الأحد ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد متبولي

الحلم الأخير

جلس على المقهى، كانت تتعالى اصوات نرد الطاولة وورق الكوتشينة وشرب الشيشة التى عبأ دخانها و رائحته المكان، و فى الخلفية كانت احدى قنوات الاغانى تذيع أغنية من ذلك النوع الذى سقط فيه كل شئ بداية من الكلمات حتى ملابس المؤدية، طلب قهوته، أمسك بالقلم، أخذ يفكر بعمق، شرد بعقله بعيدا حتى انفصل تماما عن ذلك الحيز الزمانى و المكانى الذى يقبع فيه جسده، كان يحلم و يسطر ما يراه، حلم بعالم طاهر منزه بلا شرور، بلا آلام، بلا آثام، بلا حروب، بلا تلوث،يعيش فيه الانسان فى احضان الطبيعة بين المروج الخضراء، عالم تحكمه قيم العدل و التسامح.

وبين تلك المشاهد كان يتذكر أحد اصدقاءه و هو يتهمه بأنه يحلم بعالم لا يمكن أن يتحقق، أو يسأله أحدهم لماذا يكتب طالما أنه لا يشتغل بالادب و لن ينشر ما يكتب، لم يكن الامر بالنسبة له مهنة و الحلم ليس حكرا على أحد، كما أن فكرة النشر لم تكن لتأرقه كثيرا، فالمسألة بالنسبة له هى مجرد حالة يعيش فيها فى عالم من رسمه هو الذى اختاره، ينفصل فيه عن واقعه الذى فرض عليه، و يسطره عله يتحقق يوما ما، فيشعر بعدها براحة كبيرة تجعله يمضى مرة أخرى كترس من تروس تلك الآلة التى لا تتوقف عن الدوران، كان يفكر فى ذلك بشكل عابر ثم يعود و يحلم.

كان رواد المقهى ينظرون اليه بمزيج من الدهشة و الاستغراب و القلق، انهم لم يعتادوا رؤية شخص يمسك بالورقة و القلم على المقهى سوى أولئك العرضحالجية الذين يتكسبون من كتابة شكاوى الناس، أو فى تلك الافلام القديمة التى يظنون-دون سبب واضح-أنها كانت تنتمى لزمن أفضل، ماذا يكتب؟ و لماذا يكتب؟ أهو احد الحالمين الذين مازالوا يعيشون فى ذلك الزمن الغابر ؟ أم هو أخطر من ذلك؟، أيجلس بينهم ليرصد بقلمه كل حركة و كلمة تصدر عنهم لينقلها الى جهة ما ؟، أم انه يخطط لعمل اجرامى كبير، بدأوا يتهامسون بينهم فى الامر، زاد القلق حتى ان بعضهم هم بمغادرة المقهى، و كعادته كان يجلس بينهم، ينصت لما يقال و يتابع عن كثب ما يحدث، ثم يطير الاخبار الى رؤساءه، (رجل غريب يجلس على المقهى شارد الذهن فى يده بضع ورقات و قلم) تلك الكلمات القليلة كانت كافية لمداهمة المقهى.

سألوه عن تحقيق شخصيته و مهنته، نزعوا الاوراق و القلم من بين يديه، اقتادوه بعنف نحو السيارة التى انطلقت مسرعة، و فى غرفة التحقيق سألوه:

 لقد شوهدت فى منطقة مكتظة بالمنشئات الحساسة و يقطنها العديد من الشخصيات الهامة تكتب تقريرا، لاى جهة أجنبية كنت تكتب هذا التقرير؟

 اننى لم أكن أكتب تقريرا لاحد بل كنت أعبر عن حلمى.

 حلمك! و بأى شئ كنت تحلم؟، و من هو الشخص الذى لم يكن موجودا بذلك الحلم؟، من كنت تخطط لاغتياله؟

 عن أى اغتيال تتحدث، لقد كنت ارسم بقلمى عالمى الخاص.

 ترسم عالمك الخاص!، و أى مؤسسة قد أستبعدها من ذلك العالم؟، ما هى المنشأة التى كنت تخطط لتفجيرها؟

 إننى لا أفهم عما تتحدث.

المروج الخضراء، عالم مختلف، الحلم، كلها كلمات وردت فى الاوراق التى كانت بحوزتك الى ما ترمز هذه الكلمات، و ما هى الشفرة التى تستخدمها؟

 عن أى شفرة تتحدث؟

 قال بغلظة و قد تملكه الغضب: لا تريد أن تتحدث، شأنك، و لكن لتعلم أن الانكار لن يفيدك أو يفيد من تتستر عليهم، أنت متهم بالتخطيط لعمل اجرامى كبير بالتعاون مع أحد الجهات الاجنبية.

مرت أيام طوال لم يستطع أن يعدها، تأكدوا أنه برئ مما أتهم، أعتذروا له و أعطوه متعلقاته و من بينها أوراقه و القلم، ثم أفرجوا عنه، أخذ ينزل درجات السلم من أمام مكتب التحقيق و ينظر خلفه، ألقى بالاوراق و القلم، عاهد نفسه الا يعود لهما ثانية، و عاهد نفسه أن يكون ذلك هو حلمه الاخير.

تمت

مشاركة منتدى

  • لما جعلت ذاك حلمه الأخير ؟وددت لو غيرت النهاية ..
    اعلم أن الواقع مرير ولكن الأحلام وحدها هى سكر تحليته .. فلا تغلقها
    قصة مميزة جذبتنى حتى آخر مفردة .. سجلت واقعاً حياً ونقلته بوجعه وألمه
    أبدعت .. مودتى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى