الاثنين ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم عبد الستار شريدة

خمس دقائق لتشكيل امرأة

هي شهوة الحزن إلى الحزن، وشرك من سئم تعاطي حزن مغشوش، فبدآ في البحث في ماخور الدنيا عن حزن يقاس بالشم.

أدركت كل ذلك وأكثر لحظة رأيتها ترقص كأنها تولم لنحيب، فاردة من تحت إبطيها أكثر من عرق العافية... رأيتها ساعتئذ أقرب مني إلي، وإن جادت الخمرة وصدق ظني: كانت كأنها تغتسل بماء المطر لا العرق.

فالرقص في بلادي لمن لا يعلم بديل جيد للنواح أو النباح.

همست في أذني وهي تشدني من يدي لتداوي نحيبي معها بالرقص قائلة:

 كذبت يوم قلت في إحدى قصائدك المنشورة: زعل الفقراء ولو في القلب ثورة.

وأضافت: أنا لست منهم أيها المعاق، فأنا لا أحزن ولا أبكي في القلب.. بل أعوي في وجه الدنيا.

أجبت وكنت أدركت أنها استبقتني بما بدأت أشعر أنه الوقيعة الكاملة لاستدراجي إلى حزن يشبهني:

 أنت تبكين بالرقص، كما بكى ديستويفسكي طفولته المخنوقة بالكتابة.

واصلت: أو لعله بكاء المومسات بألم الخطيئة.

لا أعرف كيف قفز هذا الجواب من خزانة لا وعيي لألطم به وجه امرأة أخرى صادتني يوما بطهر وجهها العائب.

 أنت وقح. قالت بعد أن أزاحت يدي عن خصرها.
  أنا حزين سيدتي. رددت بحدة ثائر عاشق، أو عاشق ثائر تسلح بالبراءة والنية الحسنة لمواجهة جيش من النساء.
  أنت لا تحتاج إلى لافتة على جبينك كتب عليها: أنا حزين، كي أعرف أنك كذلك..
اعلم أن المحبطين هم وحدهم القادرين على اختبار مشاعر الآخرين..
وهم الأقدر على الاستدلال على بعضهم بحاسة الحزن كما يستدل إخوة الدم على بعضهم بغريزة ما علق بوجدانهم من رائحة الأم.

أيتها الأليفة كوجه أم وددت لو أنها ولدتني وحرمتني من أمي.
أيتها اللئيمة ككنيسة مقدسة لم يباركها الله ولم يمر بها نبي، ولم تزرها الرعية الصالحة.
كيف استطعت كل هذا الحضور الواعي في ساحة أعدت للرقص والنسيان؟
كيف أمكنك أن تتساقطي حكمة وشعرا في ساعة هي للهو والنكران؟

أهو حال العرب جميعا لحظة البوح والإبداع، إذ كلما اقترب أحدهم من الحكمة قصد حماما عاما وملها ليليا، مبشرا بتعاليمه على جدران القذارة.

أخاف أن تهلعي سيدتي لو قلت لك إني منهم، لكن بالمقلوب، إذ كلما أنجبت فكرة على ورقة بيضاء رغبت بعدها بالتبول.
اقتربت منها، طوقت يدي على خصرها..
سايرت جسدها المثقف بالرقص على ايقاع البلاغة،
همست في أذنها ضاحكا:

"ياااه.. كم أود من كل قلبي أن ألكمك على وجهك، ثم آخذك بحضني وأناااااام".

ردت ضاحكة: "حاذر أن تبع غريزتك، وإن فعلت أعرف أنك لن تكتفي بلكمي، بل ستقتلني".

آه لو تعلمين يا امرأة من أكون؟
وكيف أكون مع من أحب؟،
كنت نجوت بنفسك من رجل يلكم من يحترم..
ويقتل من يحب،
ويخسر كل من يدنو أكثر مما ينبغي من أسلاك حدوده الشائكة.
أنا كمقاعد المسافرين في محطات الرحيل سيدتي:
"لا أصلح إلا للعابرين وأبناء السبيل"،
وأحب النساء إلي .. امرأة استعجلت الرحيل.
فاحترسي مما تقولين، لأن السماء لها آذان.. والقدر له يد وذاكرة:
"يكتب ما نقول ويؤرخ ما يشبهنا"،
حتى إذا حانت ساعة الحسم معه، اصطادنا بما قلنا.

نهرتني بصوت بدا بعيد هذه المرة، ومختلط بأصوات من كأنهم تزاحموا للخروج من مقبرة:

  يا أنت، استيقظ...

حاولت أن أصل بنومي الإكلينيكي إلى أبعد حوار ممكن مع نادلة الملهى.

لكن رذاذ الماء المتطاير على وجهي من "جردل" المسح وهي تضعه أمامي على الطاولة –السرير- أفزع وعيي وهي تتأبط المكنسة قائلة:
 أليس لك بيت تنام فيه، علي تنظيف المحل.
وأضافت: تبا، من أين تأتون.. هيا أكمل نومك في مكان آخر.
أيقنت ساعتها أن لا فائدة من البحث عن أهداف غير مرئية.
ومن أن الحلم ،الحلم فقط، يجعلني أرى ما أريد أن يكون عليه الآخرين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى