الثلاثاء ١٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم سامر مسعود

السيارة البيضاء

الربيع ينسج ثوبه المزركش بخيوط شمس ضاحكة، والنسائم تعزف لحنها على أوتار أشجار سرو عالية، والطيور جوقة غنائية تغلف المكان بأجواء احتفالية مفعمة بالحياة. في منتصف المكان تماما تقبع مدرسة قديمة أصبحت عبر تعاقب السنين ذاكرة حميمة لأفواج الطلبة القرويين الذين لا تخلو أحاديثهم في جلسة سمر من الحديث عن ذكريات مضت بين ردهاتها.

في ذلك الصباح تزاحم الطلبة، على غير عادتهم، في ممرات المدرسة، عيونهم تستحث سيارة كبيرة أخذت تقترب شيئا فشيئا عبر طريق اسفلتي متداع.

توقفت السيارة في ساحة المدرسة، غرفة مستطيلة واسعة بيضاء اللون، يتوسط إحدى جدرانها الخارجية باب ضيق طويل، في حين يزين الجدار الاخر كلمات ضخمة حمراء اللون بإطار خارجي أخضر "مكتبة الأطفال". تجمع الطلبة الصغار حولها بفوضى الفرح والسعادة، اندفعوا داخلها كطيور جائعة، تحثهم رغبة جامحة في الوصول إلى القصص الملونة التي سمعوا بها، ولكن لم يتسنَّ لأناملهم من ملامستها عن قرب.

أثارت الفوضى حفيظة قيِّم المكتبة، قنَّع وجهه بملامح الحزم، ثم أخذ يردد على مسامع الطلبة بنبرة حادة تعليمات الاستعارة. كان ذلك كفيلا بإفاقة الطلبة من حلم الفوضى الذي انتابهم. ساد الهدوء للحظات، وأخذ الطلبة يدخلون إلى غرفة المكتبة بانتظام، في الداخل كانوا ينبشون الرفوف بحذر ظاهر؛ فعيون قيِّم المكتبة الحادة لا تفارقهم، كان بعضهم تستهويه قصص المغامرات، وبعضهم الاخر تستهويه رسومات ملونة تزين أغلفة الكتب الأمامية. كان كل طالب يستعير كتابه على عجل، ويغادر السيارة بسرعة، يجلس تحت ظل شجرة، ويبدأ بالقراءة بشهية عجيبة...
بينما كانت السيارة تغادر، وعبر مكبر الصوت، ذكَّر قيم المكتبة جموع الطلبة بأن زيارته القادمة ستكون بعد ثلاثة أسابيع. انتابه شعور بالارتياح عندما تبين له أن مكبر صوته لا يتعدى كونه ازعاجا يشوش متعة القراءة لدى الطلبة، فغادر مسرعا تشيعه ظلال أشجار طويلة وخيوط شمس تبرق عيونها من بين أغصان متراقصة.

مرت الأسابيع الثلاثة بسرعة، الطلبة ينتظرون بتشوق ظهور السيارة، لاحت من بعيد سيارات كثيرة، بعضها مكتظ بوجوه صارمة وعيون حادة دائمة الحركة، وبعضها الاخر يحوي وجوها غريبة بغيضة... كان الطلبة يتهامسون فيما بينهم بعد مرور كل سيارة " ليست هي... نريد سيارتنا البيضاء".
تتابعت أسابيع الانتظار، والسيارات ذات الوجوه الغريبة تزداد أكثر فأكثر, صرخ أحد الطلبة بعد أن يئس من الانتظار: "أكره تلك الوجوه البغيضة... إنها تسرق قصصنا..." سمع المعلم "نضال" الصرخة، أسرع إلى الممر المقابل لمدخل المدرسة حيث يتجمع الطلبة، وقال:

 لا تتعجلوا، حتما ستأتي...
 انتظرنا كثيرا... لا أمل... نكره تلك الوجوه التي ملأت الشوارع...
 هي أيضا تكره قصصنا لأننا نقرأها...
 ماذا نفعل؟ نريد سيارتنا البيضاء...
 لا تنسوا القراءة..." استل العبارة من بين أفكار كثيرة دارت في مخيلته تلك اللحظة.

أحس نضال بحرارة الدموع في عيون طلابه الصغار، رمقهم بنظرة كاسفة، أشفق على طفولة أخذت تمارس نصيبها من همّ أكبر، غادر المكان عاقدا العزم على السفر في اليوم التالي إلى المدينة لمعرفة سبب التأخير.

هو يدرك تماما ما تنطوي عليه هذه السفرة من مخاطر؛ فهي أشبه بمغامرة مميتة في ظل هكذا ظروف، ولكنه يتناسى كل ذلك عندما يتذكر نظرات الرجاء في عيون طلابه.

في صباح اليوم التالي كان نضال يسلك طريقا ترابية وعرة، يتنفس غبارا حارا أثارته عربات تجرها الدواب تتسابق لاجتياز نقطة التفتيش العسكرية التي تتمركز في نهاية الطريق. توقف قليلا، أخذ نفسا عميقا للتقليل من دقات قلبه المتسارعة، تذكر أنه الان هدف سهل بين نقطة المراقبة العسكرية على قمة الجبل الشاهق خلفه، وبين نقطة تفتيش أخرى أمامه، لذا عليه أن يتنفس بانتظام، وأن لا يباعد بين خطواته كثيرا، وأخيرا عليه أن يركز عينيه أمامه دون الالتفات يمينا أو يسارا!!

اقترب من نقطة التفتيش، الزحام شديد كالمعتاد، أصوات بكاء الأطفال تتداخل مع أصوات الأمهات، طلاب وموظفون ينظرون إلى ساعاتهم بقلق واضح، سأل نضال شابا قريبا منه:

 هل المرور سهل ؟
 الضابط المسئول مصاب بنوبات إسهال حادة هذا الصباح، لذا علينا الانتظار حتى تخف حالته...!!
 ومتى تخف؟!
 عادة عندما يرجع الناس إلى منازلهم...!
 ما العمل ؟
طريق "طورابورا".
 ماذا تقصد بطورابورا ؟!
 طريق الجبل...

سلك طريق الجبل متخفيا بين الصخور، يركض حينا ويختبئ في ظل زيتونة أحيانا أخرى عندما يتناهى إلى مسامعه وقع خطوات قريبة، أو أصوات لغة غريبة.

وصل المدينة عصرا، تأملها بحنين جارف؛ إذ لم يتمكن من زيارتها منذ عامين، ما لبث أن تحول شعوره إلى وحشة غريبة؛ فالمحالّ مغلقة، والشوارع محفَّرة تظللها بقايا بنايات لازالت تئن جراء قصف غادر. رفع رأسه نحو السماء بحثا عن مساحة ضوء، انفجرت من بين شفتيه صرخة مدوية: اللعنة، إنهم يغتالون ذاكرتي...
واصل سيره، بصق حقدا شديد القوام، أحس مع كل خطوة يخطوها بخيط أسود خافت كأنه الطيف، يبدأ بالدوران من بين تلك الأنقاض، ويكمل دورته حول المدينة الباكية، ليستقر في مستودع القلب تماما...

لمح من بعيد سيارة بيضاء متوقفة في زاوية ما، شعر بارتياح من نوع خاص، اقترب أكثر... ملامح السيارة تظهر بوضوح أمام عينيه الفاحصتين... إنه بقربها تماما، يكاد يلمسها، دار حولها، اصطدمت عيناه بهلال أحمر كبير يتمدد بوضوح على جدارها الخارجي... سرت فيه رعشة ما لبثت أن انفجرت دموعا حارة، أحس بدوار شديد، تماسك خشية السقوط، ألقى نظرة وداع دامعة، وغادر المكان تشيعه سحب سوداء وصراخ أطفال ينتظرون قصصا ملونة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى