الاثنين ١٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
عندما يستبد الفضول
بقلم فاروق مواسي

قصة ليوسف إدريس وقراءتها

القصة: سورة البقرة

يوسف إدريس
ما كادت الفاتحة تقرأ ويسترد يده من يد الرجل، ومبروك! ويتأمل مليًـا البقرة التي حصل عليها، ثم يتوكل ويسحبها خارجًا، حتى بعد خطوات قليلة وضع فلاح شاب طويل مهول يده فوق اليد الممسكة بالحبل، وبقوة الضغط والعضلات أوقفه قائلاً:

 ألا قول لي يا شيخ.. بالذمة والأمانة والديانة.. وقعت بكام؟
وحتى لو لم يذممه فقد كان يريد قول الحقيقة لكي يعرف من وقع الرقم إن كان هو الخاسر أم الكاسب في الصفقة، أجاب:

 بالذمة والأمانة والديانة بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار..
ولم يتح له أن يقرأ شيئاً في وجه الشاب الضخم، فما كاد يقول الرقم حتى كان الشاب وكأنما انتهى غرضه منه تمامًا، فسحب يده ومضى إلى حاله مغمغماً بكلام مضغوط لا يلوي على شيء.
وبعد باب السوق بخطوة اندفع ناحيته رجل بشارب هائش وصوت مزعج عال وكرش، قائلاً:

 سلام عليكم
  سلام ورحمة الله.
  بالذمة والأمانة يا شيخ بكام؟
وبصوت واضح، وحرص شديد هذه المرة على ألا تفوته بادرة، فالبقرة أيام جده كانت بثلاثة جنيهات، وكان أبوه رحمة الله عليه يقول له أن أول بقرة اشتراها في حياته كانت بخمسة، قال:
 بالذمة والأمانة بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.

قال الرجل من تحت شاربه المهوش:
 هم.. هيه.. فيها لبن؟
أجاب وأمره إلى الله:
 ما فيهاش.
  وراها عجل؟
  ما وراهاش.
  معشرة ؟
  طالبة عشر.

ومرة أخرى قال الرجل، بغيظ مكتوم لا يعرف سببه، وبحزن لا يعرف سببه أيضًا:

 هم.. هيه.. مبروكة عليك.
ومشى.

وعند أول منعطف للطريق الجانبي الماضي إلى الطريق الزراعي العام، رفع فلاح كان يعزق الأرض المجاورة صوته سائلاً:

  بتقول بالذمة والأمانة بكام؟
فقال: بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.

فعاد الفلاح يصيح مرة أخرى:

  بتقول بكام؟
ورفع صوته عاليًا جدًا أعلى بكثير مما يجب، لا ليسمعه الفلاح فقط إنما ليصل إلى كل الرجال القريبين والبعيدين حتى يكفوه مئونة رد آخر:

  - بسبعة.. وتمانين.. جنيه.. وربع.. وبريزة للسمسار...
 
وقبل أن يسمح لنفسه أن يسمع الرد أو التعليق كان قد أغلق أذنيه ومشى.

وحين وصل إلى الطريق الزراعي الموصل إلى بلده كان قد سئل ثلاث مرات، وأجاب ثلاث إجابات، نقض الذمة والأمانة في ثالثتهما حين كسل أن ينص على بريزة السمسار.

كانت الدنيا لا تزال ضحى، والسوق منتصبة منذ الشروق هذا صحيح، ولكن كان هناك على الطريق قادمون كثيرون، أولئك الذين لا يريدون ضياع اليوم فأنهوا بسرعة أعمالهم ثم اقبلوا مهرولين يلحقون السوق.
وعلى أول الطريق الزراعي سأله شيخ معمم بجبة كالحة وقفطان:

  دفعت فيها كام بالذمة والأمانة والديانة إن شاء الله ؟
فقط لو أنهم لا يذممونه ويستحلفونه بالأمانة والدين!
 سبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
وبعد خطوة واحدة إذا برجل وكأنه عمدة، يمتطي ركوبة ويستظل بشمسية يزعق بصوت مسلوخ:
 بتقول بكام.
  سبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
  غالية شوية إنما تتعوض.
وما كاد يخرج عليه الدخان ويبدأ في لف السيجارة حتى حود عليه رجل مسن له لحية اختلط فيها السواد بالبياض:
 سلام عليكم.
 سلام ورحمة الله..
  دستورك منين؟
  - من هرية.
  شارى ولا بايع؟
  مانتاش شايفني راجع، شاري.
  واصل ع الشيخ منصور؟
  واصل إن شاء الله.
  طب بذمتك وحياة الشيخ منصور على قلبك، بكام؟
  بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
  يا راجل أنا ذممتك وحلفتك بالشيخ منصور؟
  وحياة الشيخ منصور والذمة والأمانة والديانة، وحياة شيخ العرب السيد بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
  يا راجل أنت اشتريت وخلاص، برئ ذمتك وقول الحق.
  وأنا يعني ح اكدب عليك ليه، ما قلت لك الحق.
  بقى بذمتك وديانتك والأمانة عليك وبركة الشيخ منصور وديتها رقبتك بسبعة وتمانين جنيه وربع؟ - وديني وما أعبد وحياة ربنا اللي أكبر من الشيخ منصور ومني ومنك ومن الدنيا كلها بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
  طب روح يا شيخ الهي إن كنت كدبت ما توعى تعلقها في المحرات.

وتركه ومضى. ولو كان قد بقى أمامه لحظة أخرى لما كان قد استطاع كبح جماح الخاطر الذي كان يلح عليه باستمرار.. أن ينتف ذقنه شعرة شعرة.

وما كاد يمشي أربع أو خمس قصبات حتى- برجاء حار- استوقفه شخص كان منتحيًا جانبًا، يعمل مثل الناس على حافة الخليج الموازي للطريق، وحتى قبل أن ينتهي وهو لا يزال القرفصاء لوى رقبته وسأله:
  بالذمة والأمانة بقد إيه؟
  بسبعة وتمانين وربع وبريزة.
  إيه اللي سبعة وتمانين وبريزة. هم مش يبقوا سبعة وتمانين وخمسة وتلاتين صاغ؟
  طب يا سيدي ما تزعلش سبعة وتمانين وخمسة وتلاتين صاغ.
  أمال الأول قلت وبريزة ليه؟
  عشان هي بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
  بقة أبقى محلفك بالذمة والأمانة وتكذب.
  أنا كدبت؟
  مش قلت بريزة للسمسار. هي البريزة تخش في التمن؟
  ما دام دفعتها تخش.
 لا ما تخشش.
 تخش.
 لا ما تخشش.
 تخش.
 أنت كداب.
 أنت بارد.
 تفوه عليك نفر.
 تفوه عليك وعلي خلفوك.

وهو لا يزال متشبثًـا باستماتة في حبل البقرة اندفع ناحية الرجل يريد أن يطبق عليه وينتهي منه، وكان الرجل هو الآخر قد أوقف ما كان يقوم به واندفع ناحيته ويده مستميتة هي الأخرى على (دكة) السروال المفكوك. وبيد متشبثة والأخرى طليقة تريد أن تغور في زمارة رقبة الآخر، كادا أن يتماسكا، لولا أن أولاد الحلال وما أكثرهم على الطريق حالوا بينهما في آخر لحظة، وبعد محاولات لصلح فاشل، اندفع كل منهما، الرجل إلى حافة الخليج، وهو ناحية بلده، وبينهما حبل طويل غليظ من الشتائم ظل يمتد ويرق كلما ابتعدا حتى انقطع وسكت مخنوقـًا. ومد يده يبحث عن العلبة ليلف السيجارة غير أنه اكتشف أنه فقدها في الخناقة، وبلغ الغيظ حد أنه لم يحتمل مجرد فكرة العودة للبحث عنها في مكان الخناقة.
وهو في قمة غيظة إذا برجل، يرتدي في عز الحر عباءة، مؤدب وقصير، وما كاد يفتح فمه ويقول: بالذمة والأمانة عليك، حتى كان قد رفع يده إلى آخرها دون أن يدري ثم هوى بها على صدغ صاحب العباءة الممددة في أدب ووقار.

وارتاع الرجل حتى سقطت العباءة من فوق كتفيه، وفكر أن يمسك بخناقه ولكنه في اللحظة التالية كان قد راجع نفسه، وحين تلفت حوله فلم يجد أحدًا من المحتمل أن يكون قد رآه وهو يصفعه عاد للسير وكأن شيئاً لم يحدث وهو يقنع نفسه أن الرجل لا بد مجنون هارب من مستشفى المجاذيب.

وما كاد هذا يحدث حتى وجد صاحب البقرة نفسه يضحك ضحكًا عاليًا متواصلاً وكأنه قد جن فعلاً، وبلغ به الاستهتار حد أنه حين سمع السؤال يلقى عليه من جانب الطريق، اندفع ناحية السائل ورفع يده يحاول أن يهوي بها على صدغه، ولكنه فوجئ بيد حديدية تقيد يده في مكانها، وبكف كأنها من بلوط تهوي على صدغه هو بأربعة أقلام سخية نظيفة جعلت عينيه تقدحان شررًا، بل أعمته إلى درجة لم ير معها ضاربه، ولا فطن إلى أنه ضرب إلا بعد أن أصبح بينه وبين المعتدى مشوار ومشوار.

وعند كشك المرور تمامًا سأله تاجر قمح تخين كان يفرش على جانب الطريق يشتري بالأقداح والشروات من الذاهبات إلى السوق:

 إلا قولي يا شيخ العرب، بالذمة والأمانة بكام؟
ولم يكن عربياً أو شيخ عرب، ولكنه بمنتهى التأدب أو بهدوء غريب لا اثر مطلقًا لأية ثورة فيه أجاب: - بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.

وكأنه لأول مرة يدرك- وبصفاء أيضًا- أنه باع كل شيء ليشتري هذه البقرة بعدما ماتت جاموسته في أول شعبان، بل فطست ولم يلحقها الجزار بالسكين حتى، ولثلاثة أشهر وهو يدبر، وعلى المحصول الذي لا تزال أمامه أربعة أشهر طويلة، ومحفظته إن كانت لم تسرق في الخناقة فليس بها غير جنيه وربع هي آخر ما تبقى معه من نقود الحياة.

 بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
قالها مرة أخرى، وبصوت مخنوق أعلى حتى حدق فيه التاجر مذهولاً لا يستطيع النطق.
وما كاد يلتفت حتى هبط من فوق جسر السكة الحديد رجل كان يحمل عنزة فوق كتفه، وما أن فتح فمه لينطق حتى قال:
 بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وبعد برهة قابلته امرأة تحمل مقطفًـا ثقيلاً وتنوء بحمله، وقبل أن يصلها أو تدرك وجوده رفع صوته وقال:
 بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وقالت المرأة (يه) ثم حثت الخطو وكأنها تهرب من شبح.
وعند التابوت كانت جماعة قادمة من طريق التوت بعضها راكب وبعضها ماش، ورفع صوته إلى أقصى ما يستطيع وقال:
  بالذمة والامانة بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وضحكوا، وقال واحد:
 الناس انهبلت.
بينما تخلف ولدان راحا يشبعانه تريقه وسخرية.
وعلى مدخل البلدة رأى جاموسة ترعى على حافة " القيد" فصرخ فيها:
  بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
واستدارت الجاموسة ناحيته، ورمقته في بلادة وكسل، ثم عادت تعسعس بشفتيها وأسنانها على الحشيش.

وحين دخل بلده، كان يصيح، سواء سأله أحد أم لم يسأله، قابل شخصاً أم لم يقابل، يقولها هكذا للزرع وللحيطان، وللحر أو للسما، وللأوز وللجنيه وربع، وللأربعة أشهر والأربعة أولاد والولية، وللبهيمة التي ماتت، وللبقرة التي يسحبها، وللشيخ منصور، ولنفسه، وللدنيا كلها:
 بالذمة والأمانة والديانة، وبكل كتاب انزل، بسبعة وثمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار..

قراءة القصة:

في قصة "سورة البقرة" ينقلنا يوسف إدريس إلى جو الريف بكل ما فيه من صور تتشابه حتى تتسم بالبساطة، ولكن وراء هذه البساطة تعقيدًا سنحاول أن نتلمس جوانبه.

الكاتب له خبرة في حياة الريف، فقد وضع إصبعه في هذه القصة على مدى المعاناة التي يتكبدها الريفي بسبب الريفي الآخر، "فالآخر هو الجحيم" - حسب تعبير سارتر.

تلخيص القصة
يدفع "الشاري" ثمن البقرة سبعًا وثمانين جنيهًا وربع الجنيه وبريزة للسمسار...ثم ما تلبث أن تنهال عليه الأسئلة من كل حدب وصوب، كل منهم يذمّمه ويحلفه أن يذكر السعر تمامًا.

يتباين رد الفعل عند الشاري من خلال أجوبته، فتارة يجيب بهدوء، ومرة بعصبية، مرة يشاجر، وطورًا يضرب، ثم ما يلبث أن يُضرب، ولما ضاق الشاري بالأسئلة الملحة ذرعًا، خرج عن طوره، فجعل يخاطب امرأة من غير أن تسأله ذاكرًا لها السعر تمامًا، ثم ما عتّم أن خاطب الجاموسة التي استمرت ترعى، فالزرع، فالحيطان، وللحر أو للسما وللأوز...، وحتى للبقرة نفسها، ولنفسه أيضًا.....فكل ما اعترض سبيله....

المضمون
في هذه القصة تركيز على "القطعة الحياتية" المسلوخة من حياة الريف، فما يكاد يحدث شيء طارئ حتى ترى الناس بقضهم وقضيضهم يدسون أنوفهم، كل منهم يريد أن يعرف التفاصيل. في تكرار الصور زهاء خمس عشرة مرة يسلط الكاتب الأضواء على تصرف أبناء الريف من جهة، وعلى الشاري الذي جعله ضحية "فضولهم" من جهة أخرى، فقد كان بادئ ذي بدء مستعدًا للإجابة عن السعر، حتى يعلم حقيقة إن كان قد ربح أم خسر، ثم بحرص على الإجابة، ثم بتبرم شديد.

والقارئ يرافق الشاري في مسيرته ويشاركه في انفعالاته - وهو يتبرم من الأسئلة التي تنهال تترى.

وبرغم أن الصور تكاد تكون نفس اللقطة الفوتوغرافية إلا أن هناك إحساسات متنوعة عند الشاري.

هنا اخذ يجيب من لا يسأله في شبه ثورة، ويذكر له السعر تمامًا.
فالسائلون ظهروا بأزياء متباينة قد لا تخدم النص، ولكنها تضفي مسحة واقعية.

ماذا نعرف عن الشاري من ثنايا القصة؟
نستطيع أن نلم الخيوط من خلال حوارات الشاري مع أبناء الريف، فهو من قرية "الشيخ منصور". كانت عنده جاموسة ماتت قبل أن يلحقها الجزار بالسكين، فباع كل شيء، واستدان المبلغ على أمل أن يسده بعد أربعة أشهر -عندما يغل المحصول-، وقد ذهب إلى قرية "هرية" ليشتري بقرة أسوة بما فعل جده الذي اشترى البقرة بثلاثة جنيهات، وأسوة بأبيه الذي اشترى بقرة بخمسة جنيهات.

التقنية:
في هذه القصة حشد زاخر بالنماذج الريفية، ولعل التكرار والوصف الخارجي للأشخاص هو ما جعل القصة قصة قصيرة وليست خبرًا. ولو تسنى لنا أن نجعلها خبرًا لكان نصه كما يلي:
"بعد عودة الشاري من السوق إذ بالأهالي يسألونه واحدًا تلو الآخر- عن ثمن البقرة التي اشتراها، فتضايق الرجل من إلحاحهم في أسئلتهم أشد الضيق، فبعد أن حاول الإجابة مخلصًا تبرم من إلحاح الناس، فأخذ يجيب من يسأله ولا يسأله، ووصل به الحد إلى درجة مخاطبة الجماد والحيوان، وقد فقد رشده."

فمثل هذا الخبر لا يحمل أهمية، وهو لا يجذب القارئ كي يسأل: وماذا بعد؟ فالحديث في القصة متكامل يجلو لحظة معينة، وقد نشأ بالضرورة موقف تطور وتطور، حتى أصبح بالتالي تصرفًا رافضًا، وكأنه تمرد على أوضاع القرية –في نظرنا على الأقل-، فالموقف أو نقطة الانطلاق هو شراء البقرة، والتطور والحركة - مدى استعداد الشاري للإجابة وهو -كما هو مبين في الجدول- بين صعود وهبوط... والتحول الفجائي –خروج الشاري عن طوره. فكل لقاء مع أحد أبناء الريف كان يسوقنا إلى النهاية، وقد أطال الكاتب في هذه اللقاءات حتى يتلاءم موقف الشاري الأخير، ويكون له التبرير تبعًا للظروف الفنية للقصة.

والتكرار الذي تحدثنا عنه أشبه بلازمة شعرية ينساق معها القارئ، حتى يصل إلى الذروة المؤسية التي وصل إليها الشاري. ولما كانت الذروة تُركت بدون حل حسب مقومات القصة التقليدية: مقدمة  ذروة  حل، فليس بدعا إذا قلنا إن الذروة والحل يتطابقان تمامًا، فالحل هنا يبدأ عندما تطرح الأسئلة عن معنى حياة هذا الإنسان؟!

هل تساوق القصة بهذا الشكل يؤدي إلى تغير في المجتمع؟ سنحاول أن نأتي في التحليل على هذه الأسئلة. ثم نسأل:

هل في القصة ترابط بين جزئياتها؟
نظرة أخرى فاحصة على تسلسل الأسئلة ومواقف الشاري ترينا أن التحول بدا عندما ضرب الرجل القصير، ولكن هذا التحول انتكس بعد أن جاوبه بيد عنيفة جعلته يتصرف بهدوء قبل العاصفة، وأخيرًا كانت العاصفة.

ومن خلال السرد لاحظنا لغة إدريس بأنها لغة مبسطة ذات أسلوب سهل، فهو يستعمل العامية المصرية في طوايا الفصحى، على نحو: "وضربه أربعة أقلام"، واستعمال " فقط لو أنهم..." هو ترجمة للعامية المصرية: " بس لو..."، وه يستخدم " للسما " بدل " للسماء " تواصلاً مع لغة الناس اليومية ؛ ولكنه في الحواريات ينقل الكلمات العامية كما هي، حتى يضفي عليها طابع الصدق أكثر واقعًا وحالاً.

التحليل

نعرف من خلال النص شخصيات تستتر وراء تصرفاتها طبائع بحاجة إلى دراسة سيكولوجية، وأبرز صفتين نراهما في المجموعة الريفية:

أ- الفضول /حب الاستطلاع
ب- الإلحاح
ولا شك أن الاستحلاف بنفس الصيغة "بالذمة والأمانة.... الخ" يعطينا صورة عن حياة أهل الريف الذين يعتبرون مثل هذا القسم مدعاة كافية لقول الصدق والحق. فالكاتب يدرك أن هذا المجتمع فيه بساطة، إذ تتكرر المظاهر التي أشرنا إليها، ومع ذلك فمن وراء هذه البساطة تعقيد، ويتجلى ذلك عندما نعمد إلى الأسئلة: لماذا يسألون؟ ولماذا نجيب؟

أما الشاري فله مواقف متباينة- كما ألمحنا- وتتدرج المراحل كما يلي:

أ‌- هو معنيّ أن يقول السعر تمامًا ليعرف أربح أم خسر
ب‌- حرص على الإجابة بكلام واضح، حتى لا يحدث معه ما حدث في المرة الأولى، إذ لم يقابل بإجابة شافية.
ج- تضايق من أسئلة الشيخ المتكررة وطريقة استحلافه الغريبة لدرجة انه كاد ينتف شـعر
ذقنه.
د- شتائم بسبب نقاش ما إذ كانت البريزة تدخل في الثمن العام أم لا؟
هـ- ضرب شخصًا بدون مبرر- اللهم إلا سؤاله.
و- يحاول أن يكرر الضرب بعد أن حصل على مردود " ناجح " في المرة السابقة.
ز- عندما وجد الخوف رادعًا أجاب مرة أخرى بلطف.
ح- التحول في ذروة صراخه وإجاباته لمن لا يسأل، حتى قال احدهم: "الناس انهبلت"، وتخلف ولدان راحا يشيعانه تريقة وسخرية ".

ولو سألنا بعد هذا العرض السيكولوجي لنفسيته: لماذا لم يصمت –شأننا اليوم- لما وجدنا إجابة قاطعة، وكأن الكاتب يريد أن يقول إن طبيعة الريفي تفرض عليه الكلام لا أقل مما تفرض عليهم السؤال. والمجتمع الريفي معذب في عادات هو في غنى عنها، وقد التقط الكاتب صورة هذا المجتمع عبر حادثة بسيطة، فجعل هذه الصورة، وكأنها دراسة سيكولوجية لطبيعة الإنسان الريفي.

أما الدراسة الاجتماعية فتتلخص في الصفات البارزة في الطبيعة الريفية في طريقة البيع والشراء التقليدية التي تنتهي بقراءة الفاتحة في الاستحلاف في الحرص على البقرة أو الحيوان الذي هو جزء لا يتجزأ من حياة الريفي، فحتى في عراكه يعارك بيد واحدة، بينما يمسك بالثانية حبل البقرة تمامًا كشأن غريمه الذي يعارك بيد واحدة، بينما يمسك بيده الثانية دكة السروال. هل يُريد الكاتب أن يقول شرف الريفي مهم جدًا حتى في غمرة خصومته؟ بل قد يسأل سائل، وبشكل أحد: هل التشبث بالبقرة يعادل التشبث بالشرف ؟

لا نستطيع أن نجزم بذلك، فالبقرة ليس لها دور هام هنا كدور الطرفة في قصة " الناس" للكاتب نفسه، ولكنا نستطيع أن نؤكد أهميتها من خلال تكرار الأسئلة عن سعرها، وقبل ذلك من استدانة الرجل حتى يحصل عليها، فحول البقرة يدور صراع الشخصية الريفية التي تمثلت هنا بالشاري.

ولو عدنا إلى رد الفعل عند السائل في الجدول أعلاه لوجدنا أن الكثيرين لم يعلقوا، فأحدهم بارك، وأخر ذُهل، والذهول تأتّى بسبب الغلاء. والكاتب يذكرنا أن الشاري يعرف التفاوت في السعر: في أيام جده ثلاثة جنيهات، ووالده اشتراها بخمسة، أما هو فيشتريها بمبلغ باهظ.
(رغم أنها ليست معشرة وليس فيها لبن).

ولاحظنا الذهول في قولة بعضهم عندما سمعوا المبلغ "بتقول بكام؟"، وكأنهم بهذه الكلمة يستهجنون الغلاء. والكاتب لم يُرد أبدًا أن نقف عند الغلاء بقدر ما أردنا أن نقف عند طبيعة الناس الذين يهتمون بشؤون الآخرين.

وربما كانت هذه القصة رمزية تتصل بالواقع،حتى تظهر لأبناء المدينة بالذات وتعلمهم "كيف لا يكون الإنسان فضوليًا".

فالقصة في ظني ما كُتبت لأهل الريف فقط، فلو استطاع القراءة في القصة لكان يمكن- بعد الإلحاح -أن يكتب سعر البقرة ويعلقه عليها. غير أن هذا الاستنتاج لا ينفي كون القصة كتبت من خلال دراية بشؤون أهل الريف وبمدى حبهم للاستطلاع أو الفضول.
والكاتب لا يدعو إلى تغير المجتمع الريفي بواسطة أهاليه، فقد بقي حائرًا في أهل الريف كما خلّفنا صاحبنا الشاري حائرًا ماذا يفعل، فالكاتب لم يقل لنا ماذا كان من أمر الشاري في النهاية، ولعل في هذا الغموض سر جمال القصة، فهل يستمر الشاري بعد ذلك في عمله، ويعود على سُنتهم الأولى، فيسأل الآخرين عن شؤونهم -كما سألوا؟ هل بقي فاقدًا وعيه؟ هل تعلم بعد ذلك أن يصمت؟

والآن: هل شخصية الشاري شخصية نامية أم مسطحة – كما يحب قارئو فورستر في
" أركان القصة " أن يسألوا ؟
إن الشخصية هنا تتبدى خلال القصة، وهي تتطور تبعًا لحوادث القصة مع كل حادثة ومع كل سؤال، وقد فاجأتنا هذه الشخصية بطريقة مقنعة أكثر من مرة

1- ضرب رجل، ومحاولة تكرار الضرب مع شخص أقوى منه، 2- إجاباته "البلهاء".
ولكن هذه المفاجآت كانت نتيجة يمكن أن نتوقعها إذا وقفنا قبلها، وسألنا أنفسنا ماذا يمكن أن يحدث؟
إن الشخصيات تتسم في هذه القصة بالألفة والصدق في طريقة سؤالها، وفي ردود أفعالها، فكم شخص يناقش في مسائل ليست من خصوصياته، كنقاش الفلاح عن بريزة السمسار- هل تدخل في الثمن أم لا؟ والشاري عندما وجد نفسه يضرب السائل الذي يرتدي "عباءة في عز الحر" فإن ضربه ناتج عن مدى تبرمه - هذا التبرم الذي وصل به المطاف إلى درجة "مضحكة".

ثم ألا تدل صورة ارتداء العباءة في عز الحر على غباء أراد أن يلمح الكاتب إليه؟.

أريد أن أقف أخيرًا على هذه الفقرة التي وردت في نهاية القصة:

"وعلى مدخل البلدة رأى جاموسة ترعى على حافة (القيد) فصرخ فيها بسبعة وثمانين وربع بريزة للسمسار، واستدارت الجاموسة ناحيته، ورمقته في بلادة وكسل ثم عادت تعسعس بشفتيها وأسنانها على الحشيش".

ورد هذا الخطاب للجاموسة بعد أن خاطب أناسًا كثيرين. هل يريد الكاتب أن يقول إنهم بلداء كسالى كالجاموسة –وقد أوردها إيحاءً في مثل هذه الفقرة- ؟؟؟

لا غرابة في ذلك، ولكن لا تأكيد؟

إن الكاتب يحشر أنفه أيضًا في القصة –مع أنه أبدع بها- فهو قد قدمها شريطًا مسلسلا لا أثر فيه لتفاعل الأزمنة أو "للفلاش باك"، وقد نقل لنا صورة داخلية من خلال الحواريات الكثيرة، لكنا وجدنا الكاتب ينقل لنا بعض الآراء- التي جعلها في مخيلة الأشخاص- بصورة خارجية. مثال:

عندما يسأل الشيخ المعمم الشاري: "دفعت فيها كام بالذمة والأمانة" ؟

يتابع الكاتب رد فعل الشاري من خلال صوت داخلي يدخل ضمن ما عرف بتيار الوعي: "فقط لو أنهم لا يذمونه ويستحلفونه بالأمانة والدين سبعة وثمانين جنيه وربع بريزة للسمسار".
فالتعليق ليس من الريفي ولكنه من رأي الكاتب، وكأنه يمثل شخصية الشاري، وقد ضاق بالاستحلاف ذرعًا.

وهو ينقل لنا صورًا خارجية لا نستطيع التأكد منها: "ولو كان قد بقي أمامه لحظة أخرى لما كان قد استطاع كبح جماح الخاطر الذي كان يلح عليه باستمرار أن ينتف شعر ذقنه شعرة شعرة"، ثم قوله: " وبلغ به الغيظ انه لم يتحمل مجرد فكرة العودة للبحث عنها مكان الخناقة "وقوله" ولم يكن عربيًا (2)أو شيخ عرب".

لماذا سميت القصة "سورة البقرة" ؟
أما البقرة فلها مبرر في التسمية، فهي محور الحديث والسرد، وهي "عتبة النص". أما لفظة "سورة " ففيها تصور ينحو إلى القول إن سورة الفاتحة تتكرر كثيرًا في حياة الريفي، وهي مجاورة لسورة البقرة، فلا عجب أن تكون التكرارية عاملاً مشتركًا، وجاءت لفظة " السورة " لتعبر عن ذلك.

نهاية

تمثّل هذه القصة الاتجاه الواقعي في كتابات إدريس، وهي تدعو فيما ترمز إليه إلى التغير في بنية المجتمع، وقد حاولت أن أستعرض مفهومها وتكنيكها، وحللت- بقدر ما سمحت به الافتراضات- الأجواء النفسية والاجتماعية للطبيعة الريفية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى