الأربعاء ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

غيمتي الزرقاء

يبدو أن أمي الحبيبة ، حملتني على حلم وأطعمتني من حلم ، وسقتني من حلم ، وهذا دليل على أحلامي التاريخية ، فأنا أنام على حلم، واستيقظ على حلم.

كثيراً ما حلمت بغزالة تشبه الضوء الملون ، ولذيذة مثل القبلة الأولى، وكثيراً ما تمنيت لو أن التقي بها في الأسواق، على الدروب والضفاف، وفي السهول والوديان.

يبدو أنني كنت أشطط بأحلامي نحو أغوار المستحيل ، وها قد مضت عشر سنوات ولم ألتق بها، وقد كتبت عنها مئات القصص.
ذات تعب وربيع ، هربت من ملل ، وضجيج ، ورياء ، ونميمة قيدتني بها البلدة ومن فيها، هربت إلى غابة كبــيرة لا أعرف في أية جهة تقع ، ولا أعرف إن كانت في بلدتي غابة ، كل ما أعرفه أنني أمتهن الأحلام وكتابة القصص القصيرة. في هذه الغابة ، جلست لأكتب قصة خطرت على بالي ، فردت أوراق ذاكرتي وكتبت وأنا أنظر إلى السحب السابحة في الفضاء: كثير من الأشياء لا ننساها، نحّن إليها، ننتظرها أن تأتي ولكنها لا تأتي ، وتلك التي شدتني نحو سحرها، وأسرتني فكراً وقلباً وروحاً لا تأتي.. بغتة سمعت ضحكة ناعمة، فتوقفت عن الكتابة ، أرسلت نظراتي في كل الاتجاهات ، فرأيت مخلوقاً على شكل امرأة تشبه قصيدة تنساب من مسارب الوجدان، ترتسم على وجهها الطفولة، شعرها طويل لا حد له. يا إلهي لماذا أحب الشعر الطويل؟ عيناها صباحات عصافير الدوري، وجنتاها زهر اللوز ، وشفتاها بستان كرز. كانت تتمدد بأناقة تحت شجرة باسقة، ولا يستر جسدها إلا ثوباً أزرق يكاد لا يسـتر شيئاً من المفاتن.

إنها هي.. غزالتي الضائعة. صـحت من الفرح وغرقت في خضم نشوة ممزوجة بكثير من العذوبة ، تأملت إغراء جسدها ، فتوزع نبضي في المدى، ونســيت أين أنا ونسيت موضوع القصة أيضاً.

أشارت لي بسبابتها أن أقترب منها وهي تنظر إليَّ نظرة تنم عن جوع من نوع آخـر، لكنني لم أجرؤ على الاقتراب، كيف أقترب ولا أعرف هل هي امرأة، أم غزالة، أم مهرة، أم جنية؟

 تعال ودلّك ظهري. قالت بصوت آمر، ثم استلقت على بطنها ، فاختفى الجسد تحت نثار شعرها الأسود.
اهتز قلبي اهتزاز أوتار القيثارة وأنا أنظر إلى الغرابة والجمال العجائبي ، ولا أدري كيف تجرأت وركعـت أمام الجسد المثير ، أبعدت بحنان خصلات الشعر، فبانت النعومة والطراوة والبياض. غازلت يدي اللحم الحار، وطاب لها المقام فوق الكتفين، ثم منتصف الظهر، فالوركين، بينما نفسي تصدح كطائر أفلت لتوه من قفصه وتتساءل:" إذا كانت غزالة، أو امرأة، أو جنية فأين العظام؟
الشمس تشـرف على المغيب ، والعصـافير تودع بعضـها البعض بالقبلات ورفرفات الأجنحة على أمل اللقاء عند الفجر، والغابة تلتزم السكينة، وهي وأنا نطلق آهات وتنهيدات ، نمتهن اللذة ونكاد نسافر إلى عالم النوم.

وما أطيبها إذاك حين استوت جالسة، وأمسكت يدي وهمست:
 سأطعمك لحماً لم تذقه من قبل.
سارت فيَّ جداول الرغبة، انفتحت شهيتي لكل الجسد، من أصابع القدمين حتى الرأس، وبعد خدر لذيذ سألتها:
 من أنتِ ومن أي عالم جئتِ؟
 أنا الدهشة والضحك والفـرح الذي يطير بلا أجنحة، وقد جئت من عالم الحب والغموض.
وقبل أن أبدأ بتناول وجبتي الشـهية ، أطلقت ضـحكة عالية ، هرولت بين الأشجار، وراحت تقسو عليَّ ولا أقسـو إلا في حبها، وكان ثوبهاـ يرتعش ارتعاشـات الندى البحري، بينما العتمة تستعد لأن تعلن عن نفسها.
انجذبت إليها انجذاباً مغناطيسـياً،غردت حلما منثوراً خلفها. وهل لي غير الأحـلام ؟ رسـمت حنيني على أوراق الشـجر، والعشـب الناعم ، عانقت خطـواتي خطواتها ، كدت أمسك بيدها وشـعرها الهفهاف يداعب خدي ، لكنها استطاعت وبحركة سريعة أن تفلت مني. الركض في الغابة وفي جو بديع وخلف امرأة لها طـعم العنب، شيء جميل وغير متعب، حتى لو كانت الأشواك تدمي القدمين.
لعبتْ لعبة المراوغة، تحكمت فيَّ وهي تريني مفاتنها حيناً، وحيناً تمطرني كركرة وتشجعني على اللحاق بها ، فجأة ضاعت وضعت معها، اختفت وكأن الأرض قد ابتلعتها، فعاد الحزن المنسي وارتسم على هوامش العمر، ولم يعد لي هم غير أن أعيدها وبشــكل متشـنج وطفولي إلى دفاتر التفقد.

بعد حين انبثقت أمامي وكأنها تسـللت من الفضاء واستـوطنت الغابة في غفـلة مني ، غـرزت أشياء رائعة في حـدقتي عيـنيَّ، فاستعدت لأن احتويها بهديلي وأقتنيها اقتناءً سرمديا، ولكن حسـرة الروح شاخت، نســيتُ في غمرة لهفتي وأنا أركض خلفها أنني في أعماق الغابة وبت تائها فيها. كنت أركض وأزفها ولهي، اشـتياقي، ألمي ، ضياعي ، لكنها خانتني وأعادتني إلى نقطة الصفر، حيث الحلم والصراع بين الجسد المتعب والقلب الولهان.

أين أنت؟ هل مازلت في الغابة أم تحولت إلى سراب؟
لم أمّل ولم أتعب من البحث عنها، فجأة سمعت صدى ضحكاتها ونداءها يأتيني من البعيد:
 أنا هنا..

عندئذ اندفعت أركـض وألهث وأصيحـ، فلم تمنحني الغابة سوى ارتداد الصدى ، وضاع الوصل والوصال ، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فقدت توازني، وكادت أنفاسـي تتوقف من هول المنظر الذي لم تألفه عيناي ، رأيت مخلوقات كثيرة لا أعرف اللحــظة عددها، وكل واحدة تمشي على أربع ومتحفزةـ للانقضاض عليََّ، وبدأت أحلم من جديد، فأنا لا مهنة لي غير الأحلام ، أحلم بكيفية الخلاص من هذه المخلوقات الشرسة التي لا أعرف من أين جاءت وماذا تفعل في الغابة، تراجعت عدة خطوات إلى الوراء، ثم هرولت بكل قوتي ، ويا للهول ، كشـرت عن أنيابها ولحـقت بي كلها ، وبلحظات قليلة، حولت ثيابي إلى خـرائط ممزقة ولوثت العشب بالدماء، تركتني المخلوقات الظالمة وهربت ، ولا أعرف لماذا هـربـت، رممت جسدي وبكيت ، ومع البكاء رأيت الغزالة فوق الشجرة تنظر وتكركر بعذوبة ، فلم أنتظر طويلاً ، نهضت بكل آلامي، صعدت إلى الشجرة حتى صرت فوق أعلى غصن، لكنني لم أصل إليها ، وحين تطاير ثوبها في الهواء ورأيت ما رأيت ، قفزت لأضمها إلى صدري الجريح، وعندها تكشفت رؤاي الكاذبة، وجهلي الفاضح في تقدير المسافات، تطاير جسدي في الهواء وعلى الأرض ابتدأ لحن الأنين ، وكانت غزالتي الضـاحكة تسـبح في الفضاء مثل غيمة زرقاء ، وتنظر إليَّ بجسد طري يشع برغبة متوحشة، وانتظرت هطولها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى