الاثنين ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم زكرياء أبو مارية

أسطورة بحث النسر عن موطن لا يذبل

بمجرد أن رن الهاتف تشوش انتباهي، واضطررت أن أحبس لبعض الوقت استماعي إلى بقية أحداث الحكاية، لأركزه أكثر في تتبع حركة والدتي بهاتفها المحمول في أرجاء الشقة بحثا عني.

كنت أعلم أن والدي هو من كان في الطرف الآخر من الخط، وخمنت أن وقتا كافيا كان قد مر حينها، منذ أقلنا إلى مسكننا بالمصيف وغادر، ليكون قد أتم مشوار عودته، وكان طبيعيا جدا أن يفكر في إجراء أول اتصال هاتفي بنا مباشرة بعد وصوله ليطمئن على أحوالنا، كما أن ثلاث ساعات من الغياب كانت وحدها كفيلة بأن تجعله شغوفا لمعرفة مدى حجم أضرار الثرثرة التي كانت ستلحقها بوالدتي أسئلتي الكثيرة، مع إصراري على تلقي أجوبة مقنعة عليها، وإلا فإن لجوئي إلى الصراخ بالسؤال مع ركل الأرض بكل قوتي كانا هما سبيلي الوحيد لسل حوار متبادل من والدتي.

كان شوقي كبيرا لسماع صوت والدي، ولكن شد حبل الحكاية حينها لمشاعري كان جبارا، كما أنني لم أكن في حاجة إلى نصيحته المعتادة حول أفضلية السكون على الكلام، ما دمت كنت حينها في كامل هدوئي وصمتي، وادعيت النوم أيضا حتى لا يكون إلحاحه علي بأن أكلمه بجدوى، لأن ذلك كان سيتسبب في انفلات مزيد من أحداث الحكاية من سمعي، واستمتاعي.

كنت موقنا أن والدتي لم تكن ستشتكي، فإذا بها تفاجئني بمبرر جديد لقلقها الكبير والمزمن:

 هل تتذكر الحالة الغريبة التي أضحى عليها بعد أسبوعين تقريبا من حلولنا بالمصيف، في العطلة الماضية؟

هكذا تساءلت والدتي في السماعة، ثم أردفت تجيب بعد لحظة:

 لقد عادت لتسكنه من جديد قبل دقائق فقط من اتصالك.

ولعل والدي تساءل إن كنت مريضا، لأنني سمعت والدتي تجيب بأنها لم تجدني محرورا عندما جست بيدها جبيني أول ما أعلنت العاشرة من ذلك الصباح عن حلولها، لأكف أنا عن ثرثرتي وصخبي، وأنتقل إلى الصالون، وأتمدد على زربيته، خالدا للسكينة والاستماع.

كانت الحكايات تقبل عليّ من باطن الأرض محشوة بالتفاصيل والألوان، وكانت قبل أن تعلن عن بدئها بالبسملة تدعوني إليها بعشر دقات، تترجمها عن لغتها السرية ساعتنا الحائطية، لألبي أنا من فوري نداءها، لكي لا أتحرر بعد ذلك من شدها إلا عندما تحررني هي بنقرتين قويتين في السقف.

كان أبي سينصحني لو أنني كنت كلمته أن أكف عن ثرثرتي، وأسئلتي الكثيرة التي لا يني يفضي بعضها إلى بعض بلا هوادة أو حدود، وكان سيرجوني أن أترك والدتي تنعم بالاستمتاع قليلا بشريط سينمائي، أو أغنية مصورة، ولطالما ردد علي أن تجربته الطويلة أثبتت له بالفعل أن السكوت من ذهب، وكان سيرضيه كل الرضا ما صرت عليه، أما أنا فكنت لا أزال صغيرا لتقنعني التجربة بنصيحته، وعيناي لم تكونا مدربتين ولا متينتين بعدُ لتتحملا بريقا معميا، وكان يكفيني أنني اكتشفت، وبالصدفة فقط، كنزا من الحكايات الصافية، حتى إنها لتكاد تكون شفافة كفضة خالصة.

أتذكر أن قلق والدي توسع بداخله في أول رحلة لنا إلى هذا المصيف، وكان قد تولد لديه من تخوفه أن أزعج جارتنا الكفيفة في الطابق الأرضي، وأقض خلوتها، ومنذ أن وقع اختياره في العام الماضي على هذا المسكن بالذات، دون غيره في كل المصيف، ونصيحته لي عبر الهاتف أو عندما يحضر أيام الآحاد لزيارتنا لا تكف عن إلحاحها بأن أقلع عن عادة ركلي للأرض كالممسوس، عندما تضجر والدتي من أسئلتي، وتعزف عن الإجابة.

ولا بد أن والدي ارتاح يومها لهذا النوع المسالم والهادئ من المس، ويبدو أن أمي لم تقتنع، على اعتبار أن ما كان يقلقها في ذلك كله هو كون حلول التغيير بي يكون مفاجئا كالسحر، ومع ذلك فمواعيد إراحتي كانت موقوتة وملتزمة، وكان الأحرى أيضا أن يريح والدتي كونها ازدادت من حصة مسائية إلى حصة أخرى في الصباح، كانت تستمر من العاشرة إلى الزوال، ولكن ذلك كان له دور عكسي ضاعف من تخوفاتها، وسمعتها تتابع حديثها لوالدي واضطراب واضح يشد على صوتها:

 إنه أشبه بالنائم، وما هو بالنائم حقا، هذا إذا استثنينا تغييره لمكان نومه، بحكم تبريره لذلك بالجو الحار الذي قال إنه هو ما أجبره على هجره لغرفته الضيقة، وافتراشه أرضية الصالون.. تتذكر ذلك؟ سوى أنه هذه المرة طور طريقة نومه إلى ما يشبه الطقس المجنون، وعلى الرغم من أنه يفترش الأرض هذه المرة أيضا، إلا أنه لا يستعمل مفرشا ولا وسادة كما كان يصنع في العام الماضي، ولولا أن الزربية كثة وكثيفة بما يكفي لحمايته من برودة رخام الأرضية لتوسع قلقي ليتعدى رئتيه إلى رأسه أيضا.. لا لا، ولكنه على الأقل صار يأرجحها ليتوسد الأرضية تارة بالشق الأيمن منها، وتارة أخرى بشقها الأيسر، كأنها تشتعل ويحاول هو أن يطفئها.. لا لا، ليس محرورا قلت لك، أنا متأكدة، ولكن أليس مقلقا أكثر أنه صار يفرد ذراعيه، مشبوحا على بطنه في وضع يجعله يبدو كما لو أنه يحاول أن يعانق شيئا ما أوسع من قبضه؟

ولكنه كان بالأحرى تقليدا مني لتحليق نسر ينزلق خلال الفضاء، منسابا، دون حاجة منه لأن يخفق بجناحيه، حتى لا يشوش عليه ذلك تأمله واختياره للأرض التي ستكون محطته وملاذه، من عناء طيرانه الطويل الطويل...

(...، وظل النسر على حالته، مدورا رأسه يمنة ويسرة، ومقلبا بصره أثناء ذلك في كل اتجاه، لعله يرى علامة أو دليلا على اقترابه أخيرا من موطنه النهائي، إلى أن رآه أخيرا من علاه أخضر وارفا وظليلا، وأيقن أنها الغابة التي قالت له عنها أحلامه يوما بأن أوراق أشجارها لا تذبل، ولذلك وجه انزلاقه مباشرة نحوها، آملا في قرارة نفسه لون أنه يكون مخطئا، أو أن يكون ما رآه في نومه مجرد أضغاث أحلام، لأنه كان يعرف أن موطنه الحقيقي هو السماء الواسعة، وأن تحليقه عبرها هو دليله الوحيد على استمراره بعدُ في الحياة. وفور أن حط توقف الحفيف الذي كان يحدثه الهبوط في جناحيه، ليسود بعد ذلك الصمت، وتسكت أسطورة بحث النسر عن موطن لا يذبل.)

أنهى الصوت حكايته وتنحنح، ثم ساد كالعادة صمته هو أيضا للحظات، قبل أن يطلب الإذن بالانصراف، وأجابه صوت نسوي عميق وواهن، كأنما هو مزمار من عهود الأساطير والخرافات تنفس في فضاء إحدى غرف الطابق الأرضي، مبديا رغبته في الاختلاء إلى الصمت لبعض الوقت:

 يمكنك الانصراف الآن، قالت جارتنا الكفيفة، ضع الكتاب في الخزانة بنفس ترتيبه السابق ضمن طابور المجاميع القصصية، وخذ معك الذي يلي لكي تراجعه، موعدنا طبعا في الخامسة من هذا المساء.

 حسنا سيدتي، إلى اللقاء.

وودعته بدورها، ثم استدركت بحزن، بعد أن سكت أزيز بويب الخزانة وقرقعة المفتاح في قفله:
 ولا تنس النقرتين في السقف من فضلك، لينصرف الفتى إلى شغبه مع والدته، لعله يدغدغ هدأتي وتذكري، ريثما تعود أنت في المساء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى