الاثنين ١٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم بسام الطعان

أعصابك يا العزيز

كثيراً ما كنت تتمنى يالعزيز، ولكن حتى الأمنيات كانت ضدك، سنوات طويلة عشــتها لكنك لم تنل من لذة العيش ولا ثانية، والآن يا العزيزها هي أيامك تسري حولك كالسرطان، أيام ليست إلا أحلاما كاذبة تتوالى صورها، وصمتاً سرمدياً تعيش به لحظاتك، في كل ليلة من ليالي التعب الطويل، تتقلب في فراشك وتقذف بنفسك وسط جو مشحون بألف ألف رغبة، تذرف الدموع المدرارة، لتتلاطم أمــواجها على خديك، وفي عروقك يتفجر نبع الحســرة كاسحاً كل كيانك.

تمد أحزانك الجارحة، وتحلق في أجوائها، حيث لا شيء إلا السراب يعكر صفاء فضاءك المديد، وثمة في منتصف عمقك ينبض هاجس تبعثه أشباح ذاكرتك المتعبة.

لم يبق لك لا قريب ولا صديق غيرالكآبة التي تفرش جناحيها فوق صحراء حياتك، تظل لساعات تنير فيها بذكرياتك ظلمات قلبك المكسو، يخيم عليك سكون معشق بتخيلات تلتف على انكساراتها، وانفراد ليس ما تتســلى به غير أن تدور أراض لا نهاية لها، أراض موحشــة حيث لا أنيس فيها ولا وحبيب وكأنك خلقت وحدك في هذا الكون.

كل أحلامك فرت من أمامك، لكنها لم تستطع أن تأخذ معها الذكريات بحلوها ومرها، إنها الغذاء الوحيد الذي بات يسري في أوردتك، وأنت الذي كنت تظــــن أن ما وراء الصبر إلا الفرج، وما وراء الفشل إلا النجاح يا لعزيز.

من زماااااان وقبل أن يخلفك قطارالعمرالرث على أرصـفة رثة، شاهدت منية النفس في الطريق، فأنشـدت نفسك الفرح والهناء، وبسرعة تزوجت، ولم تكن لك أمنية غير الإنجاب.. ولد تستند إليه في كهولتك، يرعاك في شيخوختك، ولد يرد لقبلك قناديله المفقودة، ومنذ اليوم الأول بدأ القلب يبحث في دفاترالعمرعن مشهد لساعة المخاض والولادة، لكن انتظارك طال أكثرمن اللازم، وساعة الولادة تلك لم تأت، وبقيت تشم رائحة الغصة تعصر القلب.

وياااااااه يا العزيز.. في السنة السادسة عشرة من زواجك، تحقق المستحيل ورزقت بطفل جميل لم ترغيره، حينها أطلقت زغاريد مديدة، وقفزت من فرط بهجتك، ثم ذبحت الذبائح، وفيت النذور الكثيرة التي قطعتها على نفسك، وأقمت الولائم للكثيرين.

مضت الأيام بسرعة وكبر الولد، وكبرمعه سرطان انتشرفي دماغه، ولم يمهله طويلاً، خطفه من أراجيح اليفاعة، ثم قضى عليه كوحش كاسر هده الجوع ، وحين جاءك الخبر ، أفعمتك الدهشة، تجمد قلبك وهزته رياح البكاء، داهمك إحساس بأنك تقف على تخوم مستنقع الموت، ضاقت عيناك في شبه إغماضة، وعبرتجاعيد غائرة تسربت دموع مالحة، وتجمعت فوقى الشفة العليا.. وبعد أن اسـتردت بعضاً من وعيك، حملته بين ذراعيك المرتجفتين، ولمست جسده المطفأ، ثم سقطت مغشياً على الأرض.

البارحة.. لا أقصد البارحة بالتحديد، فقدت زوجك قبل ولدك ولم تحزن هذا الحزن الشامل الذي يجثم بكل وطأته على خارجك وباطنك، لكنك الآن يا العزيز، فقد كل ما بنيت وأنجبت، لا مال ولا بنون ولا عمر ينفعه الزواج من جديد.

أيام مرت من الأوجاع وصروف التهاوي، وبقيت ملامحك جامدة، وقلبك منكسـر، وعيناك تبرقان بومض حاد، وخلف تجاعيد وجهك يعشش حزن دفين، ولم يبق أمامك إلا أن تجلس وحيداً، تعد عذاباتك حيناً، وحيناً تردد بصوت فاجع: أما آن لهذه الدنيا الدوّارة أن تتوقف عن الدوران.
والآن يا العزيز، ألم تتعب من طقوسك ؟ إذا تعبت فتذكر أن النسيان هو الدواء، وإذا لم تتعب بعد فامتهن البكاء كي ترتاح أعصابك، أرجوك أن تبكي، فالدموع وحدها تغسل أوجاع القلوب، هل سمعت يا العزيز؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى