الأحد ١٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم عيسى بطارسة

بعد الغروب

(1)
عامانِ من قَهرٍ،
ومن نَدمٍ،
ومن ألمٍ،
ومن نزفٍ يُسمّيهِ،
هنا الأحياءُ شوقاً ..
وهوَ في قلبي اشتِعالٌ
وهو في قلبي احتراقْ.
عامانِ من غضبٍ
يضخُّ فؤاديَ المكلومَ
من حُزنٍ عليكَ،
يضخُّهُ ناراً ويَصليهِ اشتياقْ.
عامانِ لم تُثمرْ غُصونُ الوُدِّ
يوماً فيهِما وُداًً
يُهدّئُ من صَقيعِ الكونِ من حولي،
وروحي في الفَراغِ
دمٌ مُراقْ!
عامانِ من موتٍ شديدِ الموتِ،
حطَّ رحاهُ من حولي،
وسوّى حوليَ الأرضَ امتداداً للهباءِ
وزجّني في خُرمِ حزنٍ
لا خُروجَ لديَّ منهُ ولا انعِتاقْ.
لا الشّعرُ يُسعِفُني لأنْجُوَ من غِيابِكَ،
لا القصائدُ،
لا المواعيدُ الحمِيمةُ،
لا النّساءُ ولا الرّفاقْ.
شلحَتْ فُصولُ الأرضِ
حُلوَ ثيابِها،
ورمتْ إلى الموتِ الثّيابْ.
فبدتْ بعيني الأرضُ بعدكَ
مثل فاتنةٍ أضاعتْ فُجأةً زمنَ الشبابْ!
فترهّلتْ شمطاءَ لا سلوى ولا نجوى لديها،
لا انبِهارَ ولا انتِشاءَ ولا انعِتاقْ!
كلُّ النهاراتِ التي تجتازُني
تودي بقاربيَ الكئيبِ لدى المساءِ
ببحرِ موتِكَ ..
صارَ ما عندي هنا نَهراً يصبُّ لدَيكَ،
أشربُ في حُضوركَ كأسَ موتِكَ
كلَّ يومٍ يا صديقي ..
هذه الكأسَ التي لا ينتهي أبداً لديها المرُّ
أشربُها وتشربُني لحدِّ الأختناقْ.
 
(2)
واحُزنَ قلبي ..
كم حَلمنا أن ننامَ لدى البِلادِ
هناكَ نومَتَنا الأخيرةَ،
كي تكونَ الرّوحُ جارتَنا العزيزةَ للأبدْ!
واحُزنَ قلبي ..
هل يُريحُ الرّوحَ أن تبقى
لدى الوَطَنِ الذي ما غادَرَتْ
يوماً ثراهُ ولا سماهُ؟
بأنْ يظلَّ بآخرِ الدّنيا مُسجّى
ها هُنا منّا الجسدْ؟
واحُزنَ قلبي
يا صديقي
أن هذا الموتَ لا يَثْني
على الأرضِ
نَواياهُ أحدْ.
 
(3)
حتى متى يحتاجُ أن يبقى لدينا الرّاحلونَ،
لكي يُتمّوا ههُنا مُسْتَلزَماتِ رحيلهمْ؟
ليُلمْلِموا أصواتَهمْ من سَمعِنا؟
وليأخُذوا سَهراتَهمْ من ليلِنا؟
ليُكفكفوا أوقاتَهمْ من وقتِنا؟
كي يسحبُوا ضحكاتَهمْ من ضِحكِنا؟
كي ينهَضوا شيئاً فشيئاً
عن موائدِ أكلنا؟
تنسلُّ أوجُهُهم قليلاً من بُخارِ طعامِنا؟
وليَذهبوا شيئاً فَشيئاً من روائحِ قهوةِ
الأصباحِ في عُطلاتِنا ؟
وليترُكونا وحدنا،
في خَيرنا،
في شرِّنا،
في فرحنا،
في حُزننا ..
ينأوا كما ينأى المماتُ عنِ الحياةِ،
لكي يَغيبوا عن عُيونِ الذاكره؟
كي يأخُذوا أشياءَهمْ من كلِّ زاويةٍ لنا؟
يتَوقّفوا أن يعبُروا في كلِّ ثانيةٍ هنا
مثل اللصوصِ الماكره؟
فلعلَّ هذا الشيءَ فينا
أن يكُفَّ عِنادَهُ لو مرةً!
أن يرتضي ألا يكونوا بيننا،
للمرةِ الأولى،
ويهدأ لو قليلاً ..
ريثما يُنهي لدينا الموتُ دورَتهُ الأخيرةَ
كي يتِمَّ رحيلُهمْ عنّا بشيءٍ من هُدوءٍ!
كي يكونَ لشمسِهمْ عُذرٌ أخيرٌ
للغُروبِ السّرمديِّ ..

هذه القصيدة بمناسبة:
(مرور عامين على ارتحال الصديق الشاعر حكمت العتيلي)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى