الخميس ٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم سمية البوغافرية

رجولة...

هو رجل البيت والحارة... يقتني لوازم البيت... يسجل إخوته الصغار في كناش الحالة المدنية ويلقحهم من الأمراض ويسجلهم في سجل المدرسة... يشرف على مراسم ختانهم ويستقبل خطاب أخته الكبيرة ويتناقش معهم في المهور وفي أمور الزواج وزوجها باسمه... يقرأ رسائل جيرانه ويرد عليها بثقة عميقة... يستشار في العلاجات الطبية ويشخص الأمراض، ويصف الأدوية... يفتي في نواقض الوضوء ويؤم في الصلاة... أخيرا، حمل نعش جدته إلى جانب أعمامه الثلاثة... وكما يصلي صلاة العيدين، صلى أيضا صلاة الجنازة...

هو رجل البيت بلا منازع إلا أن جيوبه مثقوبة. لم تدفأ يوما بريال سوى ما تقطره عليه أمه من أجل التسوق... يشتري كل شيء تريده أمه ونفسيته تستهويها أشياء غير الكتب...يقف أمامها مذبوحا مشتتا وينتصر في الأخير لرجولته على أهوائه... يكتفي بتصويب نظرات العشق إلى غازية أعماقه... يقرأ خطوط جبهتها... يستجلي أسرارها وسحرها...يحدثها مكسور الجناح همسا، وأحيانا يمد يده القصيرة فيمسدها ويمسح عرق جسدها اللزج فيمتصه وتمتصه... تنام في ذراعيه مستسلمة...تزداد نيرانه اشتعالا... يندفع إلى إلقاء نفسه في بحرها...تنقبض يده القصيرة ولا تطاوعه مثل بقية الرجال ليجوب أعماقها وتجوب أعماقه ويطفئ لهيب ناره ببحرها... آه، ما أتعسني برجولة بدون زاد ولا مؤن!... ما أتعسني بتاج بدون سلطان!... ما أتعسني!!... أنت جناحي الذي أخفق به في الأعالي أقبض على سلطاني وتاجي و...وأنت بلسمي ودواء كل جراحي...بدونك أنا العذاب والعذاب هو أنا...

يرسمها من رأسها حتى أسفلها... يعيد رسمها... يبتلعها بعينيه وترتسم على شبكتيهما فلم يعد يرى سواها... تفضحه سيوله فتتدفق من بين فرجات أسنانه المتمردة على فمه... يجرفها بلسانه وعيناه تخترقان أعماقها وتسبحان في أنهارها... أحيانا يستغفل العيون فينزل على جسدها المعروق... يلحسه، يغرس فمه الكبير وسطها يحاول أن يخترق جدارها المتين... يهيج، يغيب، يندفع ليفتض فوهة سرها ويلقي بنفسه في بحرها...تخذله قواه... يبتلع هزيمته... يقف أمامها مهزوما مشلولا... ما أجدر القوى التي تنخذل أمامك بالموت، واليد التي لا تطالك بالبتر...يسألها بعينيه: لماذا أنت هكذا غازية، قاسية... غزوت نفسي وتربعت على عرش أماني مذ أن سرى نفسك في كياني؟؟ آه، أيتها الغازية لو كنت تعشقينني كما أعشقك لاقتفيت أثري وشققت جدار سجني واحتويتني واحتويتك وانتهى عذابي... كلكن على شاكلة واحدة...كلكن ساحرات... لا فرق بين البرتقالية والنعناعية والليمونية...كلكن سواسية...آه، كم تسحرني الزنجية... كل الرجال حدثوني عنك على أنك أقواهن... كم أعشقك أيتها الزنجية القوية...ما أحببت اللون الأسود إلا لوجهك أيتها البحر المتدفق بالسرائر...غدا سيحل ضيوف ببيتنا وأمي ستستضيفكن رغما عن إرادتها وإراداتنا...هم ضيوف أعزاء قادمون إلينا من بلاد بعيدة...لا بد أن تحضرن لتكتمل فرحة اللقاء...وهل للوليمة معنى أو طعم من دونكن أيتها الغازيات؟؟؟ وهل من طقس نشعر الضيوف بحرارة الدفء غيركن أيتها الزنجية والبرتقالية والنعناعية...غدا سأنتعش بأنفاسكن... وأطوف عليكن واحدة واحدة...لن تلمسكن يد غير يدي ولن يفتض عذرياتكن أحدا سواي... اسألن عني ليأتينك الخبر اليقين... أنا رجل البيت والحارة...

مضي مثقلا بلوازم البيت يجتر حسرته كما الجندي المنهزم المجرد من سلاحه... يلتفت وراءه... تلتصق عيناه على صورة غازية أعماقه... تنهمر سيول ريقه لتبصم مشواره... يحلق في الأعالي: آه، لو تكبري وتكبري وتحلقي عاليا فتهطلي أنهارا تفشفش فوق رأسي... تلمظ أنفاسها منتشيا وفتح فمه في وجه السماء... تعثر واهتزت رجولته التي أهدرتها أطياف الزنجية الغازية ونزل متحسرا يلم بضائعه المبعثرة...

حضر أصدقاء والده وحضرت الغازيات التي غزت نفسيته وأبت أن ترحل عنها... حدثته نفسه بأن يسلخ عنه الرجولة أو ينسلخ منها وأن يرتكب حماقات تخدش رجولته للاستئثار بسحرها ويشارك الرجال صهدهم وانصهارهم... لكنه كعادته، احترق بصهده واكتفى بأنفاسها ولجم جماح نفسيته وعقل سوءها في داخله كما عقل مرح الطفولة وهجرها منذ أن تدفأت ثناياه بالرجولة... يخشى أن تتخلخل البطولة والرجولة في العيون فتتزعزع صورته أمام الضيوف وتنقل مشوهة مبتورة إلى والده المغترب...وما أشقى نفسه بهذا!!... وحينما يخلو بنفسه وبصورة معشوقته الغازية الزنجية يبصق يمينا وشمالا ويلعن أصول وفصول الرجولة التي تكتفي بالأنفاس...

انتهت السنة الدراسية وحاز بطلنا النحيف الطويل على شهادة إنهاء التعليم الابتدائي وتسلمها من يد المدير وتحت تصفيق زملائه.. حضنها إلى صدره وطار بها إلى البيت.. زغردت أمه وتمتمت وبخرت وألصقت صورته على شهادته وعلقتها في صالة الضيوف محفوفة بالأضواء اللامعة الساطعة... كان لهذا الاحتفاء وقعا كبيرا على نفسه رسخت جذور رجولته في أعماقه فأطال قامته...

حل خاله القادم من ألمانيا فأهدى له ساعة تليق برجولته وبالحدث السعيد ورافقه معه إلى السينما ثم إلى المقهى... استقام في جلسته وأسند ظهره إلى مسند الكرسي رافعا رأسه بزهو...من ذا الذي يعرفني الآن؟؟... من ذا الذي يعرف الآن قامتي وهامتي غير خالي؟؟...ما جدوى الشهادة التي تلصق على الحيطان؟؟... مكانها الطبيعي حيث أضع قدمي... مكانها هنا أعلى صدري...حيث جيب قميصي... مكانها هنا لتستر هذا الجيب العيب؟؟؟ ينبغي أن أسد فوهته المشينة ببطاقة تؤكد وزني وثقلي...وهل من بطاقة تبرز قيمتي وعظيم قدري خير من شهادتي؟؟؟...استشاره خاله في مشروب يروي به عطشه... طارت رجولته وانكمشت في زاوية وفغر فمه يحدق في خاله الذي أعاد عليه:
ـ ماذا تريد أن تشرب؟؟؟
قفز فرحا منتشيا يفيض فمه الشاسع الواسع مع سيول ريقه كما تفيض قارورة الشمبانيا بضحكتها على من يفتض سدادتها...
 حبيبتي الزنجية...
 ماذا ؟؟؟
 أقصد كوكا كولا
 من الحجم الصغير أو الكبير؟؟
 كوكا كولا كبيييييرة
 وهل تقو على شربها بمفردك؟؟
هز رأسه بالإيجاب وهو يمصمص شفتيه ويزدرد فيضان ريقه مغمغما في قرارة نفسه.. أقوى على شرب نهر من الكولا إذا وجدته أمامي وملعونة الرجولة التي لا تقوى على شرب الكولا...حضرت للتو في " العمارية " قارورة كوكا كولا من الحجم الكبير مرفوقة بكوب... غاظه هذا الكوب القزم بجانبها، وطريقة خاله المتأنية في صبها في الكوب... تمنى لو يخلو بها وينزل عليها الفم في الفم حتى الارتواء التام... كلما أفرغ من كوب، صب له خاله كوبا آخر ووعده بأخرى متى أنهاها... خالك رهن إشارتك طالما أنك متفوق في دراستك ورجل البيت في غياب والدك...( يقول الخال بصيغة جادة ونبرات الضحك تفضحه...)

أتى على آخر نقطة في القارورة... عيناه تجحظان. فمه يحرر تجشؤا تلو تجشؤ...
خاله يندس تحت الطاولة مقهقها ويشير على النادل أن يأتيه بقارورة أخرى في حجم الأولى... ورجلنا الصغير تهيج رجولته وتتمرد على جسده النحيف... يتقوس يقبض عليها ويجهد نفسه ليسجنها في داخله... يهم بالتعبير بأن الكولا والرجولة تتعاركان في داخله وأن حاله في خطر...يقبض على آخر ما تبقى لديه من خيوط الرجولة فيرفع يده ملوحا بعدم رغبته في المزيد... ويده الأخرى تهدئ مصارينه التي تتعارك مع الغازات وتحاول محاصرتها وخنقها...
زمام الأمور تنفلت منه..
خاله يكتم الضحك ويهيج من أمره بإصراره على طلبه...
النادل يسرع الخطى مع كولا جديدة...
عينا الرجل الصغير تتسعان تهمسان للزنجية الغازية بان تنتظره ريثما يتغلب على غزوتها الأولى..
الخال يلح والغازية تتراقص ولا تعرف أن تتريث أو تتوانى...
الرجل في حيرة من أمره يقدم أم يتراجع ويستسلم...
حسمت الكولا الموقف...وفاضت مع الرجولة من الخياشيم والفم ومن كل المصارف... ارتوت المائدة والكرسي وتحته ونال الخال والنادل نصيبهما من الطوفان...

وتحت المائدة غارق في مأساته، يقيس رجلنا حجم رجولته...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى