنيـــة المناصية:

صدرت للمبدع المغربي سعيد بوكرامي مجموعته القصصية تحت عنوان" الهنيهة الفقيرة" عن مجموعة البحث في القصة القصيرة التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء في طبعتها الأولى سنة 2002م في إطار منشورات سلسلة" قصص" . ويعني هذا، أن القصة تجمع بين نصوص قصصية قصيرة ونصوص قصصية قصيرة جدا. ومن ثم، لم يجنس الكاتب ما كتبه من نصوص موجزة في إطار القصة القصيرة جدا، بل اكتفى بكلمة" قصص".

هذا، وتضم المجموعة إحدى وخمسين قصة قصيرة جدا وتسع قصص قصيرة في اثنين وسبعين صفحة من الحجم المتوسط. وقد تكلفت مطبعة دار القرويين بالدار البيضاء نشر هذه المجموعة القصصية على غرار مجموعة "جزيرة زرقاء" لسعيد منتسب، و"توازيات" لمحمد الشايب، و"تحديق في الفراغ " لمهدي لعرج، و"شيء من الوجل" لمصطفى لغتيري، و"ققنس" لأحمد بوزفور، و"فنطازيا" لعيد المجيد جحفة، و"زرقاء النهار" لمصطفى جباري، و"فوق المياه الزرقاء" لعيد الحكيم معيوة، و"عناقيد الحزن" لمحمد العتروس ، و"رغبة فقط" للطيفة لبصير، و"أنين الماء" لزهرة رميج، و"سوء الظن" لعمرو القاضي، و"زقاق الموتى" لعبد العزيز الراشدي، و"ترانت سيس" لمليكة مستظرف ، و"باتجاه البر الثاني" لرشيدة عدناوي وآخرين.

ب‌- البنيــــة الدلاليـــــــة:

عالج سعيد بوكرامي في مجموعته القصصية" الهنيهة الفقيرة" مجموعة من التيمات الدلالية، ولكن بطريقة رمزية شاعرية توحي بالغموض تارة، والإبهام الملغز تارة أخرى.

ومن التيمات التي ركز عليها الكاتب نستحضر البنيات المعنوية التالية:

1- الحــــب الزائف:

ينطلق الكاتب من فلسفة خاصة للحب يقترن في جوهره بالجنون والتوقد والاشتعال والارتماء بين أحضان الانتظار والترقب، واختيار لغة التشرد والصعلكة لاصطياد الحب للتقرب من المعشوقة والانغماس في التيه والضلال ومراقبة الأطياف والانتقال من مكان إلى آخر بحثا عن الجسد الممشوق درءا لضبابية الأحزان والكآبة القاتلة:" الحب أن تأخذ ليلا طريق البحر من صهد إلى ضغط إلى كرسي إلى محطة لتوقظ حبيبتك من النوم أو تخفف عنها حزن الفشل أو تجلس أمام عتبة الباب ساعات حتى تفتح صاحبة الدار الساخنة بوابتها المهترئة لتقول لك بعلكتها الشبقية:" صديقتك غادرت الغرفة" لتتشرد بعدها في أزقة المدينة تلاحق عطرها الأخاذ"(ص:54).

ويتحول حب المقاهي إلى زيف ووهم بائس يتلذذ بالخلوة المتعطشة الماجنة إلى بريق الجسد المتعطش. ويمتزج الحب بالحزن والفراغ والضياع البائس، وينساب مع السخرية الغارقة في التيه الأعرج والسواد الأخرس:" نشرب قهوة وعلى زجاج الطاولة نمارس الحب

أقول: متى أحضنك في خلوة؟
النادل يتحرك بتعب. أمسكت غيمة سوداء
وبددتها عن وجهها البائس.
حذاؤها المتوتر ينقر بعنف ساق الطاولة.
أمسكت كفها فارتججنا بعنف وانتفضنا.
أنا إلى مرحاض النساء
وهي على مرحاض الرجال!"(ص:70)

2- الهجــرة:

يصور الكاتب معاناة المهاجرين السريين الذين ينبطحون في غربتهم الذاتية والمكانية، يسردون مغامراتهم اليائسة ويدبجون نفيهم السيزيفي شعرا، ويحنون إلى ديارهم المنهوكة بحثا عن طفولتهم المنسية:" في هذا الليل هرب إلى مرسيليا.اختفى وراء الزجاج.عوسج المحيط. خطوات في رياح يونيو الغامضة تراقص الآن علما منكسا.

ولأن الطريق طويلة ردد طوال الأرق والضجر:
" المنفيون ليسوا دائما أحرارا في التنزه نهارا
أو إذابة البرد أو شرب مياه الذكريات
دون شرق دون إغماء . غالبا يتبخرون مع ضباب
الصباح في عجالة كأضواء السيارات
يطيلون الوقوف أمام ركن الوفيات
يبحثون عن أبجدية السلالة بين رماد الكلمات

المنفيون وحدهم لايكشفون أسرارا. تضيع مواهبهم في كتابة الرسائل الشعرية وعنفوانهم في انتظار الرجوع إلى طفولتهم البعيدة في الديار..."(ص:54-55).

ويتحرك البحر في هيجانه وتمزقه الطبيعي مدا وجزرا، ويقذف بالجثث الميتة ويرميها فوق الصخور الصلبة أو المفتتة لاعنا الظلم البشري والشطط الآدمي والحزن الإنساني:" البحر لاينام أسفل الحافة.

في كل وقت يرمي الجثث يرطمها بالحجر الصوان. مشت الغيوم وحدها مرقشة بعرق الصيادين. ما أكثر الأمواج في الشتاء تناوش عتبات الحزن. أطفال البحر يخترقون الخواتيم. بوخطوة. الدريجات. الحفيرة. يقتلعون البلح. الحلزون. الأخطبوط. الصدفات. وحين تغلبهم الأمواج يتراجعون تسيجهم الأكياس، وعند نهاية كل شهر يتناقصون من خبر كان."(ص:58)

وتتلون الهجرة كمدا وتعاسة في بلدنا القاحل الأجرب، المحفوف باليأس والحزن الأسود، والمغلف بالصمت الزكام والانتحار الأبدي والموت القابض:" كانوا ثلاثة ورابعهم النحل
تحدثوا عن البحر عن الهجرة وعن الصمت
قطرات صغيرة تلتقي في الليل
لأن الربيع مات ولأن الأزهار ماتت
جاء النحل إلى دخان المقاهي إلى طاولات الموت
يحدق فيها بيأس. يختار عنق الزجاجة وينتحر."(ص:60)

و"يشعرن" الكاتب الهجرة السرية في قصة" الحظيرة" ليلعن الواقع الموبوء، ويرثي الأطفال المنكسرين الذين تقتاتهم حيتان الضفة الأخرى بحثا عن ملاذ وردي لأحلامهم المستقبلية، بعيدا عن بلدهم المنخور بالفقر والحاجة والفاقة المستمرة. وتتحول الصخور البحرية إلى مآتم المهاجرين الذين يعبرون البحر المخيف إلى الضفاف الآمنة الموهومة:" كم فرشت من كلام لعبورك الخاطف إلى الصباح. ودعت الفجر المعشوشب بأحلام، واستوطنت الصخر الناتئ أعلى الموجة، أسفل زرقة الانتظار. سكبت اليقظة في كؤوس النعاس وعلى نخب عيون الحيطان بالقيل والقال.

بينما السمك الإسباني يقتات من عيون الأطفال، وبلا خجل، تركض الذاكرة البيضاء في حظيرة الخنازير."(ص:53)

3- الحزن والسواد:

يجسد الكاتب في مجموعته القصصية الحزن الإنساني والقتامة البشرية، ويعكس صراع الفنان المبدع مع متاريس ذاته ومعيقات الواقع الموضوع، ويستسلم للألوان الحارة بحثا عن الألوان الباردة ولكن بدون جدوى في هذا العالم الذي يقزم فيه الإنسان أمام كثرة السواد والأجساد المثخنة بالجروح:" يتأمل اللوحة التي أنجزها تحت ضوء اللمبة المرتعشة. زحزحها بكتفه حين استقام. انعكس نورها رقصا عموديا. أثاث الغرفة جامد. شيء ما بقي متسترا وراء الألوان الداكنة. يودها فاقعة. لكنها لسر يجهله جاءت حدادية وباردة.حتى البرتقالة انفتقت وخرج منها دم أسود. جلد داكن تعفن جرحه. شيء ما لايفهمه تجسد. يريد شيئا وجاء شيء آخر. منذ تلك الليلة دخل مرحلة أخرى. إنها مرحلة البرتقال الأزرق."(ص:56).

ويتمظهر الحزن والسواد في معاناة الإنسان من الوحدة والعزلة والغربة الذاتية والمكانية والتسكع في شوارع التشرذم والضياع ومقاهي التذكر والنسيان، والارتماء بين أحضان الشعر لاجترار الآلام والأسقام في هذا الحاضر البئيس كما يتجلى ذلك واضحا في قصة" العزلة"(ص:58)

ويتسيد الحزن والوحدة والغربة في قصة" الأنفاس"(ص:51)، ويثور فيها الكاتب على هذا العالم الأخرس الذي تنخره الآلام والأدواء الصارخة والأحزان السوداء الباكية، و الذي تطوقه تعاسة الانتظار والترقب ،ويصيبه الدوار والعرق.

ويبلغ الحزن ذروته مع القحط الأجرب والجفاف الأقسى والزمان الأصعب الذي يحول الطبيعة إلى جحيم لايطاق وموت لايحتمل:" كوكب عتيق تقلصت أنفاسه وتشققت. زمن مهشم. آلهة المعدن. قرية صغيرة. أطفال يهربون من الشمس.غبار وتين. وجوه كاكية. وباء طحلبي. أبيار غسق. فحيح ونار الحمى.غيوم قانية فوق الصومعة تتدلى. صهد وصدأ المراعي. أطفال يحتمون من صبيب الحشرات ولهب السماء. يتكورون تحت كلبوتسات منهارة وينتظرون بكاء الغيوم."(ص:53).

4- الشبقية الماجنة:

ينجح الكاتب في تصوير المشاعر الشبقية والتقاط الأحاسيس الجنسية الماجنة ، ويسهب في التقاط أنفاس الأنثى التي ترتمي على سرير الغواية والفتنة مسترخية من أجل استنشاق هواء الحب ونسيم الفضاء الخارجي. تذكرنا قصة" المومياء" بلقطات الأفلام البورنوغرافية الغربية التي توحي بتلاقح الأجساد وتداخلها وانصهارها في بوتقة إيروسية واحدة:" الساعة الحائطية الفضية تدق ثلاث دقات بابانية. النافذة مفتوحة وستارتها البيضاء تتموج. حفيف رياح صيفية. جسد أنثوي متلفح بإزار وردي. دون حراك. يترك للغرفة حرية صمت وغموض. شعر كستنائي طويل تتدلى بعض خصلاته فوق المخدة البيضاء.

شجيرات أرز ترتدي أردية ثلج. تأوه الجسد. طلب كأس ماء. عاد إلى دوخته. نهدان مرتخيان. تنفس ثقيل. فشل في العنفوان."(57)

وتحترق الشبقية وتشتعل توهجا ونزوة في قصة" الكأس" ، وتنساق الأنثى وراء بريق المتعة والغواية والاستهتار معبرة عن زيفها وجمالها المصطنع ودلالها الذابل المعبر عن الفراغ والانهيار والتأشير على العبثية واللاجدوى.

وتوحي قصة" الجوع" (ص:66) بالرغبة العارمة والشوق المتدفق إلى التحام الأجساد المسعورة والميل إلى الانبطاح الشبقي من أجل الاستمناء والارتواء من لسعات اللقاء والاختفاء في الغرفة الدافئة.

5- الضياع والاستلاب:

يشخص الكاتب في قصة" الغلق" الشباب الضائعين الماجنين والمستلبين الباحثين عن القيم الزائفة الموهومة في زمن العولمة التي تحولت إلى "غولمة " قاتلة في عالم منحط يفتقد إلى القيم الأصيلة ويعاني من الفراغ الروحاني:" لايكفون عن الرقص. حديقة ألعاب غاصة بهم. سراويل جينز مرقعة بهم.

يقفون فوق الأصابع، فوق الأيدي ويضربون الهواء والأرض والسماء.

في المساء ينسحبون إلى الشجر الظليل المحشو بالحشرات. يجلسون تحته يدخنون السجائر والصور.

وفي الثانية عشرة يلمعون أحذيتهم ويدهنون شعرهم ويقفون بلا أجنحة كملائكة طردت للتو من الجنة."(ص:60).

ويقترن الضياع بالفراغ والترقب وانتظار الذي يأتي ولا يأتي، وتأمل السماء بحثا عن الأمل البراق في زمن اللاجدوى والعبث الوجودي والملل والسأم الدنيوي الناتج عن الفراغ الروحاني ونقص للإيمان الأبيض الصافي:"آخر مرة وقف فيها أمام النهر.

كان الآخر يجلس أمام كوخه يصطاد الفراغ

سديم يراقب الماء الأصفر المتدفق إلى جوف مدينة حالمة بكوابيسها.

كأنه غير معني بتلك القبور. داعب القصبة وأرسل خيطها فوق سطح الماء.

يقضي عمره هكذا. قصبة تراقص الماء وعينان تراقبان السماء."(ص:61)

ويرتبط الضياع والفراغ بالهباء العبثي والانتهاء الوجودي والموت المحتوم والتشتت البشري وتفوّر الدم الإنساني من شدة المغامرات الخارقة:" ها...ها...ها...ها...

كلا لم تكن...أصابعي يتقافز منها الدم. مغامرة خرقاء.

على تلك الأنقاض قعقع وحده يتطلع إلى الأسفل المعشوشب بالهباء.
وقف صاحب البناية يتأمل أشلاء السكان.
ها... ها....ها....ها...
ماتوا في عسل الأحلام!"(ص:67)

ويضيع الإنسان في غربته ووحدته القاتلة وعزلته الوجودية الطاحنة مشلولا مأسورا بأغلال الضياع والهباء والفراغ المميت بدون أحلام مستقبلية ولا آمال واعدة وردية كما يتجلى ذلك في قصة" الأجرد".(ص:67)

ويبلغ اليأس بالإنسان مبلغ المأساة والتراجيديا، فيتراقص الموت بأنيابه ومخالبه الحادة ليعبر عن الفراغ والعطش والخيبة الموهومة:" وقف أمام الشاهد. التراب ناشف. الأعشاب عطشى. تداعت أنفاسه الحارة بين الريح والذاكرة. ضرب بحذائه الشاغر وخيبات الجموح ومفازات الوهم.

بدت له السماء زرقاء أكثر من اللازم، فمهما تشبث بتلابيبها، فلن تقوده إلا إلى مزيد من البرد.

ليس بمقدوره أن يسأل الآن:
"لماذا فعلتها وحدك؟"(ص:52).

ونجد نفس الضياع والحزن المتعب والدوار القاتل في قصة"الساق"(ص:56) التي يتغنى فيها الكاتب بذوبان الذات وتآكل الإنسان وتمزقه نفسيا وتشرذمه اجتماعيا وانفجاره كالبركان من الداخل لامتصاص الأحزان القاتمة والآهات اللعينة.

ويناجي الكاتب إيقاع الصمت والموت والعزلة والموت في قصة" القبر"(ص:69) لينشد سيمفونية الرعب وتمزق الذات وانهيارها في مدارك النسيان والأمكنة الموحشة المطلية بالخيبة والسأم الممل والوهن البارد.

6- سخريـــة القيــم:

يسخر الكاتب من المتسولين والمريدين السالكين طريق الاستجداء والتوسل، والمتشبثين بذكريات القرون البائدة و المتعطشين إلى سجاف ماضي الأسلاف المنقرض. ففي قصة" المريد" يبدو زاهد القصة غير مبال بالبرد وقسوة شوارع المدينة، يداعب سبحة التقوى والتدين، يكتشف الغيب ويستشرف المستقبل على ضوء النقود التي يستجمعها من الأجاود الكرام:"جلسته جد مريبة. من يستطيع الصبر على برد ذلك الطوار غير مريد لغياهب القرن البائد. يداعب سبحة ويتطلع إلى اللاشيء.

بثقة عجيبة في كشف شيء ما، يقضي الصباحات هناك.
لايبالي بما تراكم من القطع المعدنية. حين سينصرف سيداعبها قليلا ثم يوزعها على الأطفال.
كنا نحن نترقب وقفته الرائعة طوال الطفولة ولم نكن نصدق هذا السخاء"(ص:50-51).

وتمتد هذه السخرية إلى شجع الجائعين الذين يريدون أن يبطشوا بكل شيء، يتكومون حول المائدة من أجل التهامها بلهف شديد كأنهم في حرب ضروس تؤكل فيها حتى البطون والأحشاء البشرية:" لماذا كل هذا التوتر؟

يتكهربون جميعهم كأنهم متأهبون للحرب.
يتفاقمون كأنهم في نهاية الهزيمة.
يتدافعون إلى مائدة الطعام كأنهم في ذروة المجاعة.
لحظة من فضلكم، يصمون آذانهم يغوصون في أعماق البحر.
أمد يدي إلى أحشائي فلا أجدها"(ص:69-70)

7- السلطة والحبروت:

يشخص الكاتب ضمن مجموعته القصصية من خلال رؤية تراجيدية قاتمة قوة البطش والجبروت وتصوير الخونة وقاتلي الشعب الذي يبطشون بالمواطنين الأحرار الذين يكرهون الورود ويدوسونها عنوة وقهرا، ويكرهون الحرية والبراءة، ويترهلون في التسلطن والطغيان، يشربون دماء الضحايا ويتلذذون بالتنكيل وتصفية الأرواح البشرية الصارخة:"3796 هو رقم الفيلة.

العجوز ترهل جلده وتدلت عيناه.
العجوز لايحب الأزهار، لهذا زرعها في الممر.
يدهسها كلما عاد من كرنفال الدم.
تكلله أرواح صارخة مقطعة الأوصال مثقبة بالرصاص
تخترقها أنوار ناصعة البياض
هاهو ينزل من السيارة المصفحة. يفتح البوابة
ويدخل إلى المقبرة.
يزيح الرخام الأمريكي ويتمدد في البرد."(ص:55-56).

بيد أن الطاغي يتعرض دائما للافتراس في الأخير من قبل الآخرين، ويكون عرضة للانتقام من قبل المظلومين الأبرياء الذين انتهكت حقوقهم واستلبت حرياتهم: " ترك وراءه جدرانا مزينة بالرؤوس المرعوبة
وخرج للصيد
معداته الجهنمية لم تشفع له.
قال مرافقه الذي فر:
رأيت بنات آوى يفترسنه ببطء"(ص:72)

ج- التقييـــم الــدلالي:

ينطلق سعيد بوكرامي في مجموعته القصصية" الهنيهة الفقيرة" من رؤية وجودية عابثة من مقوماتها الألم واليأس والمأساة، ونعي الإنسان المعاصر الذي تحول إلى رقم أو شيء بدون معنى. ويعني هذا أن قصص هذه المجموعة عبارة عن تراجيديات الرعب والموت والخوف صيغت في قالب كاريكاتوري تجريدي، الغرض منها التسفيه بمواضعات الواقع وتشويه قيمه المهترئة التي تحيل على انحطاط الواقع البشري وتهاوي الإنسان في مدارك الغواية والفتنة، وانسحاقه السيزيفي أمام عنف البطش والقوة الساحقة التي يتسلح بها القوي الشرير ويشهرها في وجه الأطفال والأبرياء والناس الضعفاء.

يتجاوز الكاتب التعبير المباشر والدلالات السطحية ليقدم لنا قضايا اجتماعية وذاتية وإنسانية بصيغ مجازية شعرية تتوخى الغموض والإبهام. و بالتالي، تستلزم قصصه قارئا ذكيا واعيا قادرا على تفكيك شفرات القصص، ويعرف كيف يتغلغل في أعماق دلالاتها قصد الظفر بحقائقها ومدلولاتها الصامتة على مستوى السطح والصارخة على مستوى العمق.

وعلى أي حال، فالكاتب يدين في هذه المجموعة انهيار الإنسان، ويسجل تناقض القيم الاجتماعية واضمحلال القيم الأصيلة، وتراجع الخير أمام اكتساح الشر لقلوب البشر التي صارت أكثر قسوة وبرودة. ويرسم الكاتب لوحاته القصصية بريشة الألوان الحارة التي تطغى على الألوان الباردة في تشكيل عالم الإنسان والأطفال والشيوخ.

ومن مظاهر الانحدار الآدمي في عوالم القصة الكائنة والممكنة انتشار الفتنة والغواية الشبقية التي توحي بالمسخ والامتساخ وانهيار الأنثى و تقعر الحب الإنساني، وتحوله إلى حب مزيف موهوم ومحفوف بالغواية الشيطانية ، وتدمير الحياء البشري والحياة الإنسانية بسبب انتشار الرذيلة على حساب الفضيلة.

ويسخر الكاتب من القيم المجتمعية، ويبرز تناقضات الواقع الذاتي والموضوعي ، ويتهكم بالمتدينين والمريدين والمستغلين ، كما يتوعد المتغطرسين والمتجبرين الذين لا يعرفون سوى القتل واصطياد الأبرياء وتصفية أرواحهم الشريفة الطاهرة.

ويستعرض الكاتب الهجرة ويشعرن قتامتها وإيقاعها التراجيدي ويصف ذبذبات الموت وأنغامها الشجية التي تصم آذان الأطفال والشباب والرجال الصارخين فوق الرمال والصخور النتئة..

إذاً، فالكاتب في هذه القصص مبدع حزين يعيش تراجيديا الرعب ومأساة الواقع، ويندب الزمن الأخرس، ويرثي اللحظات المعاشة في الواقع المحبط.

د- الخصائص الفنية والجمالية:

1- الفضــاء البصري:

يزاوج الكاتب في مجموعته القصصية بين فضاء نثري قصصي وفضاء شعري تفعيلي، كأني بالكاتب يكتب قصائد شعرية ويتأنق في ترصيف الأسطر وكتابة الجمل على غرار الجمل الشعرية الموجودة في شعر التفعيلة أو الشعر المنثور. وفعلا، كان سعيد بوكرامي يكتب في كثير من الأحيان قصصا شعرية وخواطر أدبية موحية في رقتها وكثافتها الشعرية والانفعالية والتعبيرية. وهذا الفضاء البصري القصصي القائم على تراكب الأسطر والجمل الشعرية ميسم على مدى التجديد الذي انتهجه في مجال القصة القصيرة جدا. أي إن سعيد بوكرامي يمثل مدرسة التجديد والانزياح السردي في القصة القصيرة جدا بالمغرب. وتذكرنا نصوصه الشعرية بقصص أحمد بوزفور وكتابات زكريا تامر.

وعلى أي، تتميز نصوص بوكرامي بالاسترسال والانسياب والتكثيف والإيجاز وكتابة القصائد السردية النثرية شعرا ونظما:

عاد بلحية خفيفة كغيفارا
أحب أن يعود طبيبا
لكن موسكو تريده أن يعود
قي نعش.
صامت يبتسم وحين يتعب
يتشرد في الذكريات
لماذا تحول إلى نحورنا؟

يشبه هذا المقطع السردي ما يسمى بالقصيدة المنثورة التي ينقصها الإيقاع الشعري، ولولا يافطة الكتاب" قصص" التي تحدد التعيين الجنسي، لقلنا بأن الكتاب ديوان شعري أو كتاب في أدب الخواطر. ونحن هنا نستبعد القصص القصيرة الأخرى الموجودة بين دفتي الكتاب و التي لاتندرج ضمن شعرية القصة القصيرة جدا وقواعدها البنيوية.

2- العناوين الموحية:

أول ما يصادفنا عندما نـتأمل غلاف الكتاب الخارجي وفضاءات القصص، ونحن ندخل دهاليز المجموعة القصصية التي دبجها سعيد بوكرامي، هيمنة العنوان الخارجي على البؤرة الوسطية للغلاف وتربع العناوين الداخلية المشبعة بالسواد عرش هذه القصص ومتونها. ولكن هذه العناوين لاتعبر مباشرة عن نصوصها ومتونها، فهناك علاقات انزياحية غامضة مختلة بسبب خلخلة أفق انتظار القارئ. فبوكرامي لا يكتب قصصا عادية سطحية وكلاسكية ، بل هو يرسم لوحات تشكيلية تجريدية تذكرنا بلوحان بيكاسو وسلفادور دالي ولوحات تكعيبية يكعب فيها الكاتب الأمكنة والأزمنة والبشر المعلبين في الخانات الرقمية والحانات العبثية الضائعة، كما يكتب نصوصا شعرية موحية لا تعبر عن متونها إلا من باب الترميز والإشارة والإيحاء الدلالي والتأشير السيميولوجي.

4- الشاعرية الرمزية:

يتكئ الكاتب في مجموعته القصصية على الشاعرية البيانية والكتابة الإنشائية وأدب الخواطر، وتتحول قصصه السردية إلى نصوص شعرية نثرية تفتقد الحبكة السردية المعهودة في القصص الكلاسيكية، وتتخذ شكل خواطر رمزية تحمل في طياتها طاقات توليد الانفعال وتفتيت الوظيفة التعبيرية وتشغيل القدرة البلاغية الجمالية.

وقد شحن الكاتب نصوصه القصصية بشحنة البلاغة والانزياح وتخييب أفق انتظار القارئ وتخييب توقعاته الجمالية والتجنيسية. كما حمّل لغته شحنات المجاز وطاقة الترميز والتكثيف الاستعاري والانتقال من الأساليب الخبرية إلى الأساليب الإنشائية ومن الجمل الفعلية الحركية إلى الجمل الاسمية المثبتة.

وتستند المجموعة القصصية إلى صور قصصية ملغمة بإيقاع متموج بالأزمات ومتوهج بالعقد المتنافرة التي تنتظر الانفراج والانبثاق النهائي. كما أن هذه الصور تطفح بالإضمار والحذف وكثرة الألغاز السردية المحبكة بإتقان شديد، وكل هذا من أجل خلق شعرية متوترة ومتشققة بشظايا التلميح والتعريض والنقد لتعرية الذات والمجتمع والعالم الإنساني.

5- التجريد الدلالي:

يعمد الكاتب إلى استخدام التجريد بكثرة من خلال تشغيل الرموز الموحية واللغة الشعرية الزئبقية التي تنفلت من كل مواضعات الاصطلاح، حتى إن نصوص الكاتب تتحول إلى لوحات تشكيلية بصرية مجردة تختلط فيها الألوان الباردة مع الألوان الحارة. ومن، هنا، فالكاتب يبدو في مجموعته المتميزة الرائعة شاعرا مبدعا وقصاصا محنكا ورساما متمكنا من أدواته الفنية والجمالية. يحسن التعبير والتشخيص والتلوين وتكثيف الانفعالات وتجسيدها بجمل وصفية مقتضبة موحية مقتصدة في لسعاتها التعبيرية ولدغاتها الفنية.

خاتمـــة:

إذا كان حسن برطال في مجال القصة القصيرة جدا كاتبا شعبيا، ومصطفى لغتيري كاتبا مثقفا ذهنيا، وجمال بوطيب كاتبا ساخرا،وعز الدين الماعزي كاتبا طفوليا، وعبد الله المتقي كاتبا ماجنا، وسعيد منتسب كاتبا اجتماعيا، فإن سعيد بوكرامي كان كاتبا شاعريا تجريديا بامتياز.

وعليه، فلقد تناول سعيد بوكرامي قضايا ذاتية ومجتمعية وإنسانية جادة وهامة ومصيرية. وعبر عنها بريشة تجريدية قوامها السخرية والتلوين الشاعري والتشكيل البصري الموحي الممزوج بأدب الخواطر و الصور البيانية الانزياحية التي تثير القارئ وتربكه بالاستعارات السردية المعقدة الموغلة في الغموض تارة والإبهام تارة أخرى.

ومن هنا، فعلى المتلقي المفترض لقصص سعيد بوكرامي أن يكون متسلحا بكل طرائق التأويل ومناهج التحليل والمقاربة النصية قصد تفكيك شفرات نصوص الكاتب التي تتسم بالعناد والتمرد، وتستعصي في وحشيتها وشراستها حتى على النقاد المروضين للنصوص الأدبية الحداثية الغامضة ، والمتخصصين في التفكيك والتشريح الأدبي؛ بسبب طغيان التجريد والإكثار من السرد المجازي، وتخريب النسق الدلالي ، وتهلهل النسيج القصصي لهيمنة خطاب الحذف والإضمار والفراغ الدلالي وكثرة نقط البياض و انتشار أيقونات الحذف الملغزة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى