السبت ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
شاعر الماركة المسجلة
بقلم هدلا القصار

الشاعر اللبناني (شربل بعيني المهاجر)

يقال في القانون أنه لا تقبل شهادة أهل البيت، لكن لو كان القارئ في مكاني، حين أقترب القلب من ذاك البستان اللبناني الذي أخترقته سهام عيني المسافة وأخترقت حصاده الشعري كقذحة القوس .

ألا يحق لأصابعي أن تكتب عن شجرة أرز خلعت من أرضها، لتعاود زرع جيناتها في المنفى البعيد، بين موجات أرواح الشعر، ليظل الصوت اخضر كشذرات تبحث عن بعضها البعض ليكتمل الضوء بهما في عتمة الاغتراب عاشقين يكللهما سراً يعانق المحسوس، ويعبر الشاعر عن ذاته ليكتشف غربته الساخنة فوق أجنحته المحلقة على أوراقه المجروحة، كما فعل الشاعر والأديب اللبناني المهاجر" شربل بعيني"؟ حيث فتح أبواب خزانات ثروته الشعرية ورفع صوته في قصائده لينسج بين حبه للوطن وذاته بصراخ اعتقد الشاعر انه وصل السماء، وانزل عليه الرب الإله خاصاً به يحاوره / يحاكيه/ يبكيه كالطفل/ ويحتضنه كأزهار بستانه الشعري.

أن قصائد شربل تفوح بعطر الزمان الماضي، الأقرب إلى الأجواء الريفية اللبنانية، التي ما زالت تنثر روائحها على نصوصه الحنينية طوال الوقت ليعكس رثاء الماضي ويتكلم عنه كنوع من الأسى على فقدانه حين يقارنه بالحاضر . لذلك هو ينتقد جميع ممثلي الحاضر الذي يرى أنهم مسؤولين عن هدم هذا الماضي الجميل، كما نرى في نصوصه التي تحمل الرثاء الطويل لماضي لبنان . يسأل القصيدة حين تفتقد نفسه نفسها كما عبر في كتاب " إلهي جديد عليكم"

غَريبٌ أَنا
في دِيارِ الأَحِبَّةِ
أَمْشي
وَأَرْكُضُ خَلْفَ الضَّياعِ
وَأَغْزُلُ نَجماً كَنَجْمِ الْمَجوسِ
مُضيئاً
لِيُرْشِدَني إِلى مِذودِ حُبِّي
أَنا مَنْ أَنا؟
مَنْ أَكونُ؟
فَصَمْتي رَهيبٌ
وَعَيْشي كَئيبٌ
وَأَتْرِبَةُ الْحُزْنِ تَأكُلُ نَعْلي
وَجَورَبِيَ الْعالِقَ خَوفاً
بِأَطرافِ ثَوبي
أَنا مَنْ أَنا؟

نرى هنا الشاعر شريل كيف يزرع غابات مهجره بحنطة سنوات غربته الرهينة بقداسة المنطلق من إيمانه الإنساني الذي خلقه الله على لسان أقلامه التي تترآى على لغته وتقاسمه البحث عن سلم لبلسم جراح الوطن لتكبر عائلة مجموعاته الديوانية الأدبية في أيقونة غربته التي لا يتوقف نزفها ولا تخفف الأم الذي يقطع حبل السرة بين الوطن وغربته ويظل كالنسيج يغزل قصائده المهاجرة في متاهات سفر القصيدة الممددة أمامه باكتمال المعنى كتألم وجع الجبال حين تعصفها الرياح.

كم سالت نفسي مرات عدة ؟ كيف يمكن لشاعر أن يستجمع جميع هذه الأصوات التي تتدفق من داخله؟! حين يغرد قصائده كالطائر السجال/ يغنيها كالعاشق الذي يتكلم بعد الصمت / ويحاكي النص كالراوي / وبمفهومه الأدبي يصنع كلماته من لغته الخاصة به، ويدونها لنا دون يدخل الفذلكة الشعرية كالذي يحمله اليوم .

أن قصائده ونصوصه غيض من فيض، وهي المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع، كما وتساهم صوره الشعرية المحاكاة التي تخلق عالم من الدهشة والغرابة التي يفتن بها القارئ، ويأخذه بمفردات كلماته إلى حيث يريد، وهو يشير دائما إلى الغربة، حين يقع تحت وطأ العزلة، لتولد صور قصائده لغة مباشرة تبقيه كهمزة الوصل بينه وبين الزمان والمكان الذي يكحل به سطور شاعريته الملموسة، من واقع الحياة والسياسة ،كما في بعض قصائده الموجهة والمباشرة لمن يعنيه الأمر !! بطريقة ساخرة ودامية حين ينتقد الساسة والسياسيين والأحزاب والحكام القائمين على الطوائف التي كانت تؤثر على الشعب . لنرى ما قاله في هذه القطع من مجموعة " قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة " .

ـ3ـ
مَرْكَبُنا الأَخْضَرْ
شَقَّ الرِّياحَ الْعاتِيَه
مُذْ كانَتْ فِينِيقِيَا
وَالْيَوْمَ يَتَكَسَّرْ
عَلَى صَخْرِ انْقِسَاماتِنَا يَتَكَسَّرْ
وَالْحَقُّ لَيْسَ عَلَيْنا بَلْ عَلَى الرُّبَّانْ..
مَرْكَبُنا الأَخْضَرْ هُوَ لُبْنانْ.
**
الطائفيّة
ـ1ـ
تَسْأَلُونِي يا أَعِزَّائِي الْكِرَامْ
ماذَا تَعْنِي الطَّائِفِيَّه؟
هَلْ هِيَ رُوحُ التَّعَصُّبِ وَالْخِصَامْ؟
أَمْ هِيَ حِقْدٌ وَكُرْهٌ وَانْقِسَامْ؟
تَسْأَلُوني وَالدُّمُوعُ تَنْسَكِبْ:
هَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ؟
عَجِّلْ.. أَجِبْ.
ـ2ـ
فَأُجِيبْ:
إِنَّ فِي لُبْنانِنا الْحَبيبْ
حَيْثُ الْهِلالُ والصَّليب
مُتَّحِدانِ لِلأَبَدْ
يَسْتَحِيلُ.. يَسْتَحِيلْ..
أَنْ تَحُلَّ الطَّائِفِيَّه
أَنْ تَغُوصَ الأَنْفُسُ الطَّاهِرَةُ الأَبِيَّه
في آبارٍ شَيْطَانِيَّه
حَفَرَتْها الانْقِساماتُ السِّياسِيَّه.
**
ستحرقون
ـ1ـ
يا مَعْشَرَ الْيَمينِ وَالْيَسَارْ
بِالرَّغْمِ مِنْ أُنُوفِكُمْ
سَيَحْدُثُ ائْتِلافْ
سَتَلْتَقِي الْقُلُوبُ في حَدائِقِ الْوَطَنْ
سَيَرْجِعُ الزَّمَنْ
سَتُشْبَكُ الأَيادي وَالْحَناجِرُ تَصِيحْ:
لا يُوجَدُ اخْتِلافْ..
ـ2ـ
وُجُودُكُمْ مَبْني عَلَى الْكَرَاهِيَه
عَلَى الْخِصَامِ الْمُفْتَعَلْ
والطائفية..
وُجُودُكُمْ كَراهِي

كما أن الشاعر شربل لا يعرف الغموض ولا تستهويه الإيحاءات، لكنه يواصل البحث في الأزمنة عن من تسبب بجراح الأوطان، وانتهاك الطبيعة والتراث الوطني، ولم يفكر في لبنان وحده فقط، بل كتب عن الجرح الفلسطيني وأحلامه المتكسرة، وعن العراق التي يمثل رمز البطولة والأسى على الواقع العربي المعاش، وعن حرقة الأوطان، ومرارة الخذلان، وجحيم الآلام. كما خاطب الشعب الفلسطيني ، في كتاب "حوار مع القمر " يقول :

نَعُودُ؟
إِلى أَرْضِنا سَنَعُودْ
وَنَقْذِفُ جَنْباًً شَريطَ الْحُدُودْ
فَلَسْطِينُ أَنْتِ بِلادي.. وَهَلْ
سَأَتْرُكُ لِلْغَيْرِ أَرْضَ الْجُدُودْ
هلُّمُوا إِلى قُدْسِنا
رَاجِعين
لِنَطْرُدَ مِنْها الْعَدُوَّ اللَّدُودْ

ومن مجموعة "كيف ايعنت السنابل "اخترت منها بعض هذه ألابيات من قصيدة "أَرْض العراق .. أتيتك"

ـ1ـ
أَرضَ الْعِراقِ.. أَتَيْتُكِ
وَالْهَجْرُ يَغْتالُ البَنينْ
عُمْري انْتَهى
وَصَبابَتي
تَحْكي حَكايا غُرْبَتي
كَيْفَ احْتَبَسْتُ القَهْرَ أَعْواماً
وَعارَكْتُ الحَنينْ
كَيْفَ احْتَرَفْتُ الْقَفْزَ مِنْ شَكٍّ إلى شَكٍّ
لأَحْظَى بِالْيَقينْ
ـ2ـ
أَرْضَ الْعِراقِ.. أَتَيْتُكِ
مُدِّي الْيَدَيْنِ إلى الْحَبيبْ
إنّي سَكَبْتُكِ مِنْ عُيونِيَ دِجْلَةً
أوّاهُ.. كَمْ يَبْكِي الْغَريبْ
وَرَسَمْتُ وَجْهَكِ ساطِعاً
كالشَّمسِ.. لا يَخْشَى الْمَغيبْ
جَدَّلْتُ شَعْرَكِ بالْوُرودِ، كَأَنَّما
تَنْسابُ عِنْدَ سُفوحِهِ أَنْهارُ طيبْ
زَيَّنْتُ ثَغْرَكِ بِالْكَواكِبِ
وانْتَشى الْخَدَّانِ حينَ تَسامَرَتْ
بِالْقُرْبِ مِنْ أُذُنَيْكِ
أَقْلامُ أَديبْ
ـ8ـ
لُبنانُ، يا بَغْدادُ، كَمْ سَنَةٍ
يَقْتاتُ مِنْ أَكْبادِهِ الأَلَمُ
هَلْ يَنْتَهي الإنسانُ في وَطَنٍ
كانَتْ تُناغي أَرْضَهُ الْقِيَمُ
أَعْداؤهُ الأَوغادُ هَمُّهُمُ
أَن يُسكِرَ المُسْتَنقعاتِ دَمُ
أَوصافُهُمْ، إن شِئْتِ، أَكْتُبُها
كَيْ تَعْلَمي كَمْ يَخْجَلُ الْقَلَمُ
ـ9ـ
لُبنانُ، يا بَغْدادُ، مَعْبَدُنا
فيه ارْتَدَتْ أَرْواحَنا الْكِلَمُ
وَالْيَومَ.. تَدعو اللّهَ أَلْسِنَةٌ
يَغْفو عَلَى أَحْناكِها الصَّنَمُ
قَدْ قَسَّمَتْ أَوْطانَنا ضِيَعاً
وَالشَّعْبُ يَدْري كَيْفَ يَنْتَقِمُ
ـ10ـ
لُبنانُ، يا بَغدادُ، أُغْنِيَةٌ
تاهَتْ، فَتاهَ اللَّحْنُ والنَّغَمُ
كُلُّ الْجِبالِ الْعالِياتِ هَوَتْ
حينَ احْتَوانا بِكَفِّهِ الْعَدَمُ
حَتَّى اخْضِرارُ الأَرْضِ لَيْسَ سِوى
صَحْراءَ تَخْبو تَحْتَها الْحِمَمُ
ـ13ـ
أَرضَ العِراقِ.. أَتَيْتُكِ
مُتَعَطِّراً بِالْياسَمينْ
كَي تَعرِفي الْمَحْبوبَ
مِن بَينِ أُلوفِ الزّائِرينْ
الوافِدينَ إِلَيْكِ يا بَيْتَ الرَّسولِ
وَدَيْرَ عيسى
وَكُلِّ.. كُلِّ الْمُرْسَلينْ
يا نَجْمَةَ الشَّرْقِ الْبَهِيَّةَ في سَماءِ الغائبينْ
إِنِّي أَتَيْتُكِ.. فَافْتَحي الشُّباكَ
لا أَخْشى عُيونَ الْحاسِدينْ

كأن لغة الشاعر المهجرية تستعيد ذكرى شعراء المهجر العظام، الذين مثلوا وعي الوطنية القومية العروبية، من منافيهم في مستهل القرن العشرين كـجبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، والبعض منهم لقوا نحبهم في منفاهم ، وهم من شعراء الرومانسية القومية الكبار .

وهو شاعر يهاجم بسخرية الواقع /يدافع عن الإنسانية /يقتحم الاجبة /يدخل جميع الأمكنة / يفتح كل الأبواب / لا يهاب قول الحقيقة /ولا ترهبة العقبات / تميل طفيلياته الشعرية إلى ثلاث منحنيات الوطن/ والسياسة/ والحب العذري، وحين تسيطر عليه تجليات مخيلته الشعرية يتغنى بالمرأة الأنثى بطريقة غزله القروي البسيط النابض بعذرية الحب . ومن إحدى مجموعاته القديمة التي لفت نظري هذا النوع من الأسلوب السجلي /المحاكاة /المغنى بطريقة جميلة :

ارتعاشات الهوى
تَلْمَذْتُها عَلَى يَدِي، يَا حَبَّذَا
لَوْ عَلَّمَتْنِي الْحُبَّ رَغْمَ الأَسْتَذَه
أَحْلَى الْعُلُومِ، إِنْ أَنَا أَنْهَيْتُها
تَبْغِي بَقائي فِي صفوفِ التَّلْمَذَه
أَلْحُبُّ أَسْمَى نِعْمَةٍ حَلَّتْ بِنا
فِيهِ هَناءُ الْقَلْبِ، أَوْ فِيهِ الْغِذَا
قَدْ عِشْتُ عُمْراً فِي متاهاتِ الْعَنا
إِنْ قُلْتُ شِعْراً مُغْرَماً، قَالُوا: هَذَى
خِفْتُ ارْتِعاشاتِ الْهَوَى مُنْذُ الصِّبَا
قَدْ أَسْمَعُ التَّأنِيبَ مِنْ هَذَا وَذَا
إِنْ قُلْتُ: مارَسْتُ الْهَوَى عَنْ رَغْبَةٍ
صَاحُوا: كَفَى كَفَى كَفَى، الْعَرْضَ وَذَى
كُنْتُ إِذَا أَشْعَلْتُ حَرْفِي قُبْلَةً
أَخافُ أَنْ أُلْغَى وَأَنْ أُنْتَبَذَا
قَالُوا: بِعَيْنَيْهِ غَرامٌ كافِرٌ
فَلْنَسْرُقِ الْحُبَّ وَنُمْطِرْهُ قَذَى
شَرْقٌ تَعِيسٌ لا يُجارِي عَصْرَه
يَخْشَى الْهَوَى بِالنُّورِِ، وَالتَّلَذُّذَا
أَلْجِنْسُ، أَفْتَى، مُرْعِبٌ مُسْتَهْجَنٌ
لا الدِّينُ يَرْضَاهُ ولا ربُّ الشَّذَا
لكِنَّه بِالسِّرِّ يَسْتَقْوِي عَلَى
أُنْثَى اشْتَراها كَيْ يُدَمِّيها الأَذَى
عَنْ فُحْشِهِ، تَحْكِي الْمَرايا قِصَّةً
قَدْ تُخْجِلُ الأَبْوابَ والنَّوافِذَا
حَدِّقْ بِهِ.. شَكْلٌ غَرِيبٌ مُضْحِكٌ
إِنْ شَاهَدَ الْفُسْتانَ حالاً وَذْوَذَا
أَسْنانُهُ الْجَوْفاءُ أَضْحَتْ فَحْمَةً
وَالسَّعْدُ إِنْ لَمْ يُظْهِرِ النَّوَاجِذَا
أَهْلُ الْوَرَى كُلٌّ يُلاقِي خِلَّهُ
وَشَرْقُنا لَمَّا يَزَلْ مُشَعْوِذَ

وبهذا النفس المتواصل يبقى شاعرنا شربل بعيني شاعراً مؤثراً /أمينا/ نزيهاً /صادقاً/ في مواقفه، ولذلك استطاع في مسيرته الأدبية والشعرية الطويلة، أن يقود فكرته الإنسانية بعواطفه، التي تتعقب عصره الحديث بإفرازاته ومتغيراته في تقلباته التي أرقت شاعريته ليتكلم بصوته كما لو أنه صوت الجميع .
وهو شاعر لا ينطبق عليه شاعر الموضى التي تنتهي صناعته وتتغير بعد زمن قصير ، فهو شاعر الماركة المسجلة، يحمل فاكهة الوطن إلى ما لا نهاية .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى