الاثنين ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم عبد الهادي الفحيلي

ذات جنون

سامية، يا جنونا ألم بي ذات نزوة على باب العمر المتهالك. أبحث عنك الآن في كل الوجوه، في كل نفثة دخان، وفي كل رشفة من فنجان قهوة سوداء.

التقيتك على قارعة الغياب. صدمتني عيناك الجريئتان في لحظة كنت أستجمع شتاتي من حب عاصف أودى بغروري.

أحقا خنت صديقتك التي عبرتها أنت مقتحمة تخومي في ثقة زائدة؟
في ذلك الركن الذي تغطيه الأشجار في أقصى مكان من الكلية، كنت أحضنها هي المتعاقبة على فصولي المشروخة مثل اللعنة، ألامس شفتيها الظامئتين أبدا، انبعثت مثل طيف لا أدري من أين لتصيحي:

 حصلتكم [1] العفاريت، آش كاتديرو [2]؟

لم أكن أعرفك، هي كانت صديقتك المقربة. توقفت مشدوها والتفتت هي إليك مذعورة. لملمت شفتيها وابتسمت وقد احمر خداها وأنت تقهقين في صخب. نظرت إلي ومسحت قامتي كلها. كنت أقصر مني بكثير. توقفت عند عيني وابتسمت في عهر وقلت لها: هذا يصلح لي أنا وليس أنت.

ببساطة انكمشت إلى هذا. لم أعر كلامك اهتماما. ألم أقل لك أن غروري قد أودى به ذاك الحب اللعين؟

أ كان ما حصل عن سابق اتفاق بينكما؟ أ كنت تريدين أن تعرفي هذا الذي كان يفتك بذاك الجسد المشروع للريح وكانت تصدع رأسك بالحديث عنه؟

مددت إلي كفك مصافحة. صدرك الباذخ، شعرك القصير المصفوف بعناية فائقة، أحمر الشفاه الخفيف وبنطالك الضيق الذي يسطر معالم فخذيك الممتلئين. اختزلتك في نظرة سريعة ويدي ما تزال مضغوطة في كفك الرقيقة بلون الحليب. ما عدا عينيك المندفعتين فوق العادة فأنت لا تفوقينها كثيرا بل هي كانت أجمل منك.

 لاباس عليك؟

 لاباس. شكرا.

 عرفينا على الزين أصاحبتي.

 آه، عبدو اللي قلت ليك عليه وهذي سامية.

 مشرفين.

سحبت كفك برفق دون أن تسحبي عينيك من وجهي. دعوتكما لشرب شيء في مقصف الكلية. مشيت وسطكما. كانت صامتة. كنت تملئين الدنيا حياة وضحكا. بين الفينة والأخرى تلامسينني بطرف خفي من جسدك الراشح فتنة في الملابس الضيقة.

جلست قبالتي وأنا أدخن في صمت. لم أعد أذكر ما كنت تقولين لها. لم تتوقفي عن الكلام والضحك ولو لثانية. كنت أتأملك في هدوء مصحوب بعاصفة ولدها حضورك المشاغب.

سامية،
يا غجرية انقذفت في وجه ليلي الطويل.

طعمك ما زال لم يراوح أيامي.

كنت عاصفة هوجاء أحرقت كل الطقوس والتعاليم. لم أحببك. تعرفين ذلك جيدا. اعتنقتك جسرا يسلك بي خارج حدود تلك التي رحلت من غير دموع ولا قبلة على الجبين ولا حتى إشارة من يدها الصغيرة. آه يا ملاكي الرقيق لم شئت أن أرتمي في بحر هذه الساحرة المتصابية حد الوجع؟

أدمنتك.

وأنا أنتزعك من أوراق التوت في ذات الركن فاجأتنا صديقتك. تأملتنا لبرهة وقالت لك وأنت تسدلين قميصك على لحمك البض:
 بصحتك أصاحبتي العزيزة.

أفرغت في وجهي نظرة تحمل كل احتقار الدنيا واستدارت ذاهبة إلى حال سبيلها. أشرت لها بأصبعك الوسطى وقلت: تمشي تق.......
ثم عدت إلى شفتي تراودين طقوس النار في دمي.

أنا لم أخن أحدا.

حتى عندما ضبطت ابتسامتي لإحداهن في تلك المقهى التي اخترتها قبالة مبنى عمالة سيدي عثمان. لم يكن بطابقها العلوي غير ثلاثتنا. هي تؤانس كوب قهوة بالحليب وسيجارة. ونحن نتهتك على قفا الوقت. أخرجت لسانك لها والتفتت إلي في غضب لتمدي أصابعك نحو جزئي السفلي وشفتيك نحو شفتي في شبق مفتعل.انفجرت ضاحكا وأنا أزيح يدك التي تعبث بشيئي. نظرت إليها وهي تزم شفتيها في تعجب. أدرت رأسك نحوها وصرخت:

 آش بغيت أ لقح.....؟

ألجم لسانها. قمت إليها وقبلت رأسها معتذرا وقدمت لها سيجارة. لما عدت إليك ضربتني على خدي وقلت:

 صافي أ الزا....؟

حتى في هذه لم أخن أحدا.

حتى أنت لم تخونيني عندما اتصلت بي من هاتفك الشخصي وطلبت مني أن أنتظرك في الطريق أمام الباب الخلفي الذي تخرج منه السيارات من الكلية. بعد لحظات توقفت سيارة صغيرة الحجم. نزلت منها وتركت الباب مفتوحا. دنوت مني فاتحة ذراعيك لضمي وطبعت قبلة عميقة على شفتي.

رجعت إلى السيارة ومددت يدك إلى سائقها مودعة وأغلقت الباب. تحركت السيارة وابتسمت لي قائلة:

 توحشتك.

أمسكت بيدي ودخلنا إلى الكلية.

ذهبنا إلى المقصف. طلبت قهوة سوداء مثلي. كنت أتقبل منك أي شيء تفعلينه. كنت تعلقين دائما علي إذ أطلب قهوة سوداء:

 آش كيعجبك فيها وهي حارة ؟

أشعلت سيجارة. أخذت واحدة من علبتي وأمرتني أن أشعلها لك. ضحكت وأنت تسعلين مع أول ذرة دخان اقتحمت حلقك. قلت لي:

 باغيا نتعلم نكمي....

نظرت إليك بلا معنى. كنت تنفثين الدخان قبل أن يصل إلى داخلك.

 بوسني....

نظرت إليك مستغربا:

 تسطيتي [3]؟.....

ودون سابق إنذار هجمت على شفتي ومصصتهما بصوت مسموع. كان كل من في المقصف ينظر إلينا. يا جنونا هبط علي كالصاعقة.

سامية،

أي فم الآن يعضعض جسدك اللذيذ الذي كان يرميني ضياعا وتعبا؟
أي فم يقضم من تفاحتيك المتنزلتين من عنفوان الخطيئة الأولى؟

كنت ترددين على مسمعي كثيرا أنك ستتزوجين لتتخلصي من تلك الرقاقة اللعينة وتذهبي إلى أغادير لتتركي الجسد يفعل ما يشاء. كنت أرتعب من أفكارك المجنونة قبل أن أفجر دمك ذات ليلة سرقناها –أنا وأنت- من عين الزمان ودفنا اللحظات في رغوة البيرة ودخان السجائر الملغومة.

أين أنت الآن؟

أي فراش يستجمع جنونك الآن أيتها الهاربة- أبدا- من عقال الوجود الأرعن؟

 آلو عبدو. ماتبقاش تتاصل بي.

لم أع شيئا. لويت أنفاسي وأغرقت وجهي في عالم الناس وأنا أحاول أن أنتفض ضد تاريخك الذي أسرني بين حباله لشهور عديدة.

 الرقم الذي تطلبونه غير موجود.

صفير أخرق يهجم على أذني. يحتد كلما أعدت محاولة الاتصال بك.
وأعلن في وجه ذكراها: لماذا رحلت وتركتني عرضة لهذه الجنية التي تلاشت كأنها لم تكن يوما؟


[1بالدارجة المغربية تعني ضبطتكم

[2: ماذا تفعلان

[3هل جننت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى