الخميس ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

قراءة في رواية "غوروغو" لإسماعيل العثماني

تمهيـــــد:

يعتبر إسماعيل العثماني من أهم روائيي المنطقة الشرقية من المغرب الأقصى إلى جانب محمد شكري و عمرو والقاضي وحميد لحمداني ومصطفى الحسني وميمون الحسني ومحمد برمضان ومحمد الأشعري وعبد الله عاصم وعبد الحكيم معيوة وحليمة الإسماعيلي وحميد خيدوس والحسين الطاهري و الخضير قدوري وجلول أعرج وجلول قاسمي ويحي بزغود ومحمد الهلالي وميمون الكبداني وعبد الكريم برشيد وعبد المالك المومني ومحمد بنعلي وإدريس بكوش وسعدية اسلايلي وعمرو جلول...

ومن المعروف أن إسماعيل العثماني من مواليد بني أنصار بالناظور، وهو أستاذ جامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط ، ويتقن العديد من اللغات العالمية التي أهلته ليكون من الباحثين المتميزين والأساتذة المقتدرين في مجال الأدب المقارن والترجمة.
وقد صدرت روايته" غورغو" التي تحمل عنوانا فرعيا وهو" مروية من بني أنصار" في طبعتها الأولى عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط سنة 2007م. إذاً، ماهي خصوصيات هذه الرواية من الناحية الجمالية والدلالية والمقصدية؟

أ‌- البنية الفنية والجمالية:

 المنظور السردي:

يصدر إسماعيل العثماني في روايته الأولى" غورغو" عن رؤية سردية تجمع بين المنظور الموضوعي والمنظور السيكولوجي الداخلي، أي إن الكاتب يستعمل الرؤية من الخلف أو من فوق مستعملا ضمير الغائب والراوي العارف بكل شيء كأنه الإله الخفي الذي تحدث عنه الروائي الفرنسي گوستاف فلوبير، إذ تفوق معرفة هذا النوع من الراوي مستوى معرفة كل الشخصيات التي يحركها بخيوط السرد والحكي من وراء الكواليس. ومن ثم، فالسارد يعرف كل شيء عن شخوصه خارجيا وداخليا، كما أن الراوي لايشارك شخصياته داخل القصة، بل يظل محايدا حيادا موضوعيا لايتدخل في مجرى القصة إلا ليعلق ويقوّم ويشرك قراءه في مايصدره من الأحكام.

ومن الشواهد النصية على هذه الرؤية السردية ذات المنظور المحايد الموضوعي ما قاله السارد في الصفحة العاشرة:" فوجئ رئيس الشرطة بالخبر وبأمر رئيسه الذي لامرادّ له وتأسف في أعماق نفسه على انزلاق هذه الفريسة من بين يديه، ولاسيما وأنها كانت تحمل رائحة الترقية. غادر الضرير المكتب كما دخل،بالسلام عليهم ومعه حقيبته المقشرة الزوايا، وكأن الفئران شاءت فتحها على طريقتها لتفتيش محتواها. نظر إليه الجمركي نظرات امتزج فيها الحذر بالشفقة، بعد أن عرف أخباره من الشرطي، ولكنه لم يأمره بعرض حقيبته للتفتيش. ولم يعرف الضرير إن كان ذلك من باب الشفقة أو الحذر، أو مجرد تكاسل، ولكنه شكر بتأدب كبير."

يستكنه الراوي في هذا المقطع شخصية رئيس الشرطي ويتغلغل في أعماق نفسه ليبين لنا ما يحسه من مشاعر داخل أعماق ذاته وما يستشرف من أحلام وتوقعات مستقبلية ، ويخبرنا الراوي بأن رؤساءه الكبار قد فوتوا عليه ترقية كبيرة، ويعني هذا أن الشغل الشاغل للموظف المغربي هو انتظار الترقية التي تأتي ولا تأتي وترقب مفعولها المادي والرمزي.

ويقوم السارد في هذه الرواية بعدة وظائف أهمها: وظيفة السرد والحكي والرواية ، وهي أهم وظيفة يلتجئ إليها الحاكي داخل المتن الروائي من خلال فعل القص والإخبار والسرد بله عن وظيفة التنسيق بين الشخصيات وتوزيع الأدوار بين العوامل السردية ، والتعبير عن انفعالات الشخصيات ومشاعرها، وتبليغ الرسالة المقصدية و الأطروحة الإيديولوجية التي يريد الكاتب إيصالها وتتمثل روائيا في انتقاد الكاتب للأوضاع المغربية المتردية بصفة عامة والأوضاع المزرية في بني أنصار بصفة خاصة، ورصد الظواهر السلبية المتفشية في المجتمع المغربي على جميع المستويات والأصعدة.

وإلى جانب هذه الوظيفة الأساسية المحورية، تظهر وظيفة أخرى في المتن الروائي هي الوظيفية الميتاروائية أو الميتاسردية حينما يفضح الكاتب أسرار اللعبة الروائية عبر تمرد الشخصية الرئيسة عن السارد أو تمرد السارد عن الكاتب :" ولو سمحت لفتحت هنا قوسا لأحتج على الراوي الذي لم يتردد في نعتي بالولد مع أنني أكبر سنا من أي ولد وأعلم وأقدر مما يعتقد، كما سيتبين على امتداد هذه المروية. لست أدري إن كان قصد إهانتي أم عجز عن تقديمي بالوصف اللائق. أم أنه أراد أن يشوق القارئ بشأني فلم يسمني باسمي أو بشيء آخر يدل على هويتي. سامحه الله!" (ص:37)

يستند الكاتب في هذا المقطع النصي إلى الاستفادة من جمالية التلقي التي أرسى دعائمها النظرية والتطبيقية العالمان الألمانيان: يوس Yaussوإيزر Izer. وهناك العديد من الروائيين العرب الذين وظفوا هذه الطريقة في استدماج القارئ والثورة على السارد وخاصة الروائي المغربي محمد برادة الذي وظفها بشكل موسع في روايته البوليفونية " لعبة النسيان ". و يشكل هذا الانفتاح على جمالية القراءة والتلقي مظهرا من مظاهر حداثة الرواية العربية ومن سمات تجديدها الفني والجمالي على الرغم من أن الكاتب لم يعدد الرواة والسراد مثل: الروائي المغربي محمد برادة.
ويلتجئ الكاتب إلى وظيفة التوثيق التاريخي عندما ينطلق من المخطوطة التاريخية التي وجدها عامر عند بعض الإسپان المسلمين والتي تتحدث عن ساكنة بني أنصار وتاريخ المنطقة وكيف انتقل بنو نصر منذ القديم من الأندلس للاستقرار ببني أنصار مدينة الأتربة والرياح الغربية.
وتتجلى الوظيفة المرجعية في تصوير بني أنصار وگرسيف بصفة خاصة والواقع المغربي بصفة عامة مع استجماع كل الظواهر السلبية التي تسود هذا الواقع وتقديم مجموعة من الحبكات السردية التي تصور فظاعة الواقع المغربي وقتامته الجنائزية، وسوداوية الواقع الأفريقي ومأساويته التراجيدية.

2- الزمـــن السردي:

من يقرأ رواية "غورغو" لإسماعيل العثماني، فإنه سيتعب كثيرا في قراءتها بسبب الخلخلة التركيبية والتناوب السردي اللامنطقي والهلهلة على مستوى الاتساق النصي والانسجام الحكائي، والتي تصيب مفاصل النص ومستوياته السردية الناتجة عن تداخل الشخصيات داخل المتن الحكائي، حتى ليعجز المرء عن معرفة من هو لفضولي و عامر وغيرهما من الشخصيات بسبب تداخل الفضاءات( بني أنصار وگرسيف وإسپانيا)، والأجواء النصية، وتقاطع الحوارات ، وتعدد اللوحات السردية، وتنوع الخطابات المروية، واختلاف السجلات الأسلوبية، كأني بالروائي يكتب روايته في البداية في شكل لوحات سردية مستقلة ثم يرجع إليها ليجمعها في لوحة فنية سردية واحدة منصهرة في بوتقة جمالية واحدة مستعملا في ذلك عملية التوليف والمونتاج عن طريقة التناوب تارة وطريقة التقاطع تارة أخرى؛ مما سبب ذلك في خلق غموض فني وجمالي لدى القارئ المتمكن ، فماذا عسى أن نقول عن القارئ المبتدئ؟! . والمقصود بهذا الكلام، أن الكاتب خلخل البنية التركيبية السردية للخطاب الروائي، وانزاح عن المسافة الجمالية المعروفة، وانتهك معايير التلقي وخيب أفق انتظار القارئ الذي تعود على قراءة النصوص الكلاسيكية والروايات الجديدة المتماسكة إلى حد ما. ومن هنا ، فهذه الرواية حداثية على مستوى النسق المخرب والنسج المهلهل الذي ساهم في إيجاد نوع من الإبهام الفني المقبول إلى حد ما.

وعلى الرغم من ذلك، فالرواية تتكئ على التسلسل المنطقي والبناء الإيقاعي الكرونولوجي التعاقبي الذي ينطلق من الحاضر نحو المستقبل . بيد أن خطية هذا الزمن سرعان ماتعرف انحرافات إيقاعية إلى الماضي عن طريق فلاش باك واستباق الآتي الزمني عن طريق استشراف المستقبل .
ومن الشواهد النصية عن استرجاع الماضي البعيد مارواه لفضولي عن بقايا الذاكرة و ما استجمعته عن ماضي اسمه:" لقد عرفت منذ صغري بفضول منقطع النظير حتى أن الأهل والأصحاب والمعارف أهملوا اسمي الحقيقي وصاروا ينادونني: لفضولي. كنت ذكيا ونبيها في القسم وخارجه. حفظت تسعة وأربعين حزبا فكنت المختار لتجويد القرآن في حفلات عيد العرش المدرسية، ولكني كنت فضوليا بامتياز. حواسي كالمغناطيس تلتقط كل كبيرة وصغيرة فأروج، إضافة إلى أخبار حينا، أخبارا عن السينما والأغاني، عما جد بخصوص الأفلام والممثلين والمغنين. وفي كل هذا، كان مصدر معلوماتي الأول هو مذياع تليفونكن من الطراز القديم. صار لي بعدما تزوج أبي للمرة الثالثة واشترى جهازا يابانيا أجمل منه منظرا، ربما ليظهر شابا في عيني زوجته الشابة. كنت استمع إلى القنوات الإسپانية والأجنبية التي تروح عن النفس بمبارياتها وأغانيها وأخبارها. بل حتى ما أعرفه من الإسبانية هو بفضل المذياع. أما إذاعتنا فلغو ورتابة ينفران السامع." (ص:37-38)

ونورد مثالا آخر على فلاش باك حينما تذكر عامر أمه وهو في مقهى الحدود ببني أنصار:" كانت عيناه شبه مغمضتين حين لمح النادل يضع كأس الشاي الطويل المنعنع على الطاولة ويدعوه إلى تناوله بلمسة على كتفه الأيسر، ذكرته بلمسة أمه حين كانت توقظه.

  نعم والدتي.

  قم، قم! إنها الحادية عشرة، أهكذا يفعل الرجال؟ لماذا لاتبحث عن عمل كيفما كان؟ لماذا لاتقبل العمل في أي مجال؟ العمل كله شريف، أما الكسل فلا. لماذا ترفض العمل نادلا في مقهى خالك أحمد؟ أو في البناء؟ لماذا ياعامر كل هذا التكاسل؟ ألم تتعب من النوم؟ أنت تشترط المنصب الأنسب لشهادتك الجامعية ولكن لا أظن أنها تمنعك من ممارسة عمل شريف أيا كان نوعه؟."(ص:41-42)

ويتخذ استشراف المستقبل في الرواية بعدا تخريفيا وبعدا واقعيا موجزا في شكل أحلام تنتاب عامر في سجنه عن طريق التلذذ بأحلام الهجرة إلى الضفة الغربية أو تستشرف أم عامر مجموعة من الأحداث المستقبلية عن طريق التنجيم والتخريف الممسوس:" عامر سيخرج من السجن في سبعة أيام وزوجي سيعمى بعد سبعة أيام والسماء ستمطر لسبعة أيام والمقدم سيفقد صوابه بعد سبعة أشهر وفاطنة ستلد للمرة السابعة و...

  ماذا تقولين يارحمة؟ قاطعتها رابحة مذعورة وهي تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إن الله سيأتيك بالرحمة لا شك، فلا تقنطي من رحمته،

سترين، إهدئي...أرجوك....

  أريد كأسا من الحليب في سبع دقائق....

لم تتردد رابحة، بل خرجت مسرعة لإحضار الحليب من جار يربي البقر. حضر الحليب قبل انتهاء المهلة وشربت منه رحمة سبع جرعات قبل أن تخلد للنوم دون أن تنبس ببنت شفة".(ص:45).

يستخدم الكاتب استشرافا مستقبليا باروديا قريبا من حيث التحقق الزمني يتمحور حول العدد سبعة الذي له دلالات وحمولات رمزية صوفية وعرفانية لدنية في التراث الصوفي العربي الإسلامي ، كما ساهم هذا العدد الرقمي في توفير صورة إيقاعية هرمونية قائمة على التوازي والتوازن الموسيقي عن طريق التكرار والتماثل والتعادل الصوتي والصرفي والتركيبي والدلالي والتداولي.

ويلاحظ القارئ أن هذه الرواية المتوسطة الحجم التي تبلغ صفحاتها (161) صفحة بطيئة الإيقاع بسبب الوقفات الوصفية( وصف سياج مدينة مليلية الحدودية- وصف الضرير- وصف المختار أو لفضولي، وصف بني أنصار، وصف گرسيف، وصف عامر، وصف أم عامر، وصف القرية بعد سقوط الغيث- وصف بوحمارة- وصف مطعم بولعدس- وصف شاطئ البحر...)، والوقفات المشهدية ( مشهد الضرير مع جمركيي الحدود- مشهد الجمركي وولد السجائر- مشهد تهريب المخدرات في الشاحنة العسكرية الإسپانية – مشهد عامر وولد السجائر- مشهد الأفارقة في غابة غورغو استعدادا لاجتياز حدود مليلية- مشهد الزيارة إلى تومبوكتو- مشهد البئر- مشهد الجنس في الفندق- مشهد جنون رحمة أم عامر – مشهد الألمانية التائهة في شوارع بني أنصار- مشهد المقهى- مشهد الزلزال- مشهد البحث عن رحمة- مشهد قراءة الرسالة- مشهد حفر البئر من قبل العمال الذين يشرف عليهم الطاهر أبو عامر و زوج رحمة- مشهد عودة رحمة- مشهد المهرب مع الجمركي- مشهد سرقة الكنز- مشهد رجوع المهاجرين من الخارج في الصيف- مشهد لفضولي مع المشعوذين- مشهد لقاء لفضولي مع الفتاة المالية في جنة واحتفالهما بالزواج...).

هذا، وقد استعمل الكاتب حسن التخلص الذي نعرفه في الشعر العربي القديم عبر مجموعة من الوسائط اللغوية كدع ذا أو عد عن هذا .... لينتقل الشاعر إلى غرض شعري جديد ، وهذه الطريقة توظف في هذه الرواية بطريقة فنية رائعة كما في هذا المدخل النصي:" بعيدا عن الڤيلا، كانت الكلاب تتصارع بشكل مسعور حول أنثى. وبعيدا جدا من هناك، كان أهل القرية يبحثون عن رحمة التي اختفت دون أن تترك أثرا."(ص:53)
فهذا الانتقال في الموضوع والمكان يؤدي بطبيعة الحال إلى الانتقال الزمني وتغيير المشاهد الدرامية والسردية داخل المتن الروائي.

وقد استعان الكاتب كذلك بالزمن الطبيعي القائم على الأيام والأسابيع والفصول لإخضاع قصته المحبكة لمعايير التأشير الزمني والتعاقب الإيقاعي على غرار الروايات الواقعية كما لدى نجيب محفوظ وباقي الروائيين المهووسين بالتناوب الزمني والتسلسل الإيقاعي.

3- مكــــون الوصف:

يبدو أن إسماعيل العثماني ليس من الوصافين الكلاسيكيين الواقعيين ذوي النفس الطويل في الوصف كبلزاك وفلوبير وستندال وإميل زولا ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن منيف وعبد الكريم غلاب ومبارك ربيع، بل يعتمد على الإيجاز والاختصار في وصفه على غرار الروائيين الجدد الذين كانوا يتجنبون الحشو والاستطراد الممل في ذكر الموصوفات والنعوت والأحوال، بل يكتفون بمقاطع وصفية موجزة وموحية. وينطبق هذا الحكم كذلك على كاتبنا الذي يستعمل لوحات تشكيلية وصفية مختصرة جدا قد لا تتجاوز سطرين في وصف الشخصيات، أو يخصص صفحة أو نصف صفحة في وصف المكان. وعلى أي، فالوصف في الرواية مكثف ومختصر بشكل كبير.

ومن زاوية أخرى، فالوصف الروائي والقصصي عملية معقدة تستلزم من الكاتب أن يكون من فطاحل اللغة العربية و فحلا في البيان الفصيح يحسن التعبير ويمتلك لغة الإنشاء والشعر والأدب كما نلفي ذلك عند المنفلوطي وعبد الكريم غلاب. لذلك يتهرب الكثير من الروائيين من الوصف لوعورة تضاريسه وصعوبة متاريسه وضعف قريحتهم وجفاف مخيلتهم. وأعتقد أن إسماعيل العثماني ليس من هؤلاء، ولايمكن الحكم عليه من خلال نص روائي واحد، ويمكن القول: إنه لايستخدم الوصف المسهب لاعتبارات فنية وجمالية قصد خلق حداثة سردية بدلا من الاهتمام بجوانب المنظور البصري والتشكيلي المستطرد كما وكيفا.

ومن الأمثلة الدالة على قصر النفس الوصفي لدى الكاتب وصفه لبوحمارة:" كان قصير القامة، غليظ البنية وذا شارب كثيف غالبا ما يكون متسخا ببقايا التبغ المسحوق. أما اللقب فجاءه من ولعه بمعاشرة الحمارات أيام الشباب الأولى".( ص:111).

يلاحظ على الوصف في الرواية أنه يختلط بالسرد تارة، وبالحوار المشهدي تارة أخرى، ويقوم أيضا بوظيفة التمهيد للأحداث المحبكة وتقديم الشخصيات تزيينا وتقبيحا كما في هذا المقطع الوصفي.

ومن جهة أخرى، يستعين الكاتب بعدة وسائط لغوية في وصفه الموجز كاستخدام الصفات والنعوت والأحوال والكنايات والاستعارات والتشابيه وتشغيل المحاكاة الساخرة والباروديا والتهجين الأسلوبي.

ومن مقاطعه الوصفية الغنية بالصور التشكيلية البصرية حينما يصف الكاتب جسد صافية في سياق بورنوغرافي جنسي وبيكارسكي مستعملا النعوت والتعابير المجازية واللقطات السينمائية المثيرة للمشاعر الشبقية والانفعالات الإيروسية ليشوق المتلقي ويستفزه دلاليا ونفسيا بأن لفضولي وصافية كانا يعيشان حياة عابثة بيكارسكية قوامها المجون والاستهتار والمعاناة من الفقر وسوء الأحوال المعيشية والارتماء في أحضان الجسد لنسيان البؤس وحياة الخصاص والفاقة :" كانت تلك أول تجربة جنسية يخوضها لفضولي. وعندما سألته صفية وهو مستلق على ظهره في وضع الضحية، لم يعترف بأنه يمارس العادة السرية عدة مرات في الأسبوع. إلا أنه لم يستطع إخفاء جهله وحرجه أمام جسد امرأة يتربص به بكافة تجلياته وتدلياته. لم يكن جسد صافية طريا إلا أنه تسلق بعينين فضوليتين الجبلين المعلقين على صدرها وبينهما نهر واسع يغرق العصاعص فانتشرت حبات العرق على جبينه وسقطت قطرات من نهرها على صحراء صدره الجرداء. قبلته وداعبته بكفيها ونهديها وفخذيها ثم امتطت عصعصه المتصلب فلم يتمالك سائله طويلا. أشعلت صافية سيجارة مهربة وضحكت ضحكة متواطئة وهي تنقل نظراتها من الجسد الطري إلى السقف الوردي." (ص:84).

ولقد قدم الكاتب لوحات وصفية كثيرة تعتمد على حاسة البصر كوصف بني أنصار ووصف شاطئ البحر ووصف القرية ووصف غابة غورغو.... ويتسم وصفه بالواقعية تارة والفانطاستيكية المناقبية تارة أخرى وبالضبط أثناء تعرضه للعوالم الخيالية والفضاءات الصوفية الروحية اللدنية التي تحيل على عالم الإنس والجن والسحر والشعوذة والتصوف المناقبي كأحداث البئر الممسوسة، وأحداث مدينة جنة وتومبوكتو بمالي.

4- الفضاء الروائي:

تجري أحداث الرواية في حدود بني أنصار التي تفصل المغرب وأفريقيا عن إسبانيا، ويتسم هذا الفضاء كذلك بكونه فضاء التهريب والمفارقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. كما يعكس هذا الفضاء الموبوء بالمفارقات الصارخة في الحقيقة المغرب المقعر بالسلبيات والآفات المتردية ؛ لأنه يعبر عن كل التناقضات الجدلية التي تعرفها البلاد، وما يتفشى فيها من ظواهر مشينة كالجنس والدعارة وتهريب المخدرات وتزوير العملة وتهجير الأرواح البشرية وانتشار السرقة و تفشي الصعلكة والبطالة والإيمان بالخرافة والشعوذة ناهيك عن تفسخ المجتمع الحدودي أخلاقيا وقيميا وانحطاط الإنسان بسبب غياب القيم الأصيلة وانتشار القيم الكمية والمادية وفراغ الروح من الوازع الديني والأخلاقي.

وتحضر في الرواية صورة المدينة المتردية التي تتلاعب بها الرياح والأتربة إلى جانب صورة القرية المهمشة التي تنعدم فيها شروط العيش الكريم من ماء وكهرباء وشغل وتعليم... والتي يسود فيها الظلم والاستبداد والقهر والتجسس الداخلي والخارجي من أجل التحكم في أنفاس المهمشين والفقراء والبؤساء المشردين. وتذكرنا هذه الرواية برواية لازاريو ذي تورميس الإسپانية، و بروايات البيكاريسك المغربية خاصة رواياتي محمد شكري" الخبز الحافي" و" الشطار" ، ورواية ميمون الحسني " جذور الضباب"، وروايتي العربي باطما "الألم" و"الرحيل" ، و رواية محمد الهرادي"أحلام بقرة" ...

كما تتأرجح الرواية بين فضاءات واقعية ( بني أنصار وگرسيف...) سواء أكانت فضاءات مدينية أم قروية أم حدودية ، وفضاءات فانطاستيكية ( بئر الجن)، وفضاءات مناقبية ( مدينة جنة ومدينة تومبوكتو بمالي)، وفضاءات الهجرة (طليطلة – هولندا...).

هذا، وتتسم فضاءات الرواية بالانغلاق( السجن مثلا)، والانفتاح (شاطئ البحر)، والمأساة ( غابة غورغو ...)، والعتبة( ممر بني أنصار وحدودها المسيجة).

لكن يبقى فضاء غورغو هو أهم فضاء في الرواية باعتباره ممر الهجرة والهروب نحو الضفة المقابلة، كما أنه فضاء الاحتماء والاختباء والاستعداد لاجتياز الحدود نحو مدينة مليلية المحتلة، واجتياحها من أجل الحصول على المواطنة الحقيقية، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، والتمتع بحقوق الإنسان، وإثبات الوجود المصيري، والدفاع عن الكينونة المغربية والإفريقية على حد سواء ، والتعبير عن سياسة الاستعمار الفاشلة في أفريقيا، وانتقاد سياسة المغرب في حل مشاكله والتي تجعل أبناءه يفضلون الموت غرقا و اختيار الهجرة غير الشرعية سبيلا للخروج من الأزمات التي يواجهها الأفراد وباقي الأسر من جراء البطالة وانعدام الحرية والديمقراطية الحقيقية.

وعليه، فرواية "غورغو " لإسماعيل العثماني هي رواية فضاء بامتياز كباقي روايات نجيب محفوظ كالكرنك وزقاق المدق ...
أما زمن القصة الذي يتضمنه المتن الروائي، فهو زمن المغرب المعاصر الذي يحيل على بطالة المتخرجين وانتشار ظاهرة الإرهاب وترويج المخدرات وتهريب الأفارقة. أي تتموقع الرواية زمنيا في السنوات الأخيرة من القرن العشرين والبدايات الأولى من الألفية الثالثة، والدليل على ذلك الأحداث المستجدة التي لم يعرفها المغرب إلا مؤخرا كالإرهاب مثلا.

ومن الإحالات الزمنية التي تؤشر على زمنية القصة نستحضر هذا المقطع النصي:" في نهاية الستينيات، على ما أظن. ولكني دعني أقص عليك أحدى الحكايات الطريفة التي حدثت في الحدود القديمة قبيل الاستقلال لعلها تقلل من غضبك". (ص:74).

وهكذا يتبين لنا أن الرواية غنية بالفضاءات المتنوعة دلاليا ورمزيا، كما أنها تنطلق من زمنية معاصرة لتكون الرواية شهادة حقيقية على الواقع المغربي الحدودي بكل فظاظته ومأساويته الإنسانية القاتمة.

5- الصياغة الأسلوبية:

يستند إسماعيل العثماني كباقي الكتاب المغاربة وروائيي المنطقة الشرقية إلى استخدام السرد بكثرة، والاستعانة بالحوار في أماكن أخرى من الرواية ، والتقليل من المنولوگ أو الحوار الداخلي الذي يعبر عن الصراع الداخلي والتمزق النفسي و اسكناه الأحلام الذاتية الدفينة . ويعني هذا أن الكاتب يفضل الرواية المنولوجية ذات الصوت الواحد ويأبى استخدام الرواية البوليفونية المتعددة الأصوات كما نجدها في روايات دويستفسكي وكتابات ميخائيل باختين النظرية .

وإذا كان السرد يعبر في الرواية عن سلطة الراوي وتسلطه في تسيير دفة الأحداث والتحكم في رقاب الشخصيات، فإن الحوار في الرواية يكشف لنا الجوانب الخفية المضمرة داخل عوالم الشخصيات،وتعبر عن اختلاف وجهات النظر وتناقض المنظورات الفكرية والذهنية والتأشير على الصراع الأيديولوجي الذي يعبر عن كل شخصية على حدة.

وقد وظف الكاتب إلى جانب هذه السجلات الأسلوبية لغة مشخصة واقعية ورمزية تجمع بين الفصحى والعامية المغربية واللغة الإسبانية ، بيد أنها لم توظف اللغة الأمازيغية بشكل مكثف كباقي الروايات العربية كرواية " شجرة الدردار" للعباس الخليفي، ورواية "جنوب الروح" لمحمد الأشعري، ورواية" الشطار" و "الخبز الحافي" لمحمد شكري، و "الرقص على الماء"لحسين الطاهري...

وعلى الرغم من خلو اللغة الروائية من السجل اللغوي الأمازيغي إلا أن الكاتب عوض ذلك بمجموعة من الخطابات التناصية والأجناسية كالخطاب البيكارسكي والخطاب الفانطاستيكي والخطاب البورنوغرافي والخطاب المناقبي والخطاب القصصي والخطاب الديني والخطاب السياسي والخطاب الإعلامي وخطاب الرسائل وخطاب الميتاسردي وخطاب التوثيق والاستشهاد والخطاب الحضاري...

6- الشخصيات الروائية:

يوظف الكاتب في روايته "غورغو" شخصيات بيكارسكية تعاني من البطالة والفقر والبؤس والظلم والغبن والحرمان كلفضولي وعامر و صافية و الشباب الأفارقة وعابري الحدود والحالمين بالهجرة...

وتعبر السياقات الوصفية التي وردت فيها هذه الشخصيات أنها اجتماعيا تنتمي إلى الطبقات الاجتماعية الفقيرة ذات المستوى المعيشي المتدني، و التي تعبر عن الواقع الاجتماعي المتردي الذي يعرفه المغرب الحديث والمعاصر. لذا، تلتجئ هذه الشخصيات إلى الصعلكة وتهريب المخدرات وبيع السجائر و اعتناق فلسفة الإرهاب وامتهان الدعارة والسرقة والتفكير في الهجرة إلى أوروبا، والثورة على الظالمين من رجال المخزن ( القائد ولمقدم...) وجمارك الحدود، والثقة العمياء في السحرة والمشعوذين بسبب انتشار الأمية والجهل( رابحة، رحمة، الطاهر، لفضولي...). كما يعكس لنا النص الروائي مدى انتشار الفكر المادي في الواقع الميداني والاجتماعي وسموه على التفكير الروحاني والأخلاقي. ومن هنا، نجد لفضولي ينتقل من عالم الحرام بفضاءاته الموبوءة بالماديات والمحنطة بالقيم الفاسدة الكمية نحو عالم القيم الروحانية والاتجاه حيال الفضاء المناقبي الصوفي لإراحة ضميره المأسور بقيود الحس والمادة.

وعليه، فهناك شخصيات تبحث عن السعادة المادية كعامر ولطيفة وصفاء والأفارقة المهاجرين، وشخصيات تبحث عن السعادة الروحية والصوفية كلفضولي.

ب‌- المستــوى الدلالـــي:

تعالج رواية "غورغو" التي ألفها إسماعيل العثماني كثيرا من التيمات المضمونية والسمات المعنوية والمحاور الدلالية التي تعكس في جوهرها سلبيات الواقع المغربي بصفة عامة وواقع بني أنصار بصفة خاصة كظاهرة البطالة التي تمس المتخرجين من الجامعة المغربية ، كما هو شأن عامر المجاز الذي يثور على القائد المستبد، بيد أن القائد سيزج به في زنزانة الأسر جورا وظلما واستبدادا، ليتجه عامر بعد خروجه من السجن حيال حدود بني أنصار للبحث عن مسالك الهجرة واجتياز البحر نحو الضفة الأخرى.

كما تناولت الرواية ظاهرة التهريب التي يتعيّش بها المغاربة داخل الوطن وخارجه، وتتجاوز هذه الظاهرة تهريب السلع والبضائع إلى تهريب المخدرات والنقود والذهب والبشر، ويشارك فيها الجمركيون المغاربة والحرس المدني الإسباني، بل يشارك فيها حتى جنود الدولة المحتلة وعسكرها.

وترصد رواية "غورغو" فضاء بني أنصار باعتباره فضاء العتبة والمواقف المأساوية المتأزمة، وفضاء للتناقضات الاجتماعية وتردي القيم الإنسانية من خلال تصوير معاناة المغاربة والأفارقة في غابة غورغو الحدودية، وما يعانونه من تمييز عرقي ولغوي ولوني من جراء الاضطهاد وسياسة الإقصاء، وما يكابدونه من قسوة وظلم وتصفية جسدية، وما ينتظرونه من موت وقتل أثناء اجتيازهم للأسلاك الحدودية حيال مدينة مليلية المحتلة قصد الانتقال إلى الضفة المقابلة من أجل تأمين العيش الكريم والحصول على الحياة المناسبة التي تليق بالإنسان.

وترصد الرواية عوالم واقعية مفارقة ( التهريب والإرهاب والدعارة والصعلكة والتشرد والبطالة والفقر والبؤس الاجتماعي والاستبداد وانعدام الديمقراطية الحقيقية وانتشار التجسس الأجنبي والتهميش الحضاري والعمراني والثقافي وتقابل المدينة والقرية...) ، وعوالم فانطاستيكية ومناقبية ساحرة توحي باختلال المقاييس المنطقية والعقلية بسبب انحطاط الإنسان وتردي قيم المجتمع على جميع المستويات والأصعدة . كما تعكس لنا الرواية في أبعادها المرجعية والمقصدية سياسة الإقصاء والتمييز الحضاري . وما الزلزال الذي ترتكز عليه الرواية في الحقيقة إلا زلزال أخلاقي يستهدف تغيير نفوس البشر وتصويب سلوك الناس والانتقال بهم من ظلمات الإفساد إلى نور الهداية ، ولكن هذا الزلزال ليس كزلزال الروائي الجزائري الطاهر وطار الأيديولوجي الذي يمجد الثورة الجزائرية في عهد الرئيس الجزائري الأسبق الهواري بومدين. وما هجرة لفضولي من بني أنصار إلى مالي إلا هجرة روحانية لدنية تشبه هجرة " روح الجنوب" للروائي المغربي محمد الأشعري من عالم المادة نحو عالم الروح، وتطهير النفس البشرية المحنطة بالقيم المادية الكمية المهترئة ، والانتقال بها نحو فضاءات مناقبية سحرية وجدانية وعرفانية تطفح بالأنوار القدسية والمرامي المناقبية السامية.

خاتمـــــة:

نستشف، مما سبق ذكره، أن إسماعيل العثماني من كتاب الرواية البيكارسكية في المغرب إلى جانب محمد شكري ومحمد زفزاف وأحمد الهرادي والعربي باطما وميمون الحسني ، و يعد كذلك من كتاب الرواية المنوغرافية إلى جانب عبد الكريم غلاب وعز الدين التازي ومبارك ربيع ومحمد أنقار... ومن كتاب الخطاب المناقبي الصوفي إلى جانب أحمد توفيق ومحمد الأشعري...

وإذا كان كل كاتب يعرف بمدينته التي يعبر عنها كنجيب محفوظ الذي يلتصق بمدينة القاهرة، وعبد الكريم غلاب الذي ارتبط وجوده بمدينة فاس، ومحمد شكري الذي علق كينونته بطنجة، ومحمد أنقار الذي عبر عن مدينته تطوان، ومبارك ربيع الذي خص كل رواياته للدار البيضاء....فإن إسماعيل العثماني قد ارتبط جدليا بمدينته الحدودية الصغرى ألا وهي مدينة بني أنصار التي تطل على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وتنفتح على الضفة الإسپانية المقابلة عبر ممر مدينة مليلية المحتلة.

ويبدو أن إسماعيل العثماني قد شخص الواقع المغربي والأفريقي أحسن تشخيص، ووفق في اختيار الوسائط اللغوية أيما توفيق باستعمال لوحات قصصية متداخلة تأليفا وتركيبا مع تحبيكها في بوتقة سردية متعددة الأفضية والشخصيات والأساليب واللغات والخطابات التناصية .

ويمكن إدراج هذا النص الروائي أيضا ضمن الواقعية السحرية المعروفة لدى كتاب أمريكا اللاتينية وضمن أدب الجنون والحمق الذي جسده الكثير من كتاب الفلسفة والرواية كپاسكال ونتشه وميشيل فوكو وكافكا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى