الجمعة ٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
قاسم حداد في كتابه الجديد
بقلم محمد علي شمس الدين

لست ضيفاً على أحد

في كتاب قاسم حداد الجديد «لست ضيفاً على أحد» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالاشتراك مع بيت الشعر، مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل الخليفة في البحرين، 2007) يتصاعد لهب القصائد من حطب السرد. فأسباب القسم الثاني من الكتاب وهو بعنوان «لست ضيفاً على أحد» موجودة نثراً وفقرات على هيئة محطات زائر الى برلين، في القسم الاول. فالكتاب تم إنجازه في برلين يونيو ,2006 خلال زيارة ضمن برنامج «ديوان شرق ـ غرب» الذي ينظمه معهد غوته. وعلى ما جاء في الصفحة الاولى من الكتاب، فإن هذا البرنامج يعمل على ترتيب زيارات مشتركة متبادلة بين كتّاب من الشرق (عرب، ايرانيون، أتراك) وكتّاب ألمان، لاقامة عدد من الفعاليات المشتركة في بلدي الكاتبين، ويترافقان في جولتيهما الالمانية والشرقية، ويكتب الاثنان ما يريدان، بحريتهما المطلقة، وتتولى الجهة المنظمة ترجمة ما يكتبان في المانيا ونشره. كان زميل الكاتب في التجربة الكاتب الالماني «إيليا توريانوف»، الذي يحظى بقصيدة في القسم الثاني من كتاب قاسم حداد.

ديوان «شرق ـ غرب» إذن، ديوان تدريبي ألماني لمعهد غوته، لتوليد تفاعل ثقافي بين المانيا والشرق على تنوعاته. والعنوان كما هو واضح، مأخوذ من تجربة الشاعر الالماني غوته، في انجذابه للشرق عامة، وللاسلام خاصة، وللرسول الاعظم بشكل أخص، حيث كتب ديوانه الشهير المسمى «الديوان الشرقي للشاعر الغربي». يقول قاسم حداد في كتابه، انه من خلال احتكاكه ببعض المثقفين الالمان. تبيّن له ان ديوان «غوته» المذكور، معروف ومنتشر في البلاد العربية والاسلامية اكثر مما هو معروف في المانيا. وهي ملاحظة تشير الى تغيّر الاحوال والعلاقات والمفاهيم بين عصر غوته في القرن الثامن عشر الفائت، والعصر الراهن في مطلع الألفية الثالثة بعد الميلاد. فإن علاقة ثقافية متينة وخصبة، لم يظهر انها تكوّنت من خلال كتاب قاسم حداد، بين ثقافة عربية مشرقية معاصرة، وثقافة المانية معاصرة، كل ما في الامر، زيارات متبادلة، تظهر مختصرة وتجريبية (بين ثلاثة أسابيع وشهرين) تحصل بين كتّاب المان وآخرين عرب، او ايرانيين او أتراك، يترافق في كل منها كاتب الماني وكاتب شرقي، يتحاوران (غالبا من خلال وسيط مترجم) ويزوران معا معالم ومتاحف ومراكز ثقافية، ويعقدان ندوات مشتركة حيث يقوم المترجم بدور أساس في جميع مراحل التجربة.

تولى مترجمون من بينهم خالد الخطيب وليلى الشمّاع الترجمة الفورية للقراءات المشتركة خلال اقامتها في الصالون الأدبي في برلين وفي مبنى اكاديمية التبادل الفني الالماني DAAD، وشارك بنحو فعّال المترجم الالماني «جونتر أورت» الذي يعد من اشهر المترجمين الفوريين. يذكر ان ليلى الشماع قامت بترجمة اعمال أدبية وروائية متنوعة من العربية للالمانية. من بينها كتاب قاسم حداد المسمى «ورشة الأمل»، ونعثر على تناول سريع لاهمية الترجمة كجسر للتواصل بين الثقافة الالمانية والثقافة العربية. لكن: كيف يتم ذلك؟ ومن يقوم به؟ ومن يختار ماذا من الكتب والمؤلفات على اختلاف أنواعها واصحابها وعصورها، من روايات ودواوين شعر وكتب نقد او فكر او فلسفة... الخ هل ثمة هيئات متخصصة للترجمة ام يقوم بهذا العمل الجليل والضروري أفراد ومتطوعون؟ تم ما هي قيمة ما تم إنجازه في هذا المجال؟ كل ذلك بعض من اسئلة، لم يهتم بها الكاتب (ولعله ليس من اصل تجربته في هذا المجال) إلا انها تبقى جوهرية في مشاريع التبادل الثقافي بين اللغات.
كتاب قاسم حداد قسمان: قسم أوّل سردي على صورة فقرات ومقاطع وصفية، قريبة من يوميات شاعر عربي بحريني اقام لثلاثة أسابيع في برلين (في منزل يقع في الطبقة الرابعة والاخيرة من مبنى في وسط العاصمة. غير مزوّد بمصعد...) حمل قاسم رحله على كتفيه وصعد إليه ونزل مرات عديدة. واستشرف من شرفته خضرة الاشجار الطاغية التي اقتحمته في أعاليه... وتجوّل مع مرافقه توماس هارتمن (مدير برنامج شرق غرب)، ومع شريكه في التجربة ايليا توريانوف، في برلين، حيث السور القديم المهدوم، ومعالم المدينة، وبعض متاحفها، ومراكزها الثقافية، وزار ميونيخ للتأمل في انصاب جيا كوميتي العادية الضارعة المنجردة، «أجسام جيا كوميتي تفتك بك» على ما يقول، وتواصل مع الرسام السوري المقيم في برلين من خمسين عاما، مروان قصاب باشي، ومع وجوهه المفلطحة المأزومة المقهورة والشرسة، ومع أصدقاء آخرين ألمان، أبرزهم شريكه في التجربة، ايليا توريانوف، الكاتب والرحالة صاحب كتاب «جوامع العالم».

الجوهر في الشعر

أهم ما في كتاب قاسم حداد، الجزء الثاني، وهو يضم مجموعة النصوص والقصائد، المجموعة تحت عنوان «لست ضيفا على أحد». ويتبين للقارئ ان القسم الأول السردي الوصفي السريع، ليس سوى توثيق واشارات من رحلة الشاعر التجريبية الى برلين، وكان في الامكان استبداله بمقدمة نثرية طويلة. إذ الجوهر يبقى قائما في القصائد... ونكاد نلاحظ، ان لكل مقطع نثري سردي في الجزء الأول من الكتاب، قصيدة توازيه في الجزء الثاني... لكن جوهر التجربة وزبدتها، وأُكُلها في الشعر... فمقطع البداية وهو «كيانك الهش في القطارات»، يوازيه قوله في قصيدة الأب «القطارات ذات الحديد الحزين/ستخطفنى بغتة في غموض المطر»، والغربة التي وصفها نثرا في مقطع «ترك البيت» لها ما يوازيها في القصيدة نفسها «ها أنا/بعد بحرين تنتابني يا أبي، مثل برق بحارك فارأف بطفلك»، والتوابل الهندية التي يصف حبه لها نثرا وبحثه عن مطعم في برلين يقدمها، ترد في قصيدة «لست ضيفا على أحد» (حيث يصف مطعم كودم ووجبة العشاء: «يأتي نحاس الطواجن مكللا بالبهار وباللؤلؤ البسمتي من الأرز»... ولا اكتراث برلين به وشعوره بأنه ليس ضيفا على أحد يرد نصا في القصيدة آنفة الذكر، وعزلة الطابق الرابع الذي أُسكِنَ فيه، ترد أيضا نصا في القصيدة «بيت يختار عزلة الطابق الرابع»، والسفر وغربته في نص «حرية الريح»، وصباح برلين المتجهّم الموصوف نثرا، يدخل في قصيدة «بورتريه للصباح»، «الصباح هنا لا يتبع الشمس/صباح أكثر حرية من الشمس» كذلك قاع برلين الغامض، وبرلين الخضراء، وبرلين المشطورة بالسور «لم تكن المدينة بنت الخطيئة/الخطيئة في الناس قبل السور وبعده»... والخضرة التي يصف لفحها له لأول مرة، حين فتح شباك غرفته في الطابق الرابع، يعود اليها في النصوص ويستولد منها أكثر من مقطع في أكثر من نص. هو يقول في قصيدة بعنوان «ليلها»: «برلين محروسة بالكلوروفيل بالأخضر الفائض المستهام/بالبحيرات والانسجام..».

وفي «أخبار الغابة» يكتب: «بين كوخك والكوخ الذي يليه/مسافة يتكفّل بها الشجر»، ويصغي للصراخ الصادر من جذور الشجر «مستغيثا بالمياه الخفيّة»... أما سور برلين، الذي كان يقسم المدينة الى قسمين، والذي هدمه الشعب، وتوزعوه او وزعوه هنا وهناك، فإن قاسم حداد لا يكتفي بوصفه ووصف آثاره وبقاياه على الأرض وفي نفوس البرلينيين نثرا وملاحــظات، بل هو يدخله في نسيج قصائد ومقاطع من قصائد مشحونة بالتعبير والدلالــة. يقول في قصيدة «ليلها»: «الســور إرث الكــوابيس»، ويشير للارث المزدوج للمديــنة، متمثلة بسورها، في قصيدة «كائنات المكان» يقول: «ورثنا مدينة مشطورة الدلالة/تتفصّد بالقواميس/وتقصر عنها المعاني: نحن إرث الجغرافيا وخزائن التاريخ».
ثمة إذن قبل السور وبعد السور... قبل بعد برلين «كأني أقسّم جسمي على آخرين». ثمة إذن حكمة المكان الذي يعرفها الشاعر من خلال انتمائه للبحرين، الجزيرة، حيث حكمة الموج والصواري والسفن... الصراع والرحيل، والتشبّث الأخير برقعة اليابسة في محيط المياه... إذن، ثمة أيضا حكمة لبرلين المكان مثلما هناك حكمة لأي مكان في العالم:

«ليس ثمة حكمة واحدة
لمكان واحد
ثمة أمكنة لا تحصى
وحكمة واحدة
حيثما تكون
أنت في مكان الحكمة».

لقد سبق لعباس بيضون ان كتب «قصائد برلين» من خلال تفاعله مع هذه المدينة. وها هو قاسم حداد يكتب «لست ضيفا على أحد».

عن السفير


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى