السبت ٢٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم لطيفة اغبارية

نصف جاسوس...!!

لف أبو أحمد والذي تجاوز الثمانين عاما ونيف جسده النحيل بعباءته البنية الداكنة اللون واتكأ على عكازه، واستعد على غير عادته ودون رغبة منه بل بعد إلحاح وإصرار مستمر من زوجته العجوز ليشارك في فرح جاره (أبو فلان)، من مبدأ حق حسن الجوار، وانطلق أبو أحمد ليسير في موكب "المشيعين" في العرس الشعبي...اليوم الفرحة الكبرى انه عرس فلان ابن فلان اشهر من نار على علم في دنيا العمالة والنذالة..!!
يعتبره يوم جنائزي وليس يوم احتفالي، فمعاني الفرح توازي البؤس لديه، لم يعد يبتهج بعد ان طحنت سنابل حقله تحت وطأة أقدام ثلة المنافقين والمخادعين.

عين الحسود لاتسود، وخمسة بعين اللي ما يصلي على النبي......النسوة يزغردن وأصواتهن تختلط بضجيج السيارات والمفرقعات وصراخ الاطفال، والجيران يرشون الشوكلاطة الفاخرة للمشاركين،وبدأت النسوة في نثر الارز والملح على عريس الزين المعروف بـ "نصف العميل "، حامل اللقب بالوراثة.
وبدأ الحادي يتنحنح وصوته يعلو ويلجلج في الجو بسيل من المدح والاطراء في مكارم الاخلاق والجود لأبو فلان وأبو علان والحمولة كلها و...........القائمة طويلة، الذي لا يليق الا بنبي او ملاك رباني، والذي لو سمعه الفاروق عمر او سيف الله المسلول لطأطأ رأسه وانحنى وهرول خجلا وتواضعا..
أبو أحمد سار يرقب بنظراته الحادة وعيونه السوداء الغائرة الى الايادي التي تصفق بحرارة بالغة والجباه المتصببة عرقا والعيون المحدقة في المحتفى به ووالده لنيل رضاهم،والذين يرتدون البدل السوداء الملطخة بتاريخ محروق على قرابين المعابد بدماء الاحرار..

أبو أحمد الذي استمر في السير في الموكب "الجنائزي " يميز الغث من الطيب بنظرة ثاقبة واحدة من عينيه السوداويين يعي ان هذه الاجساد التي تتحرك هي مجرد آلات وطبول فارغة من أي معنى سوى كروش منتفخة لا تجيد الا نظرات خبيثة وألسن لا تعرف من قاموس اللغة سوى مفردات تختلط بمزيج من التصنع والنفاق والخداع والدجل..!!
وبدأ أبو أحمد يرمق بنظراته الجريئة والفاضحة المحتفلين لابسي رقع التصنع، والجميع يتحادى نظراته المهينة الجارحة التي تحكي الكثير عنهم، فهو لا يجيد فن التصنع والنفاق.

وجوارح أبو أحمد تتمنى ان يتحول هذا العرس الى موكب جنائزي حقيقي ، تصعد فيه الارواح الدنسة من بينها نصف العميل ليس الى العلا، بل الى قاذورات التاريخ، لتتخلص الارض من عبئها ورجسها.
وتساءل لماذا هذه المسرحية..، وهذا العرس الجماهيري والنفاق يغطي ويلف اجساد واعناق هؤلاء العبيد الذين يسوقهم أسيادهم كالنعاج الى طاغوت الطاعة العمياء.

انتهى الفصل الاول من الزفة وترنح المحتفلين من التعب على المقاعد لتناول الوليمة الدسمة، اما أبو أحمد فاختار ان يسند ظهره على كرسي خشب قديم تحت شجرة التوت بجانب رفيق عمره يحتسي القهوة المرة التي قدمها له طفل وديع اراد الا يخيب له طلبا، وعادت ذكرياته العتيقة وتمنى ان يحتسي هذا المرار في رحيل نصف العميل الذي بدأ يدق أوتاده في الارض، ويروي بعمالته جذور الزيتون بسماد قاتل ليقتل ما تبقى صامدا على أديم الارض المستحيي من بعض من يدنسونها بأقدامهم، ولتتحول المرارة الى نشوة النصر والفرح وان كانت الشماتة ليست من صفة الكرام، الا ان النذالة والجبن ليس لها مكان في مفردات بحر اللغة فكم بالحري ان تكون واقعا تسري في اوردة وشرايين بعض المتخمين..!!
وبدأت القبلات الحارة تطبع على وجنة العريس العميل، من الافواه التي لا زالت جائعة وتتوق لتناول المزيد من الدسم.
وأبو أحمد لا يحرك ساكنا يرقب ويتأمل عجيبة كل جسد وجسد على حدة، وفجأة صرخ بصوت عال لم يسمعه من ضجيج الموسيقى واختلاط الاصوات سوى أحد أترابه المخلصين "أبو عاصم " وقال : رحمة الله عليك يا نابليون...
وبصوت متقطع وواهن أجابه أبو عاصم - ما دهاك يا أبو أحمد، انت في عرس ولست في الجزيرة الكورسيكسية او عند قبر نابليون في سانت هيلينيا، ما دخل نابليون الان ؟

 القبلات الحارة لنصف العميل تستفزني، اما ذاك الفرنسي الكورسيكي نابليون الذي احترمه رغم مرور قرنين ونيف على موته لانه رفض مصافحة عميل خائن ساعده في الانتصار في معركة حاسمة لوطنه وكان سببا في نصر نابليون على بلد ذاك العميل.
حيث قال له العميل : سيدي العظيم يشرفني ان اصافح قائدا عظيما مثلك.
فألقى له نابليون قبضة من النقود في صرة على الارض ليأخذها ثمن خيانته.
وقال له : اما انا فلا يشرفني ان أصافح خائنا لوطنه مثلك.
 طول عمرك يا أبو أحمد حامل السلم بالعرض ايش بدك تصلح حتى تصلح ،حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الرؤوس..

 آه يا أبو عاصم من قاد هذه الرؤوس الى زنزانة العبودية والى قرابين الموت والى خنادق الذل ودهاليز الظلام سوى تلك الامثال والفلسفة المدججة بعتاد وبسلاح الهوان والخنوع والـ..................!!
فجأة ودون موعد مسبق مع القدر...أبو عاصم يجحظ بعينيه وينظر للسماء ولا يحرك ساكنا، ويسقط فنجان القهوة من يديه ويسكب بعضا منها على عباءته وما تبقى على الارض.

 أبو عاصم أبو عاصم..............مات أبو عاصم.
 الهي هل يعقل هذا، كيف ولماذا مات أبو عاصم، هل حلت لعنة اؤلئك الشياطين على روحه الطاهرة ليختاره الموت دون فئة الشريرين،حتى تمنيات القدر جاءت مخالفة لأمنياتي لتختطف وتختار فقط هذا النبيل الطاهر أبو عاصم...وتترك شياطين الانس تلهو وتعبث وتقرر بحياة الابرار...

بعد صمت رهيب وبكاء مرير وذرف سيل من الدموع أبو أحمد على وجنتي أبو عاصم وارتمى على صدره يقول...يا أبو عاصم الا تذكر وتذكر، هل يوجد أشرف منك أحدثه وأحدثه، تمنيت لو مات نصف العميل ولكنه بقي وبقي نصفه الثاني وأتباعهم....

اما انا يا صديقي العزيز فسأبقى النصف الاخر لظلك المفقود أتوق الى شذرات فلسفتك وهدوءك المتزن
وسأتشبث في آخر جذع لزيتونة غرستها أناملك ورويتها بتاريخك المشرف الغض.
و و و.......أبو أحمد يحكي ويحكي دون توقف....فهذه الجلسة الاخيرة والابدية التي سيشرب بها قهوته المرة مع أبو عاصم ، ولن يراه بعد ذلك...فسيفضي له ما تبقى من جوارحه من احاديث وذكريات.....وتاريخ..!!
وبعد ان غلبه التعب، انتفض أبو أحمد من مكانه بقوة وأسند بجسده النحيل هذه المرة على الاديم المبتل بدموعه
والتف بظهره المنحني للخلف ليجد خلفه جموع المحتفلين، ووالد العميل يقف مشاهدا الفصل الاخير من العرس، فمد يده وقال له :

 يسلم راسك يا أبو أحمد، هات يدك وقم...الحياة مستمرة، العرس مستمر...
أبو أحمد يرمقه بنظرات مريبة وحزينة في ان واحد، ويصمت دون اجابة....
 يا أبو أحمد هات يدك، قم...
أبو أحمد تملكته شجاعة وجرأة غريبة وبأعلى صوته قال :
 لا لا لا أريد ان تمسك بيدي، من كنت اعتز ان يمسك بيديّ صعدت روحه الطاهرة الى جنات الخلد، اما انا فأفضل أن تعانق روحي روح أبو عاصم وتصعدا سوية على أن تمسني يد دنسة وقذرة مثل يدك....!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى