السبت ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم عمر حمَّش

عصا وكفن

من قصص الانتفاضة

المخيم يرتفع وينخفض، ينفرد وينقبض، يدور يدور، ويصرخ هاويا على الرأس الهرم، الشوارع تموج تحت الأقدام، والفراغ يمتلئ، يتعبأ بالهتاف.

يهتزّ الرأس الثقيل بعينيه المطفأتين:

  أين أنت يا رشيد؟

البيت يتراقص، والأصابع في الفراغ تتباعد، تتلمس للجسد الأعمى الطريق.

أين الجدار؟ المخيم ناس، وجنود،وحجارة، ورصاص، جريّ ولحاق،و نار تجتاح الأزقة، والزوايا، والعتبات، قبضات في الهواء، وحلوق تكتوي بالزعيق واللهاث، المخيم رقص مجنون، في مسرح يتجشأ نارا، ويفرش التراب بالقتلى والمصابين، يقفل المخيم مداخله ويفتحها، وأزقته فوهات تطلق آدميين.

الجسد الأعمى يتحرك، يصرخ على الشارع من خلف الباب:

  يارشيد .

كان علي رشيد أن يبقى، يمسك اليد العجفاء ويمضى، يوصل الجد حيث مقر الروح، يجنبه شرّ العثرة بحواف ويوصله كالعادة إلى القبر، هذا قبره يا جدي، تتلمس يداه رأس القبر، بالضبط هذا رأسه، يرتخي الجسد، يتقرّب إلى الشاهد ويحضنه، هذا أنت ياولدي، القبور، يتربع الظهر، يأتي ويروح، ينطبق الجفنان، وتزول الحدقتان، وينفرج الفم المتحطب العجوز:

... ياسين والقرآن الحكيم .. انك لمن المرسلين ..

يروح الجدّ بعيدا، يهتزّ غائبا، رائحا غاديا على رأس القبر.

المخيم يتقلب في فرن، الشوارع تتسع، وتضيق، المخيم ينفجر، والجدّ المنحنى فوق العصا لا زال يدور، يصل الباب ويفتحه :

  يا رشيد .

رشيد لا يجيب، رشيد بعيد، لا مقبرة اليوم، لن يدفأ حضنك برأس القبر، ولدك وحده يجلس فيه، وينبهر، يتحرك داخله ويقف، يجرى، ويقترب، عيناه تصافحانك، تخبره:

  صغيرك اليوم قفز!

وتدور، ترقص في باب الدار مع الراقصين، تلوح بالعصا، لمن تلوح ؟ لعرب أم ليهود؟ ظهرك المنحنى يرقص كولد في العشرين، صرت تصول وتجول وتنادي:

  أين الصغير؟

أبوه نقل القبر، قشّره وخرج الآخر يدور، حمل الكفن وصار يلوح، تتقابلان وتلوحان، عصا معقوفة، وكفن يتراقص أجمل من منديل .
المخيم يشعل أركانه ويتلوى، يشوى الجارين ويزأر، جدران الطوب تتحرك، والدنيا عدوّ نشط بين البساطير والنار .

  عليهم .

هتف رشيد في الحشد الجاري، عدت قدماه العاريتان في الرمل، الولد صغير عليه وحل عالق، يقع، ويتدحرج، ويقف، يتكور خلف جدار، يهبّ بعيدا عن أعين بسطار، للولد ذراعان مثل عودين، وفي العودين أصابع تضغط حجارة، وتصوّب .

حجارة رشيد حادة بحواف، حجارته سكاكين تنغرز، دم بدم، دم أبيك أعزّ.

أبوك سقط قبيل تسابيح الفجر.

قال الجدّ: غطى أبوك رفاقه وسقط.

وقال الجدّ: سقط بعد آخر حبة في المشط.

دم أبيك طوفان تحت الجلد.

الجدّ عند الباب يتخلى عن رقصته، ويوقف عصاه اللوّاحة، ينصت لنداء في الشارع، صيحة مخنوقة من حلق صغير،عاد الجدّ يحلّق بذراعيه وعصاه ويصيح.

ساقاه تهتزّان ويصيح:

  أين أنت؟

القلب يخفق، الذراعان تضربان الهواء، والصّدر يعدو كالحريق.

  يا ..رشيد

هاج الجدّ كطائر وجد فرخه.

ضغط الجدّ، ضغط، لهث فوق الرأس الناعم، وأصابعه تلهفت على العمود الفقري الرفيع .

  ابعد يا حمار .

ذراعا الجدّ تنضغطان، الساقان تنضغطان، الرأس يدفع الأجساد، يتقوّس الظهر أكثر،تبرز عظامه أكثر .

 يا ولدى .

  ابعد يا حمار .

الولد يغوص في الجدّ، والجدّ كهف لحمىّ تأتيه اللكمات، والرّفسات والأعقاب، تدكّ الحصن المستعصي، تقصفه طويلا، بالأيدي والأرجل والأسنان .

يهوى الجدّ بلا أنين، بلا صراخ ولا همس، فكّّوا حضنه وجرّوا الصبيّ، والجد تكوم شاخصا .

من قصص الانتفاضة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى