الجمعة ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد متبولي

سقطت المدينة

القنابل تتساقط من السماء كالمطر، دوى المدافع يرج أرجاء المدينة، أصوات الطائرات والقاذفات تصيب المارة بالصمم، والجميع يركض.

الضابط الكبير الذى اعتقد فى وقت من الاوقات أنه يعلم كل كبيرة وصغيرة فى المدينة، السرقة والقتلة وتجار المخدرات كان يعرفهم جميعا بأسماءهم، ما ان تقع الجريمة حتى يعرف بفطنته مرتكبها، وما ان يراه المتهم فيعترف بكل ما اقترف وربما اعترف بما هواكثر لوطلب منه ذلك، كان على استعداد ليفتك بكل من يساوره من ناحيته حتى ولوشك بسيط انه ضد مدينته ، كان يعتقل المعارضين، يستجوبهم، يرميهم بجارح الالفاظ، ثم يأمر ضباطه وجنوده بالتنكيل بهم، وقد يحدث الا يتحمل احدهم العذاب فيفارق الحياة، الا انه كان يستقبل ذلك بفتور وربما بسعادة شديدة، فهم بالنسبة له مجرد خونة يجب التخلص منهم، اخذ يركض مثله مثل الجميع والدموع تملئ عينيه، وهولا يعرف ان كان يبكى على سلطانه الذى ضاع فى غمضة عين، أم يبكى على المدينة التى أفنى عمره من اجل تأمينها وتخليصها من اعداءها حسب اعتقاده، كلما تقدم فى السير اصطدم بقتيل اوجريح يشبه شخصا يعرفه، لم يستطع ان يفرق بين جنوده ومن سقاهم اشد الوان العذاب، فقد غطت الدماء وجوههم واخنلطت على الارض أجسادهم لترسم بحرا من الدماء غرق فيه الجميع.

المرأة اللعوب التى اعتادت أن تجول ليلا فى شوارع المدينة بحثا عن زبائنها، تمنحهم جسدها دون تردد مقابل مبلغ زهيد، كان دائما يراودها حلم الانتقال من قاع المدينة الى قمتها، عندما تشترى شقة فاخرة ومحلا تجاريا كبيرا فى وسط المدينة، عندها سوف يصبح زبائن محلها من علية القوم، وستستأجر من يعلمها كيف تتعامل معهم حتى تصبح واحدة منهم، حينها سيسوق القدر أحد ابناء العائلات الراقية ليتزوجها، بالطبع سوف تستر نفسها وتعود بكرا مثلما فعل زميلاتها اللاتى تركن المهنة، وستعمى ثروتها من سيرتبط بها عن ماضيها، وهكذا تحقق لنفسها ما لم تحققه بنات اكبر العائلات وأشرفها، اما الان فقد تهدمت احلامها مع تهدم المدينة، فعندما بدأت الغارات قذف المنزل، سقط جزءا من السقف على زبونها فأرده قتيلا، لم تجد ما تغطى به جسدها العارى سوى ملاءة السرير الملطخة بدمه، لتسير فى الشارع شبه عارية، وكأنها لم تسقط الا عندما سقطت المدينة، فحينها فقط انكشف سترها.

شاعر المدينة الاكبر، الذى طالما تغنى بانتصارات المدينة، وبكى على انكساراتها ورثا شهداءها، اليوم فقد موهبته وأحجم عن نسج الكلمات ، فلم يعد هنالك انتصارات أو آمال ليتغنى بها، بل اطلال واشباح وكوابيس واحساس بالمرارة والالم سوف يلازمه ما تبقى من عمره.

المناضل الكبير، قضى عمره بين المطالبة بالعدل والمساواة، والهروب من مطاردات ومناوشات من عدوه عدوا للمدينة، اليوم انتهت قضيته فلا ظالم ولا مظلوم، لا مطالب ولا أرض، ولكن حفنة من الضائعين.

العامل البسيط الذى قضى عمره فى أفقر بقاع المدينة على حد الكفاف، كان يلعن تلك المدينة الظالمة سرا وعلانية، فلم تكن أحلامه تتجاوز سد حاجته وحاجات أطفاله ليشعرهم بأنهم ليسوا اقل من زملاءهم فى المدرسة، لكن شعورا بالعجز والهوان قد تملكه فلم يكن قادرا حتى على الايفاء بأبسط متطلباتهم اليومية، كلما رأى فى اعينهم نظرة الانكسار لعن اليوم الذى جاء فيه الى الدنيا ودعا الله أن تتهدم هذه المدينة على رؤوس أصحابها، لكن عندما استجيب لدعاءه، تملكه الحزن والاسى، ود لويقبل ارضها، اوان تنجح تلك الحجارة التى كان يقذفها فى اتجاه الطائرات ان تسقط احداها، آه لوكان يعرف كيف يحمل السلاح لكان اول المدافعين عنها، فهى المدينة التى عاش وتزوج وانجب وعمل فيها، شهدت ارجاءها لحظات سعادته القليلة وساعات يأسه الطويلة، الا انها اصبحت جزءا لا يتجزأ منه كما اصبح هونفسه أحد رموزها، اما اليوم فالمجهول هومصيره المحتوم، ومن المؤكد ان الشقاء اصبح رفيقه الابدى.

الجميع يسير جنبا الى جنب فاذا تعثر أحدهم مد إليه الاخرون ايديهم، ربما لوعادت الامور كما كانت لعاد كل منهم الى نفس موقعه، فيعود الظالم ظالما والمظلوم مظلوما، لكن ذلك لا يشغلهم الان، فهمهم هواستعادة مدينتهم، فمدينتهم هى حياتهم بدونها محيت سيرتهم للابد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى