الأحد ٢٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد بروحو

البئر

كان المساء وقتا ، يحلو فيه للأحفاد أن يركنوا الى جدتهم ، يستمتعون بحكاياتها.

قالت الجدة : حكاية هذا المساء من تراثنا. عمدت الى تشويقهم بهذه العبارة . كان الأحفاد يبدون وهم يصغون لها، وكأنهم يحلمون .

تبدأ الحكاية بوصف بئر. تتوسط حقلا ، يبست أعشابه وتجمعت به بقايا أغصان يابسة وذابلة .

كانت بنات القرية ؛ تجتمعن عندها كل مساء.. قريب مغيب الشمس.. وكان هذا وقتا مناسبا للسقي وملء الجرار.. ومكانا يحبه كل صغار القرية ، ورغم ما يحبك حوله من حكايات، فلا زال الصغار بناتا وصبيانا ، يحرصون كل الحرص على التجمع حولها.. وقت يتجاذبون فيه أطراف الحديث، فيحكون لبعضهم ما يسمعون ، ويلتقطون من آبائهم.. إنهم بذلك ، يؤرخون لذاكرة زمان ومكان وجودهم .

ينهمك البعض منهم في ملء الجرار، والآخرون يحلقون، يتحادثون.. منهم من اتخذ مكانا له فوق فوهة البئر. فوهة واسعة مرصعة بالصفاح. يراقص أطرافه الصغيرة المنهوكة، والمتعبة بأشغال اليوم التي لا تنتهي .

وأنت مقبل ناحية البئر، يبهرك هذا المشهد المتكرر ، والمألوف لديهم كل مساء. وقد يسعدك الحظ ، وأنت الآخر تحضر لقضاء حاجتك. او تفتعل ذلك. فينتابك شعور البراءة يرتسم على وجوههم البريئة ، وعلى شفاههم.. كلمات تنساب صافية كماء الغدير في فم الجرار. نظراتهم وتركيزهم الجدي ، على أحاديث بعضهم البعض. يذكرك بأيام الطفولة.

تحكي الجدة، أن غولة كانت هي الآخرى ، تحرص على زيارة المكان. تتخذ من شجرة عرعار بسقت ، حتى انشأت ظلا ظليلا ، فوق البئر وما حولها.. مكانا لها.. لم يثبت أن تعرضت لأحد بأذى.

بعض بنات القرية شاهدنها. حليمة بنت التسع سنوات إحداهن. تحكي لقريناتها عن الغولة ، وعن جدها الذي كان يشجعها على الذهاب إلى هناك .

كانت القرية ، تنشطر إلى شطرين . يتوسطها نهر ، تفيض مياهه شتاء. ينحدر مصبه نحو الجهة الشرقية، حيث تكثر دور ، مبنية بأحجار صلبة ومسطحة. بينما تتفرق أكواخ بئيسة، على مسافات متباعدة من الجهة الغربية. يفيض النهر فوق مساحتها الفارغة .

عند النزول إلى مجرى النهر، يلامس مرءاك كوخ قديم وبسيط. بني من تبن وتراب. وسقفه من قش، يسند بأعواد الصفصاف القوية. هو كوخ عمي الهاشمي. سيج بشجر الدفلى المزهر .

عمي الهاشمي ، شيخ يقارب المائة، وربما يتخطاها بسنوات.. يعيش وحيدا. بشوش ونشيط. كل أهل القرية متعلقون به. يلاعب أطفال القرية.. يضحكهم ويسليهم بحركاته ونكته .

اعتاد أن يفترش مكانا قرب مسجد القرية .. مستقبلا جماعة الصغار والكبار .. يتحلقون حوله. يستأنسون بحكاياته . في مكان يسمى الكعدة .. يرخي عقال لسانه فيقص عليهم حكايات وحجيات، بعضها حقيقة وغيرها خيال .

كانت جلسات الحكاية هاته ، تجري بعد صلاة عشاء كل يوم ، وتستمر إلى منتصف الليل.. لم يحضر عمي الهاشمي هذا اليوم. تساءل أهل القرية عن سبب غيابه .

كان المساء يبدو حزينا، وكأنه منذر لحزن قادم.. وكان كل أهل القرية ، يجتمعون كعادتهم قرب المسجد.. حينما وصل نعي عمي الهاشمي.. خيم حزن شديد على القرية وأهلها، فبدت وكأنها ميتة.. ترك رحيله فراغا. كان ذاكرة مكان وزمان.. رمزا للحكاية.. هو نفسه حكاية، سرقت لب سكان القرية وأغنت خيالهم .

توجهوا قاصدين كوخه ، الذي سيجعلون منه مزارا.. تجمعوا أمامه. انسلت حليمة الصغيرة ، من بين الجموع.. ولجت كوخه في غفلة من الجميع.. كانت دهشة الصغار عظيمة، وهم يشاهدونها تخرج منه، وهي تلبس لباس عمتي الغولة ..
اركبوها بغلة بيضاء.. وساروا بها نحو القرية.. والصغار يرددون : عمتي الغولة.. عمتي الغول ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى