الاثنين ٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم محمد متولي محمود

أعماق باردة

للمرة الألف أتقلب في فراشي مغمضة العينين... متجمدة الأطراف والصدر من الصقيع... أحاول أن أطارد النوم فيفر مني... أرفع يدي من تحت الغطاء الثقيل لألفه حول جسده الدافئ ألصقه بي.. أضمه إلى صدري... أستنشق أنفاسه الدافئة بصدر ظامئ... أضع يدي على كتفه.. أزحف بها على ظهره حتى أطوقه... أحاصره بجليدي فيذيبه إلى حمم ملتهبة في صدره فأجد نفسي أحتضن سرابا هائما في دنيا الفراش...

أفتح عيني متفاجئة بغياب جسده...

أسمع صوت أنفاسه هادئة تتهادى إلى أذني قادمة من حجرة المكتب وبصيص من النور ينفلت من عقب باب الحجرة المغلق إلى الطرقة..

أنظر في ساعة الحائط أجدها الثالثة بعد منتصف الليل... يهيج قلبي إشفاقا عليه من طول السهاد والسهر والإنكباب على القراءة حتى الصباح..

لكم أكره حبه للقراءة ذلك الذي يعادل حبه لي...

لا أعلم إن كان قلبي يهيج شفقة عليه أم شفقة على جسدي الثاوي وحيدا في الفراش تلفحه البرودة حيث لا يوجد جسده الملتهب..

أنساب من السرير حافية أخطوإلى المكتب خطوات سريعة.. لا أحس بالبرودة وهي تخترق عظام قدمي... أضع نصب عيني هدفا أن أختطفه من صومعته..
ذلك الراهب القارئ... إلي صومعتي ذلك القلب البارد الظامئ إلى ينبوع عواطفه الدافئة...

أفتح باب المكتب.. تصفع عيني ووجهي وصدري ظلمة كئيبة... أتسمر على باب المكتب لا أعي ما يحدث...

هنا فقط أسمع من أعماقي ضحكة ساخرة هادرة ترن في جنبات جسدي الخامدة نيرانه... تشققه... تدمي منه مرارة... تنساب... تتدفق... ويرتطم رأسي بقطار الذكريات المندفع بلا توقف.. يحيلني فتاتا... رمادا... شبحا...

تقفز الحقيقة أمام عيني معلنة عن نفسها وكأني لم أكن أعلم بها من قبل ( هجر المنزل بلا رجعة )..

أعود بخطا متثاقلة إلى حجرة النوم تمزق جسدي البرودة من رأسي حتى قدمي... أرتعد... أحبك الروب حول جسدي... أجلس منكمشة في السرير متسربلة بالغطاء الثقيل... أنسى أن الرعدة ليست من برودة الطقس بالخارج ولكنها من الداخل... ألمح سترة بيجامته معلقة على المشجب... أمد يدي وألتقطها..

تقتحم أنفي رائحة جسده وقد تركها ذكرى لا تنمحي من على سترة البيجامة ولا تنمحي من سويداء سويداء نفسي..

أدفن أنفي في سترته أطهر رئتي برائحته الذكية.. أحتضن السترة أكاد أعتصرها داخل صدري.. ينتفض قلبي متوردا بالدفء وقد انساب خمر الرائحة في جوفه وراحت تتسارع دقاته مبشرة بالدفء كل أنحاء الجسد..

أطرح جنبي على السرير وأنا لا أزال أحتضن السترة المتطيبة بذاكرة الجسد... أترقب جيوش النوم أن تغزوجفوني فبدلا من أن أراها أرى نفسي وأنا أعذبه... برغم عشقه لي ولكني أعذبه... أجبره على أن يترك ثنايا صدري إلى صومعة يكون فيها وحده وكتبه حيث لا مكان لي... يلج عالم الروايات يقابل بطلاتها... يبحث عني بينهن فلا يجدني... وأنا لا أحاول أن أعيده إلى صومعته الأصلية... تلك الصومعة التي توق للاعتكاف بها ولكني كنت أغلقها دونه... صومعة قلبي... تلك الصومعة التي باتت خاوية تعصف بها رياح قطبية باردة بلا رحمة...

أرسل من عيني عبرة مرتجفة عسى أن يسمع نحيبها وهي تنزلق على خدي.. وقلبي يكاد يمزق قيد الشرايين ويهدم جدار الصدر فارا من أسري إليه حيث يكون... حتى إذا كان بين يديه خر له خاشعا...

يزداد ضغطي على سترته وأنا أرسمه داخلها...

أهوى بشفتي المبللتين بالدموع على كل قطعة فيها...

أغمض عيني بقوة عندما لاحت لها أشباح فقداني له للأبد...

أزداد في السرير انكماشا وأزداد بسترته تشبثا كأمل أخير أشعر معه بأنه لازال معي يدفئ بروحه أعماقي الباردة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى