الأربعاء ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
أيّ نموذج نقدم للأجيال القادمة؟

رسائل غسان إلى غادة السمان

عزمي خميس - الأردن

على الرغم من مرور 35 عاما على رحيل غسان كنفاني الفاجع ، ومرور 15عاما على نشر غادة السمّان رسائله إليها، تظل هذه الرسائل وهذه العلاقة العاطفية التي جمعتهما مبعث تساؤلات ومحط اهتمامات واجتهادات ووجهات نظر متباينة.

وإذا كانت علاقة غسان بغادة السمّان في نهاية الستينيات من الأمور المعروفة في بيروت وفي الأوساط الأدبية، فإن نشر رسائله إليها قد كشف جانبا قد لا يكون متاحا معرفته في حياته وخلال تورطه في العلاقة معها.
فمن المؤكد أن أصدقاء غسان ومعارفه لا يعرفون الدرجة التي يمكن أن يصل إليها تعلقه بها، ولا ما يمكن أن يقول لها، رغم أن تلك الأوساط كانت تقول ’’إنه سيتعب ذات يوم من لعق حذائها’’.

وإذا كانت غادة السمان حين قررت نشر رسائل غسان لها قد حشدت كل براعتها لتبرير إقدامها على هذه الخطوة، بل و تصوير نشرها على أنه مساهمة في ترسيخ ’’إنسانية فكرة الشهيد’’ أو إماطة ’’أقنعة التزوير للمشاعر البشرية’’ أو رسم ’’صورة المناضل من الداخل’’، فإن سوق كل هذه التبريرات وصياغتها في مقدمتين للكتاب يدلُّ على أنها ترد سلفا ومقدما على جملة اعتراضات أو اتهامات تستشعرها، أو تتوقعها من وراء نشر هذه الرسائل.

لكن على الرغم من كل هذه التبريرات يظل الدافع الشخصي المتعلق بذاتها وغرور الأنثى فيها هو الأكثر تأثيرًا في نشر هذه الرسائل وهو ما أشارت له بقولها: ’’ها أنا أستجوب نفسي في لحظة صدق وأضبطها وهي تكاد تتستر على عاملٍ نرجسي لا يستهان به: الفخر بحب رجلٍ كهذا أهدى روحه لوطنه وأنشد لي يوما ما معناه:

مولاي و روحي في يده

إن ضيعها سلمت يده

وأعتقد أن كل أُنثى تزهو (ولو سراً) بعاطفة تدغدغ كبرياءها الأنثوي، وأنا لا أستطيع تبرئة نفسي من ذلك جزئياً’’ (ص 23).

وفي سبيل هذا الإحساس الأنثوي أقدمت غادة على نشر رسائل غسان لها. فغسان بالفعل شكّل أسطورةً في تلك الفترة لكونه روائيا وأديبا مميزا و مناضلاً فلسطينيا وعربيا له مكانته، وواحدا من أهم الناشطين في الحياة السياسية والإعلامية والصحفية في بيروت في أوج تألقها، كما أن موته الفاجع على يد الموساد الإسرائيلي قد رسخ الأسطورة وزاد بريقها، فكيف تستطيع غادة السمان أن تقاوم إحساسها الأنثوي لتكشف للعالم كله كيف كان ’’هذا الأسطورة’’ يحبها، بل ويعبدها عبادة ويستجديها أن تكتب له رسالة!!!

وربما لا يجدي قولها: ’’أجد بكل إخلاص أن هذه الرسائل تمنح صورته بعداً إنسانيا جميلاً أخاذًا’’ (ص 23)، فقولها هذا مبعثه أن الرسائل موجهة لها دون غيرها، كما أن طبيعة العلاقة التي تكشفها تلك الرسائل لا تشير بأي حال إلى علاقة حب متبادل بين الطرفين، بل تشير إلى حبّ من طرف واحد هو طرف غسان كنفاني، حب أفقده توازنه واحترامه لنفسه، وجعله يلهث وراءها بطريقة لا تليق بأي رجل، فكيف إذا كان هذا الرجل مناضلاً عقائديًا وصاحب قضية وطنية وأديبا عميقا صاحب تجربة، وفوق هذا متزوجا وله ولدان!

مثل هذا الحب -من طرف واحد- الذي تكشفه الرسائل، هو مبعث زهو وافتخار لغادة السمّان، لأنه يضعها في مكان شاهق، فلقد كانت أعز وأغلى أماني غسان.. غسان الأسطورة!!!

قد يقول قائل: إنه الحب الذي لا يميز والذي يسلب المرء عقله ولُبّه واتزانه، لكن هذا ينطبق على عامة الناس ولا يجوز أن ينطبق على رجالٍ تصدّوا لمهماتٍ وطنية ونضالية جسيمة ويواجهون أعداء في غاية الشراسة!!
فمن المعروف أن المرأة كانت وما تزال من أخطر أدوات أجهزة المخابرات العالمية، وعن طريق النساء تم تجنيد العملاء وتم التجسس على الأسرار وابتزاز الرجال والمسؤولين، فكيف لا يكون مناضل بحجم غسان كنفاني محصّنا ضد مثل هذه النزوات!! لا سيما أنه لم يكن مجرد أديب أو صحفي بل كان قياديًا في تنظيم سياسي فاعل.

وربما لو كان الحب متبادلاً، وكانت غادة السمّان تحبه كما يحبها لكان في ذلك بعض المنطق. لكن أن يحب رجل امرأة إلى هذا المستوى من الذلّ فذلك هو الأمر الذي لا يستطيع المرء هضمه في حالة غسان كنفاني!

يقول لها في إحدى رسائله: ’’تعرفين أنني أتعذب، وأنني لا أعرف ماذا أريد، تعرفين أنني أغار وأحترق وأشتهي وأتعذب. تعرفين أنني حائر وأنني غارق في ألف شوكة برية، تعرفين ورغم ذلك فأنت فوق ذلك كله تحولينني أحيانا إلى مجرد تافه آخر’’ (ص 49). ويقول في رسالة أخرى: ’’لا: ليس ثمة إلا أنت، إلى أبدي وأبدك وأبدهم جميعًا، وسأظل أضبط خطواتي وراءك حتى لو كنتِ هواء’’ (ص 54). ويقول: ’’دونك أنا في عبث’’ (ص 71). ويقول: ’’إنني على عتبة جنون، ولكني أعرف قبل أي إنسان آخر أن وجودك معي جنون آخر له طعم اللذة’’ (ص 78). ويقول: ’’يا من قبلك لم أكن، وبعدك لست إلا العبث’’، ’’بعدك ليس إلا الخواء، دونك لست إلا قطرة مطر ضائعة في سيل’’ (ص 90). ويقول: ’’ها أنذا متروك هنا كشيء على رصيف انتظار طويل’’ (ص 93).

وفوق هذا الاستخذاء الشديد كان يعرف أنها تعبث به، وفي أحسن الأحوال كانت تذله أو لا تلقي له بالاً، وأنه لم يكن بالنسبة لها إلا تجربة من تجاربها الرجالية، فقد كان يستجديها أن تكتب له في الوقت الذي كانت تكتب فيه للآخرين: ’’اكتبي لي.. لماذا لا تكتبين’’ (ص 55)، ’’ما الذي حدث ، تكتبين لكل الناس إلاّ لي’’ (ص 59)، ’’يخيل لي أحيانًا أنها أمام الناس تحاول إذلالي’’ (ص 102)، ولا يعرف غسان كنفاني أن المرأة إنما تفعل ذلك كي تعلن أمام الآخرين أنها لا تحب هذا الشخص وأنها أكبر من أن ترتبط به!!!

’’أحيانا أنظر إلى عينيها وأقول لنفسي: ينبغي أن تكره هذه المرأة التي يروق لها إذلالك على هذه الصورة، ولكنني لا أستطيع!’’ (ص 102)، ’’ترى ما الذي يُذكّر هذه الإنسانة بي إلاّ الذل’’ (ص 107).

كيف يمكن تبرير تعلقه بها رغم كل هذا الإذلال الذي لاقاه منها، بل كيف يستمر في بثها كل هذا الحب وهو الذي كان يشكُّ بها بل ويعرف أن لها علاقات مع رجال آخرين: ’’من الذي رأيته أيتها الغالية في الثامنة والنصف من آخر ليلة كنت فيها في بيروت’’ (ص 49)، ’’وأمس ليلاً ماذا حدث، ماذا يمكن أن يكون قد حدث، غير أنها كانت فخورة بأنها قادرة على الخروج مع شاب آخر أو مع نفسها وأنا أنتظر’’ (ص 108).

ليس صحيحا ما قالته غادة السمّان من أن نشر هذه الرسائل تمنح غسان كنفاني بُعدا إنسانيا جميلاً، فقد خلخلت صورة المناضل والأديب.
ورغم أنها تسخر من ’’ميل الأدب العربي لرسم (المناضل) بصورة (السوبرمان) وتحييده أمام السحر الأنثوي’’، إلا أنها تعرف أن رسائله لها لم تعزز صورته الإنسانية كما لم تعزز صورتها هي أيضا، ولا قدمت صورة جميلة لعلاقة حب بين أديبين، بل قدمت صورة مشوهة لعلاقة حب من طرف واحد ألهبتها علاقة جسدية مؤقتة أقامتها معه ثم تركته يكتوي بنارها وحده.

هذه الرسائل لا تصلح كنموذج تضعه غادة السمّان أمام الروائيين الشباب، ’’حيث يطلعون على صورة حية لحياة شهيد حقيقي بعيدا عن أقنعة التزوير’’، وكأن هذا التعلق المازوكي بامرأة لا تحبه هو القاعدة وهو الحقيقة التي يجب أن يفخر بها الرجال!

وإذا كنا نفهم دوافع غادة السمّان لنشر هذه الرسائل التي تداعب غرور الأنثى فيها، فإننا لا نفهم دوافع هؤلاء المهللين لنشر هذه الرسائل والداعين لكشف كل أوراق الراحلين وأسرارهم باعتبار هذا لونا من الأدب!
أي نموذج نحاول أن نقدم للأجيال القادمة!!

عزمي خميس - الأردن

عن الرأي الأردنية


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى