الأربعاء ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم سامر مسعود

هذيان

المقهى غاص برواده، تتداخل الاصوات فيما بينها لتعطي المكان زخما من نوع خاص. القادمون أضعاف المغادرين. في الخارج يصفر الريح نواحا. تنظر الى المطر المنهمر عبر نافذة متعرقة فتتذكر دموع أمك لحظة وداع. تتداعى الذكريات خيطا رفيعا شبيها بخيط الماء المتسيل على الجانب الاخر من الزجاج. تشعر بعبء الذاكرة. تحاول الفكاك من وطأته بتغيير زاوية تفكيرك. ترى شابا بملامح عربية يجلس قبالتك، صفعات الغربة تترك ندوبا غائرة على وجهه المنهك، يحاول جاهدا ان يتلافى ضعفه عبر حاسوبه النقال الذي يمنحه ظلا لوطنه البعيد.

ينفتح باب المقهى على رائحة انثى بللها المطر، ترتدي ثيابا تعنون لمفاتن صارخة، حضورها يذكرك بنقش عباسي قديم. تتأمل العبارة...ترددها مرات ومرات. اللعنة...تهمس: انه الهذيان يعاودك من جديد... تقترب الفتاة من أحد العاملين،تكلمه فيشير بيده الى حيث يجلس الشاب. تقترب منه على مهل لتطعنه بسيف المفاجأة. لايزال الشاب مأخوذا بما يشاهد عبر حاسوبه النقال، غير مكترث بجمال فتاته... تعلن عن وجودها بهز كتفه الايمن بباطن كفها،بينما كانت شفتاها تهمسان: جاسم... جاسم... يرفع رأسه، يلتفت اليها بعينين محتقنتين، يهمس باسمها مندهشا، يعانقها بحرارة، ثم يطلب منها الجلوس.

تنطلق من أحد الزوايا موسيقا هادئة، تعانق أمسية مغلفة بالحنين، تنقل بصرك بين الحضور، على الجهة اليمنى يتجمع عدد من الفتية والفتيات يبحثون عن دفء النشوة بين قهقهات متعالية وكؤوس راح مترعة. وعلى الجهة المقابلة شاب يراقص فتاته على ضوء شمع راجف. يعجبك المشهد فتواصل لذة المتابعة، تتذكر صقيع الغربة والوحدة، ولكن تؤثر المتابعة غير ابه. الشموع تتراقص بتسارع، والاصوات تتعالى بقهقهات تشبه الصراخ، فجأة ينطلق لحن مغاير مغلف بنكهة حزن عراقية، يلف المكان صمت مطبق، تجتاحك رغبة في البكاء، تبحث عن مصدر اللحن، فتقودك عيناك الى حيث يجلس جاسم غارق في حمأة مجنونة،

يحمل كأسه صارخا بأعلى صوته بانجليزية عراقية: أصدقائي، لنشرب نخبا على صرح بغداد الحبيبة. أتسمعون هذا اللحن ؟؟ كان لحن هارون الرشيد المفضل. تتعالى الاصوات: ماذا تقصد بكلمة " بغداد" ؟ ومن هذا هارون الرشيد؟ يرد ساخرا بعيون دامعة: بغداد...( تهرب الكلمات من بين شفتيه)...أشهر أصطبل للخيول، أما هارون الرشيد فكان أشهر راعي بقر في الساحل الغربي كله، كان يعشق الموسيقا الشرقية( يتابع بنيرة صوت باكية) لدرجة ان خيوله وأبقاره أحبتها... تتعالى الاصوات بالتصفيق والاعجاب، ويواصل الحضور حفلهم الراقص على لحن راعي البقر هارون الرشيد...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى