الثلاثاء ٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم محمد متولي محمود

حوار مع زوجتي

لا أكاد أتوقف عن مداعبة دبلة الزواج المزينة بنصر يدي اليسرى حتى أعود فأداعبها بأناملي مرة أخرى... أتأملها... أحركها... أديرها في بنصري الأيسر... ولكني أبدا لا أفكر أن أزحزحها من مكانها... التصقنا ببعضنا منذ زمن حتى صرنا أنا والدبلة كيانا واحدا... والآن أصبحت شغلي الشاغل... أصبحت مداعبتها طقسا من طقوس حياتي... أمارسها باستمرار ولا أفكر أبدا في أن أزحزحها... يهترئ جلدي من تحتها لركود الماء بينها وبين الجلد- عند الاغتسال والاستحمام- مرات ومرات... أتحمل وخز الألم الذي يسببه اهتراء الجلد ولا أزحزحها... تترك تحتها طبقة من الجلد مختلفة اللون عن اليد... لا يهم... فلن يرى أحد هذا الاختلاف اللوني لأني لن أزحزحها... ببساطة لأن ما بيني وبين هذه الدبلة.. لا.. أقصد ما بيني وبين صاحبة هذه الدبلة عهد لا ينفصم..

أبتسم عند ذكرها وهي التي لا تفارقني... أنظر في ساعة يدي... لقد تأخرت اليوم أيضا... وقد لا تجيئ اليوم...

أعبس لهذا الهاجس المحتمل حدوثه... يطوف نظري بصحاف الطعام المنتشرة أمامي على السفرة ولا تلمسها يدي... لأنها... مشغولة بمداعبة دبلة الزواج...

يأتيني صوت أمي الملتاع- كالعادة- هاتفا وهي جالسة على كنبة بجانب السفرة... وكنت قد اعتدت على تلك النبرة التي تحدثني بها منذ فترة :
 ادعك في الدبلة... ادعك فيها كويس... جايز تطلعلك منها ملكة الجن اللي انت مستنيها...

يصك أذني صوت ضحكة خافتة شقية رقيقة بريئة... ألتفت إلى مصدر الضحكة الذي أعرفه جيدا وأحبه وأشتاقه وأشتهيه... أجدها جالسة جواري على ترابيزة السفرة... كالعادة لا أشعر بها أثناء مجيئها ولكني أفاجأ بها جواري... كهبات النسيم الباردة في نهار قائظ...تنفرج أساريري... أضحك لمرآها... أتأملها...ألتهمها بعين جوعى... أتدثر بأنفاسها كنفس شريدة عارية في شتاء قطبي لا أول له ولا آخر...
تهمس هي في رقة وعذوبة :

 دائما ما تغضب المرأة المسكينة..
تحتضن أذني نغماتها كشاطئ سكندري يحتضن موجة إغريقية محملة بالشوق وعبق الذكريات...
أتجمد أمامها كعابد مؤمن أمام تمثال فينوس...
ينطلق من بين شفتي سؤال :
 أي امرأة تقصدين؟
ترد وهي تشير برأسها إلى أمي بينما عيناها تلتصق بي :
 أمك..
 أنت أمي... لقد نبع جسدي حقا من رحمها ولكن روحي نبعت من قلبك
يوم عانقته أول مرة...
رنوت إليها وأنا أميل بنصفي العلوي عليها حتى تلاقت أنفاسها بأهداب عيني :
 أتذكرين؟
أطرقت في خجل...

تفور براكين الاشتهاء في أعماقي... أكاد أنفجر شوقا لتلك المرأة...
ترمق الدبلة في إصبعي... تسألني :

 لا زالت الدبلة ملتصقة بإصبعك إذا ولا تريد أن تزحزحها حتى من موضعها؟

 هي عهدي معك وليست دبلة من فضة..

يشرق وجهها في سعادة وبهاء..

تذوب روحي في ملكوت الجمال الجالس أمامي..

أهتف بها معاتبا :

 ظننت أنك لن تتعشي معي اليوم أيضا..

تطرق... ترتسم على صفحة وجهها ابتسامة معتذرة خلتها وكأنها حلم.. فهتفت بها بصوت هدجته سخونة أعماقي :

 وحشتيني... لم تفعلين بي ذلك؟ كل هذا الغياب؟

ترمقني بنظرة تخرجني من عالمي إلى عالمها السحري...

ترد وابتسامتها الحلم لا تغادرها :

 على عيني تأخري عليك.. ولكن أنت تعلم جيدا أن أمري ليس بيدي ولم يعد باستطاعتي أن ألتصق بك كالسابق أوأن أحافظ حتى على مواعيدي معك..

انكسرت نبرتي الساخنة مع نظرات عيني وأنا أقول :

 بدونك أصبح ضائعا... ألا تعلمين ذلك؟

تتفحص صحاف الطعام المرصوصة أمامي دون أن تقربها يدي... تتبدل ملامحها... تنظر إلي في إشفاق... تهمس في حزن :

 لا زلت مصمما على عدم الأكل؟

همست بصوت مرتجف :

 أشبع عندما أراكي... وأفقد شهيتي بغيابك عني..
ترمقني بنظراتها المشفقة... أستطرد وأنا مطأطئ الرأس :
 كل شئ يفقد طعمه بدونك...

صرخت في ذعر :

 ولكن ما فائدة كل ذلك؟ ماذا سوف يعود عليك من نفع؟

أصمت لحظات- تدور خلالها خواطر شتى بذهني المضطرب بينما تفقد عيني الرؤية إلا مما يدور بخواطري- قبل أن أرد :

 لا أدري..

تسود لحظات من الصمت وأنا منكس الرأس لا يسمع إلا أنفاسنا البطيئة...

تقتحم صدري بغتة سعلة قوية يعقبها سعال متواصل خشن يفتت الصدر... ثم يهدأ السعال فأبدأ في استعادة أنفاسي... أحس بأناملها الرقيقة تلامس أناملي... تسري في أناملي قشعريرة ما تلبث أن تقتحم جسدي كله عنيفة مزلزلة... تهتز كل خلجة من خلجاتي... ينتفض القلب انتفاضات العائد إلى الحياة بالصدمات الكهربية...

أتاني صوتها يهمس في شفقة وأناملها لا تزال تدثر أناملي :

 أنت تهمل نفسك... أنت تجعلني أقلق عليك في غربتي..

تنفجر من أعماقي تنهيدة ملتهبة... ألفظها وألفظ معها فتات الصدر والقلب وبقايا الإنسان :

 أنا الذي في غربة وليس أنت...

ينفجر صوت أمي الملتاع تخلله العبرات :

 ألن تنتهي مما أنت فيه يا بني؟

أرمق أمي بنظرة متسائلة وهي تسترسل :

 أنت تقطع نياط قلبي يا بني... أنت تقتل نفسك منذ أن ماتت زوجتك بما تفعله.. ألن تنتهي من مداعبة الدبلة والحديث المتواصل إلى نفسك كأنك تتحدث إليها؟ أريدك أن تنسى وتستمر في حياتك وتتزوج مرة أخرى... يا بني الحي أبقى من الميت..

ثم خنقتها العبرات فصمتت أما أنا فأخذت أحملق في وجهها المتقلص وشفتاها المتحركتان بالكلام بلا توقف.. بينما حالت خواطري بين كلماتها وذهني... تلك الخواطر التي لا أرى سواها ولا أستوعب عداها... تلك الخواطر المتجسدة أمامي دنيا بطولها وعرضها ونعيمها وعذابها... وجمالها الذي لا ينطوي مطلقا رغم كل الأحوال... وحياتي قبل كل شئ... تلك المرأة الجالسة جواري والتي أحالت كلمات أمي وجهها الصافي إلى صفحة ماء مضطرب يتموج بالنظرات المتسائلة وقد انتقل هلع أمي إلى عينيها ونبرتها وهي تهمس بشفاة مرتجفة :

 هل حقا ما تقوله أمك؟ الحي أبقى من الميت؟
هتفت بلا تردد وأنا أعتصر يديها بكفي :
 أنت لست ميتة... أنت الشئ الوحيد الحي في حياتي..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى