الخميس ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم أحمد زياد محبك

المقر الرئيسي للمديرية

تائه، ضائع، قلق، لا يكاد يستقر، ينتقل من مكتب إلى مكتب، يزور هذا، يزور ذاك، يحتسي القهوة هنا، الشاي هناك، أكثر من عشرين فنجاناً يحتسي في اليوم، يقعد أمام الحاسوب، يفتح ورق الشدة، يلعب لعبة الحظ، يجدها دائماً مغلقة، هكذا هو حظه، هو عاثر دائماً، يشكو الضجر، لا يعرف ماذا يفعل، هو زميلي في المكتب، في ديوان المديرية، هو يسجل الصادر وأنا أسجل الوارد، الصادر قليل، لا يكاد يسجل في اليوم سوى كتاب أو كتابين، أما الوارد فكثير، يحسدني على عملي، ولكن لا يريده لنفسه، لا يحلق ذقنه ولا يهتم بمنظره، قميصه هو نفسه، أسود، وإذا ما بدله بدله بقميص آخر بني قاتم، يبدو لي أنه لا يملك سوى هذين القميصين، يأتي متورم العينين، من سهر وأرق وقلق، شعره غير مسرح، كأنه لم يغسل وجهه، أسنانه صفراء. هو متذمر لا تعجبه المديرية ولا العمل، ولا الحياة، يرى الفوضى تعم المديرية، بل العالم كله، كل شيء عبث، ولا جدوى، والسبب هو المدير، هذا ما يراه، المدير حاضر غائب، هو حاضر في مكتبه، ولكنه لا يدير شيئاً، كأنه لا يسمع ولا يرى، كأنه لا يدير أمور المديرية، هذا ما يعتقده، دأبه الطعام، من قطع الحلوى إلى الصندويشات، كأنه لا يعرف غير المضغ والبلع، ودأبه الصور، كل يوم يعلق على جدران المكتب صوراً جديدة، لفنانين وفنانات، مشهورين وغير مشهورين، المهم أن يعلق دائماً صوراً جديدة.

ولكن تغير كل شيء، ذات يوم اتصل به بالهاتف مدير مكتب المدير العام، أخبره أن المدير العام كلفه بمهمة، وهي أن يحمل إليه كل يوم البريد الوارد خمس مرات، في التاسعة، وفي العاشرة، وفي الحادية عشرة، وفي الثانية عشرة، وفي الواحدة، أي من الساعة الأولى بعد بداية الدوام حتى الساعة الأخيرة قبل نهاية الدوام، التفت إلي معتذراً، قال: "أتمنى لو أنك كلفت أنت بهذا الشرف، ولكن هكذا شاء القدر، هو الإلهام"، وبدأ التغير في حياته، أصبح يأتي كل يوم في قميص جديد، أخذ يختار الألوان الفاتحة، وغالباً ما كان يختار اللون الأبيض، يأتي حليق الذقن، مسرّح الشعر، كأنه كان يغتسل كل يوم قبل خروجه من البيت، وكأنه كان ينام نوماً هادئاً عميقاً طوال الليل، استقرت حالته، اطمأنت نفسه، زال عنه القلق والتوتر، اشترى ساعة ذات منبه، علقها على الجدار، قبل أن تدق معلنة موعد حمل البريد، يسرع إلى المغسلة في زاوية المكتب، يغسل يديه، يغسل وجهه، يمسح شعره، يمسح داخل أذنيه وخارجهما، يغسل فمه، ينظف أسنانه بفرشاة ومعجون فاخر، كل يوم يأتي بمنشفة جديدة مغسولة، ينشف بها وجهه، يسرح شعره، يرش عطراً على قميصه، يحمل الملف المملوء بالكتب الواردة، يمضي واثق الخطا، طيب النفس، مسروراً ويرجع راضياً مرتاحاً، يسلم الملف إلى مدير مكتب المدير العام، ولا يدخل عليه، في كثير من الحالات لا يرى حتى مدير المكتب، ولكنه يضع الملف على طاولة مدير المكتب، وهو مطمئن إلى أن الملفات ستصل إلى المدير العام، اقتلع الصور من فوق الجدران، قال إنه يتوقع دخول المدير العام عليه، أقلع عن تناول الحلويات والطعام في المكتب، أكد أنه قي بعض الأيام لا يتناول حتى في البيت غير وجبة واحدة، ويظل طوال النهار من غير طعام، أكد أن صعود الدرج إلى مكتب المدير العام كل يوم خمس مرات قد عوده على الرشاقة، ضمرت بطنه، خف وزنه، أصبح حقيقة أكثر رشاقة، اطمأنت نفسه، أذهلني فيه هذا الرضا، أدهشني فيه هذا القبول، والهدوء والاستقرار، كلما رجع حدثني عن اطمئنانه وارتياحه إلى عمله، كلما رجع حدثني عن سروره بعمله، وبالمهمة التي يقوم، كم تمنى لو أنه كلف بهذه الواجبات من قبل، سألته ذات مرة: "لقد مر على عملك هذا الجديد زمن طويل حتى أصبح قديماً، هل مللت؟"، أجابني بهدوء: "كيف أمل؟ على العكس كلما تقدم بي الزمن أشعر بمزيد من الرضا والاطمئنان، وسأظل مثابراً على هذا العمل"، ذات يوم سألته: "مضى عمر وأنت تدخل إلى غرفة مدير المكتب، هل دخلت يوماً إلى مكتب المدير العام، أو هل رأيته؟"، نظر إلي مدهوشاً، وقال: "ما فكرت قط في رؤيته، ولكنني متأكد من أنه لا بد من وجوده، يعمل ويدير الأمور، وأن ملفاتي تصل إليه، أما ترى كيف تجري الأمور في المديرية، كل شيء يسير وفق قانون وبنظام ولا خلل ولا خطأ، لولا وجوده لما سارت الأمور بهذا النظام، بل لولا وجوده لما كانت المديرية كلها".

ذات يوم غاب، على غير عادته، لم يغب من قبل يوماً، دهشت لغيابه، وإن كنت أعرف أن وجودنا في هذا المقر للمديرية مؤقت، وأنه لا بد من أن ينتقل كل عامل فيها ذات يوم إلى المقر الرئيسي، ولكن دائماً يأتي الانتقال مفاجئاً وغير متوقع، سألت عنه أحد الزملاء، فأجاب بأنه نقل بأمر من المدير العام إلى المقر الرئيسي للمديرية، سألته: "أعرف أن للمديرية مقرين أساسيين، فإلى أي المقرين تتوقع أن يكون قد نقل؟"، أجابني وهو يبتسم: "الأرجح أنه نقل إلى مقرها في عدن".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى