الأربعاء ١٢ آذار (مارس) ٢٠٠٨
ثنائيات الاغتراب والحنين في قصيدة شعر العامية المصرية

شعراء كفر الشيخ نموذجا

بقلم: سمير الفيل

لأن الحياة مليئة بالمفارقات والثنائيات التي تكشف الكثير من الخلل في العلاقات الإنسانية كان من المؤكد أن تمتليء النفوس الحساسة بالحيرة، وتنهض الكثير من التساؤلات عن مغزى الحياة، ومشروعية التحولات التي يشهدها واقعنا بكل ما يحمله ذلك الواقع من انكسارات ونكسات ومحاولات للخروج من عنق الزجاجة .

ولأن الشعر العامي له رصيد كبير من معانقة الهم العام، والأحزان الذاتية فهو يلامس عمق هذه التجارب المحبطة محاولا أن يقدم تفسيراته وتحليلاته مع نبرة لا تخلو من عتاب رقيق، لكأن الدنيا خذلتنا في وقت كنا نتمنى فيه أن تساند خطواتنا، وتبعث فينا القدرة على التماسك، وهو منحى عام نجده في أغلب النصوص التي سنتوقف أمامها بالبحث والدراسة .

سيكون من الضروري أن نبحث عن ثيمة أساسية، وهي التي رصدتها بعد قراءة عدد لابأس به من دواوين شعراء كفر الشيخ، وهي محافظة تمتليء بالشعراء الموهوبين، ولم لا وهي التي قدمت لنا عددا لا بأس به من الجيل التالي لجيل الرواد ممن مهدوا الطريق للخروج من معطف الأسلاف، ومشاغبة التراث الرصين لجيل الآباء مع إنجازات جمالية قدمها بعض مجايلي أذكر منهم الشاعر الراحل عبدالدايم الشاذلي الذي اختطفه الموت مبكرا، وقد أعلن عن موهبته بكل قوة ووضوح قبل أن يغادر، وتاج الدين محمد تاج الدين وهو مازال يواصل مسيرته الشعرية وإن اتجه أكثر للدراسات المعمقة وأخذته متاعب المحاماة، ثم الشاعر أحمد سماحة الذي ساهم في كتابة نصوص تجريبية متكئة على الرموز الفرعونية، ومن أهم قصائده في منتصف السبعينات " حكاية الولد احمد والبنت إيزيس " وقد نشرها له محسن الخياط ( 1) وأشاد بتجربته في استيحاء تلك الرموز بطزاجة ورونق وبهاء، وسماحة كاتب مهم جدا وقد عملت معه فترة في الصحافة العربية وآخر إصداراته في العامية كان ديوانه الجميل " مرايا النار " (2)هؤلاء الشعراء وغيرهم مهدوا الأرض لأجيال أخرى تالية استفادت من إنجازاتهم في التشكيل الفني والمعمار الجمالي وما لبثت أن قدمت إضافات يعتد بها من حيث الأبنية الشكلية أو طرائق الآداء الفني كما سنرى في هذه الدراسة التي تحاول أن تتعرف عن كثب على جيل جديد يطرق على الحديد وهو ساخن، يعري كل مظاهر الفساد في الواقع، مرتبطا بالهم العام، كاشفا عن عمق الأزمة كل من منظوره .

النغمة المائزة في شعر العامية المحدث أنه قد شهد هو الآخر تحولات في المعالجة، واجتهادات في التناول الفني للكثير من القضايا الملحة، وهو الشعر الذي ظل لصيقا بالضمير الشعبي، كما رسخه كتاب كبار منهم بيرم التونسي صاحب فكرة " القرع الملكي "، وفؤاد حداد بوقع آدائه الصوفي في المسحراتي وغيره، وصلاح جاهين الذي يترنم برباعياته فتشعر أنه يتأمل الكون بنظرة فلسفية لها مسوح شعبي، أما سيد حجاب الذي كتب عن " المنزلة " في ديوانه الجميل " صياد وجنية " في أجواء تشبه تماما نفس أجواء البلدان التي تطل على بحيرة " البرلس"، وهي التي تحف بها محافظة كفر الشيخ، وبالطبع فإن تجربة مثل التي قدمها عبدالرحمن الأبنودي منذ ديوانه الأول " الأرض والعيال " وحتى آخر دواوينه المقروءة والمسموعة تؤكد هذا الانحياز الطبقي ومحاولة الاغتراف من مخزون الحكاية الشعبية والموال الذي يلامس قلوب الفلاحين من الفقراء الأجراء . ولا يمكننا أن نتناسى تجارب أخرى اهتمت اهتماما بالغا بالشكل والتجديد في الأخيلة كما وجدنا عند مجدي نجيب في " صهد الشتا "، وفي أعمال كثيرة للراحل فؤاد قاعود، وربما في تجارب الفسيفساء اللغوي عند ماجد يوسف، وفي " العشش القديمة " التي حاول من خلالها محمد كشيك أن يؤكد نزعة صوفية وجدناها عند الأب " حداد " ولكن بتنويعات مختلفة . كل تلك الاجتهادات تصب في نفس المجرى الذي يعتمد اللهجة الدارجة أداة فنية للتواصل والتوصيل .

هاجس التواصل انتقل بالضرورة والأرث من هذا الجيل الرائد إلى جيل السبعينات، ثم ما لبث أن سرى كالنار في الهشيم، وهو يتمدد في تجارب الأجيال اللاحقة، وهو ما ينفي فكرة القطيعة الإبداعية أو المعرفية بين كتاب العامية بالذات، ولقد أصبح في استطاعتي بعد أن درست حوالي 12 ديوانا بين مطبوع ومخطوط أن أتوصل لحقيقة أن قصيدة العامية المصرية لم تعرف انقطاعا أو مخاصمة أجيال لأجيال أخرى بل هي أقرب للعصا تنتقل من يد ليد بقوة وحسم، وهو ما سنحاول أن نبينه تطبيقا على أعمال هؤلاء الشعراء الممسوسين بحب الوطن، والذي يملأ صدورهم هاجس مقلق، وهو أن مهمتهم صارت أكثر صعوبة لكنها ليست مستحيلة . مهمة أن يواصلوا المشروع الشعري نفسه بلمحة عصرية وربما بقدر من التمرد على الواقع لا القصيدة، مع الاغتراف الواعي من مناهل البيئة الشعبية التي ينتمون إليها سكنا وموقفا وتجربة .

ويكاد يكون الخيط الذي نتتبعه في أعمال شعراء كفر الشيخ " ثيمة الاغتراب " بكل تجلياتها، وكيف تشكلت جماليا عبر اجتهادات كتابها من المبدعين سواء ممن لهم رصيد من الدواوين المطبوعة أو من هؤلاء الذين ما زلوا يراجعون ملامح مشروعهم الشعري في مخطوطاتهم الثرية بإمكانياتها الجمالية فلا فرق بين هذا وذاك، والمرجعية الوحيدة التي علينا أن نتأكد منها هو النص ذاته .

السعيد قنديل نبرة الرفض المطلق :

في معرض الكتاب لهذا العام (2006) قدم عبدالرحمن الأبنودي صوتا شعريا لفت الانتباه بقوة هو الشاعر السعيد قنديل، وحسب بعض المصادر التي بين أيدينا فإن هذا الشاعر الذي لم يسمع به الكثيرون قد نجح في إثارة الاهتمام لدرجة كبيرة حتى أن بعض مواقع الأنترنت تحدثت عنه كمولد نجم فجأة بينما قنديل يسطع منذ زمن بعيد لكن تركز أجهزة الإعلام بالعاصمة جعلته يتوارى بين الصفوف الخلفية مثل كثيرين غيره، وهاهو موقع ليبي يرصد الحدث كما سنثبت هنا : " والمفاجأة أن الوليمة الدسمة لم تكن من صنع الأبنودي هذه المرة .. بل كانت من صنع شاعر جديد قدمه الأبنودي للمرة الأولى وهو " السعيد قنديل " حيث خطف الأضواء ـ حسب تقديري ـ .. وألقى قصيدة جعلت الأبنودي يقول " هو صاحب لون جديد متفرد ..ولو تركت له المنبر لنسيتموني " ( 3) . ومن حسن الحظ أنني كنت حاضرا هذه الندوة ورأيت بالفعل حجم الاحتفاء الذي أحاط بالسعيد قنديل وهو أهل له . كما أشير إلى مقال هام نشره الصديق الروائي محمد القصبي عن هذه الندوة التي قدمت الشاعر قنديل بلغة متزنة، وللأسف لم أحتفظ بالدراسة التي نشرت بجريدة " القاهرة "، وعودة إلى قصائده المخطوطة التي قدمها للبحث ( 4) نجد الشاعر يلاحقنا بنوع من الشعر الذي تنساب فيه الغنائية لتدفع في فضاء النص هذا الشعور الأكيد بالهزيمة والشعور بالاغتراب، وسنشعر أن الأبيات الشعرية تبدو متلاحقة ومصاغة بحيث تشكل مشهدا كليا لتلك الحالة التي نجح الشاعر في رصدها وبث لوعة الانكسار في ثناياها وسنتأمل الصياغة الفنية، ونراها ملتحمة بنسيج سردي يحقق نوعا من التناغم بين ماهو شعري إيقاعي، وماهو سردي حكائي، وهو ما يميز تجربة قنديل عن غيره من الشعراء
:

لساك ياوطن
رغم انهزام القلب في الزمن الفرات
لساك وطن
رغم انكسار النفس في النيل والرباط
لساك وطن

يختصر الشاعر كثيرا من الأوجاع حين يفتح وعينا على تلك الحقائق الدامغة ويقدم لنا سيلا من الصور البكر لحب يعشش في الصدور رغم أن الوطن لم يعد كما ينبغي، وهو يشدنا إلى هذا الإيقاع الجنائزي الذي ورثه عن الشعراء القدامى حين يقدمون " العدودة " الشعبية التي تعدد مناقب الميت غير أن الوطن حي وحاضر رغم كل مظاهر القلق والحيرة التي تهز وجدانه بعنف وقسوة . إنه يحاول أن يصل إلى ماوراء المقرر والمكرس والمسلم به ويصل إلى كبد المعاناة حين يصرح في ارتعاشة قلب، ورجة وجدان بصدق ما يشعر به :

" يا ألف مدنة وجامع
الكل من غير حيل
تصرخ بداله المواجع
مهموم أنا من سكاتي
ومن صنوف التراجع
طول عمري انادي واهاتي
ولايوم عنيتني المراجع
وان ثرت مرة في حياتي
ألقاني في السر واقع

 [1]

هنا يبلغ الشاعر قمة المأساة فيبوح بوحا جميلا، ويتمهل في إصدار الأحكام، ويكتفي بالرصد الموجع الأمين، إن في بوحه ألم دفين، وهنا مكمن الخطورة أن تمتزج الغواية بالاغتراب حين يشعر بكل ما حوله من أشياء تتراجع، وهو يطلق اعترافه الأخير بأنه عندما يتمرد على هذه الأوجاع سيكون من المحتم أن يقع في الأسر . وقد استرعى انتباهي أن الشاعر يوظف مفردات بيئته بفهم واقتدار خاصة تلك الطيور التي تهاجر فتقع في أحبولة الصيادين . هو ترميز لذاته المنكسرة الممتلئة بالعثرات، فأبناء الوطن يهاجرون كذلك عكس التيار ويقعون في شباك الحرمان، ومرارة الوحدة :

يا طيور على الشط صامتة
شرشير وظي ونوارس
متعلمة النوح وعارفة
وقت انهزام الفوارس
ولاّ انت راخرة مهاجرة
وهاتسيبينا في مارس
هي الظروف ليه معاندة
وليه نصيبنا معاكس

 [2]

ولئن كانت أحزان الوطن بمثل هذه السوداوية فإن نثر الأسئلة في كل زاوية من النص تثير قضية أن إظهار ذلك الحزن يندرج تحت خطة للنهوض وإثارة الحماس للرفض، وهي مفارقة تكمن خطوطها الأصيلة في جمع الأضداد ضمن مساحة من الفعل الشعري الذي نفترض أنه يقدم كشوفا عما وراء الكلام . إن مدار النص ينهض على الرفض ويتم تصعيده على مستوى من الإدراك يتضمن التمرد الفعال حيث تتولد آليات جديدة تجمع التقريري المحض مع التخييلي الذي ينفتح على آفاق لا حدود لها . ومع أن مفردات مثل " الندامة " و " المتاهة " و " الحرقة " تشكل معجما للفجيعة إلا أن الشاعر يتمكن من صياغة نطاقات جديدة للتمرد فهو يصرح بالخائنين، ويجعل من نفسه قلبا منحوتا في الصخر حين ينفر من الوحدة فيكتشف أن تواريخ النضال المنسية تسوقه إلى أقداره بتمهل :

" يامين يجيب لي قلب غير قلبي
ولاّ جوارح خالية م الإحساس
ويجيبلي صدر براح مكان صدري
علشان أكون عادي وشكل الناس
أضحك وكل الخلق تسمعني
وابكي بحرقة ع الوطن والناس [3]

إن هذه المرثية شديدة الوجع تفترض، بداءة، تسليما بأن كل شيء في الوطن قد ضاع، وهذا غير صحيح لأن صيغ المقاومة التي امتلأ بها النص توميء إلى شيء آخر، وهو أن البكائية تستثير فينا النخوة كي نتحرك ونكون على مستوى المسئولية، وعلى المستوى الفني فقد أجاد الشاعر في توظيف الموال وفي حشد الصور التي تمثل المشهد، وسوق المفردات التي تعبر عن الإحساس بالقهر، لكنه قد يتجاوز في تسجيل موقف الصمت فيجعل نفسه قطبا وحيدا فيما العالم كله ساقط ومنهارومتداع ٍ

:" غرقان في وحل النيل وخوفي والخرس
إن كان هيامك في المدى يحقن دماك
خدني معاك يمكن أهيم زيك واهرب م الحرس
دا الليل فرد فيا وفيك باعه
وانا وانت صرنا يا صاحبي أتباعه
والكل طاطا وليه أنا رافض
بعدن ما ضعنا والبلاد ضاعوا
 [4]

بيد أن شاعرنا يختار موقف المنازلة، حين يؤل سيرة المقاومة على شيء حي ملموس وسط هجوم الليل وهو رمز متوارث من آباء قصيدة العامية المصرية للظلام والقهر وسطوة الحكام، ويدشن الشاعر قصيدته بحس رافض مستدعيا طقوس العديد وهنا يكثر من ياء النداء، مستحثا البعيد أن يأتي حتى لا يعم البلاء، وينفرط العقد كله . إنه يقبض على تراث قديم لفعل الثورة لكنه يضخه بدم جديد وبعنفوان لغوي يسري في عروق القصيدة سريانا رهيب:

" يا عنفوان الصبر يا دم البرايا
يادمع عين القلب يا ئن الخلايا
يا جرح وسع البحر مليان بالضحايا
لساك بتضحك زي شجر التوت
والخلق في كل يوم بتموت
سارج حصانك فوق سواد الطين
من فتح مكة لما لفلسطين [5]

يمحو الشاعر المسافة التاريخية بين فتح مكا وهو البعد المضيء في تراثنا الإسلامي، وبين ما تشهده قضية فلسطين من تنازلات وهو الجانب المعتم من حاضرنا . بضربة فرشاة فنية يلون المشهد كله بالسواد ويحيلنا على الفور إلى ثيمة الاغتراب ثانية حين يكون الصبر زادنا اليومي وتصبح الدموع هي الشيء الوحيد المعبر عن فضفضة الصدور، ومع اتساع الجرح يكثر الضحايا، لكنه يتمهل حين يرى الابتسامة على بعض الشفاه ويلوم من يعرف الضحك في فترات المهانة .
سنلاحظ أن النفس الممرورة، والإحساس القوي بوقع الفجيعة يلون قصائد المخطوط الثمانية التي تعبر أحسن تعبير عن مزاج صاحبها، فهو يقف في مواجهة التردي العام، صحيح أنه يشعر بالانهزام، فهو فرد في تلك الجماعة لكنه يتمرد ويقاوم ويكشف أوجه الزيف مستخدما إيقاع الندب الحزين ويرتكزعلى ميراث الحزن الأبدي للشعب المصري، متجها بكليته نحو الموال، حيث يصفي لغته من الشوائب ويقدم باستماتة نحو الإعلان عن الخروج كفعل مضاد للتدجين . ثمة حنين جارف للحظات البطولة المنقضية، وهو يكتشف من جديد سر هذا الشعب الصامد حين يؤكد على " الصبر " عبر تجربة حياة ممتدة يبين من خلالها إمكانية الخروج من المأزق :

" يا مركبي إن كان عذابي مقدر
والسوس على صوت السواقي مبدر
والخوف عمل فيك اللي ما يتقدر
خليني اعدي للبلاد وأدوّر
يمكن الاقي معددة تصفالي [6]

ليس النزيف فقط هو الذي يستوقف الشاعر بل الخرس الذي يراه مؤكدا، وهو لا يكترث بما يراه من انكسارات فيتقدم المشهد بنفس بكائياته موزعا إياها على امتداد تجربته الشعرية، والحق إنها بكائيات عميقة تمس الشعور، وتستثير رصيدا هائلا من الخيبات المتكررة في تاريخنا العربي المعاصر . المدهش أن السعيد قنديل يبدأ من ذاته، من انكساره الشخصي، ومن عناصر واقعه دون أن يستخدم نفس المصطلحات التي يمكنك أن تعثر عليها لدى المثقفين، فهو حكاء بكاء بالفطرة، وتظلل أغنياته تلك النبرة المتأسية التي تتأكد كلما أوغلنا في تجربته حتى أنه يهصر قلوبنا بذلك المزيج من الذكريات القديمة، والترديدات البكائية التي تمتليء بها فضاءات القصيدة. هاهو يخاطب وطنه لائما معاتبا في رفق حينا، و فيغضب وقسوة أحيانا أخرى، فهو ينكر عليه أن يصمت هذا الصمت المؤلم :

" عرفتني كيف الجروح تمتد
والنزف يسرح فيها ماله حد
كيف الخلايا تنتهي وترد
كيف اللسان يخرس سنين ما يرد
عرفتني التوت والتابوت واللحد
عرفتني الموت والحياة والضد [7].

لن يفوتنا ملمح أساسي عند الشاعر هو البساطة التي يسوق بها ألفاظه، فيجمع بين الأضداد كأنها جاءت عفو الخاطر، فيما أعتقد أنها خبرة الشاعر التي تلامس العصب الحي العاري للمواجع ؛ فهو حريص على تأسيس العلاقة بينه وبين الوطن على مهاد تاريخي يعترف بقيمة الإنسان فلا تنكره الأرض ولا يقصيه الحكام وإلا تواصل النزف، وهو ما استدعى مفردة " الموت " ومفردة أخرى لصيقة بها هي " الكفن "، وسوف نرى الشاعر يقدم مخططا هيكليا لنوعية الفرسان الذين يحققون البطولة، وهنا يتراجع السواد ويعم الفرح، فيتبدل الحال ولو مرحليا مع ذكر " ياسين " صاحب الموال الشهير، وهو الذي خلده نجيب سرور في عمله المسرحي الشعري الجميل " ياسين وبهية " ورأيناه في أعمال فنية ومسرحية وشعرية أخرى

" طير يمامك ياوطن من غير عنين
شتت حروف الصبر من موال ياسين
وادفن سواعد الحلم بين الضفتين
واضحك بعرض الكون على النيل والسنين
وحكاية البلد الأمين [8].

ولأن " الشعرية لغة تحتوي اللغة وتتسع عنها، تتأسس فيها لا تكونها، وتوظفها ثم لا تؤول بها، وهي ـ في كل هذا ـ حرة لا تستلبها بنية داخلها، ولا يدعيها تأويل خارجها، وإنما هي قادرة على اختراع البنية وتحفيز التأويل، ثم تفيض عن الاثنين شكلا ودلالة " ( 5) فسوف نجد أن السعيد قنديل قد حاول أن يجعل من لغته الشاعرية مدخلا لتعميق الإحساس بالفجيعة، فالطير ضرير بلا عينين، وموال ياسين يتشتت، والحلم نفسه قد دُفن، لذا يأتي الضحك بديلا عن البكاء، وهو ترديد للمثل الشعبي الذي يحيل كل شيء معكوسا، رفضا وسخرية . إنه يتقدم خطوة في هذا النص لتخليص ذاته من ترديدات العجز فهو يدعو لأن يـُـترك من لا يستوعب صفحات النضال في جهله وعجزه الفاضح، فالنسب للأرض هو الشيء المقدس الجدير بالتقديس، ولا يوجد إنسان مصري يمكنه أن يقايض على " الطين " بكنوز الدنيا فهي الملاذ مهما ادلهمت الخطوب، وقست الأيام . كعادة أصحاب المواويل يتجه الشاعر المحدث ليلوم الزمن، يعاتبه كي يتفهم أحزانه، وهنا يستدعي الشاعر العديد من مفردات القرية، وبها يستعيد زمنا جميلا كان قادرا على إشاعة الدفء في القلوب، ومثلما كان ياسين حاضرا في نص سابق فهاهي " بهية " تنحدر من أصلاب النص، لتخطو فوق العثرات، وعلى وقع خطاها تتردد الآهات . آهات الذات المجروحة في ريف يتفكك شيئا فشيئا دون أن يملك الشاعر ردا لهذا الخطر الذي يراه مهددا لبنية القرية المصرية وتقاليدها :

" يازمن ياللي انت مش عارف بهية
إسمع الندهات تلاقي الآهة هيه
إسمع الناي والشادوف
تلتقي الأنات حروف
للحكاوي المدارية
يازمن يااللي انت مش فاكر ياسين [9]

إلحاح قوي على فكرة البطل الفرد الذي يخوض الأخطار، ولا يحظى بأي حماية، لذا تحوطه النداءات من كل الأمكنة التي يبدو أنه سيطرق شوارعها . فهل يتذكر الزمن " ياسين " أم أنه تناسه هو الآخر؟ في جعبة الشاعر الكثير من طرائق الآداء الشعبي كالتورية، و" تلقيح " الكلام، والسخرية التي يقذفها قذفا في خطابه الشعري، وهو ـ أي الشاعر ـ كما أكدنا مرارا يقف في ناحية والعالم كله في ناحية أخرى، وهي نزعة دونكشوتية، خاصة عندما يتصدى لذاته التي تبدو منشطرة إثر الهزائم المتلاحقة التي ألمت به . إنه يوّحد بين الصمت والموت، ويطالب بالثورة حتى لا يتحول الانكسار إلى قانون الكون الذي نراه فلا نشعر معه إلا بالاعتيادية :

يا ضنين القلب ثور مرة في حياتك
حرّك الأشياء على تربة مماتك
واكتشف ذاتك وأسرار البرية
توجوها بالألم والحزن والليل والضواري
علموا النباتات في قلب الطين تداري
حبها للنيل وشمس المغربية
يا بهية
 [10] .

امتلاك الثورة هنا هو امتلاك للقدرة على الانفلات من أسر الواقع، ودحض الصمت وما يلوح به من هزائم، لذا استحضر الشاعر النيل بمعناه الواقعي والرمزي وراح يسائله معا، و" بهية" التي قتلوا حبيبها ما زالت صورة حية تجسد المأساة التي تتكرر كل يوم، والغيط الأخضر سر الخصوبة ومفتاح الحياة يضيع،ويتحد مع أنا الشاعر في بحثه الدؤوب عن خلاص :

" البحر هاج
والروح بتتحدى الغرق
وانا لسّه ضامم شكوتي
ومعبي في جرابي الحساب
شايل على اكتافي الضمير
وفي إيدي تصريح الذهاب [11]

تقتضي مسيرة الشاعر بحثا عن خلاص أن يتحد مع الرموز المضيئة في حياته، وأن يتخلص من الخوف، وهو هنا يأنسن الأشياء ويدخلها دائرته، ويواجه البحر بحقيقة أنه لا يخشى الغرق فشكوته في يده، وضميره اليقظ حمله الذي لا يفارقه، انتظارا للصباح، وهو نقيض الليل الكئيب رمز القهر :

" باتت على شقوق الشفايف لوعتي
الخوف نهش لحمي وحطم جنتي
وقعدت جنب المحتاجين فوق الرفوف
وبكيت أنا والناي على صوت الدفوف [12] .

هو بكاء من وعى وأدرك أن طريقه صعب لكنه يستوعب حلمه البعيد، وهنا يندفع الموال وصوت الناي كعناصر تلازمه في سفره الطويل فيسكن القلق، وتهدأ النفس الحائرة، وينصرف الخوف تماما لتنهض من جديد إرادة التغيير، وهنا يبدو السعيد قنديل صوتا أثيرا في مدرسة شعر العامية التي تحتفي بالرمز، وتحتمي بالبطولة، وتستنهض التاريخ كي يضيء الحاضر، باحثا عن أبطاله الشعبيين ملقيا عليهم مسئولية الإفاقة كما يراها بكل شفافية وصدق وتجرد .

طه هنداوي، والاحتفاء بالذات المنهزمة :

عن الحب يكتب طه هنداوي ( 6)، بكل بساطة يتحدث عن أحلامه الممكنة ورؤاه المستحيلة، باسطا خطابه الشعري الذي لا يميل إلى الاشتباك مع عناصر من خرج نطاقاته الريفية الأثيرة . يمنحك عبر اللون والرائحة مساحات تعبق بالتأمل لما تمر به الذات من انقسام . تأمله حائرا لا يحمل نفس اليقين الذي رأيناه عند السعيد قنديل ولا داعيا إلى ثورة ما . غاية ما يطمح إليه بطله أن يعثر على مساحة من الحب الحقيقي بدون أية التواءات أو منغصات . هنا تكون الرائحة الطيبة هي الترميز المناسب لحالة العشق الأكيدة :

" ليه طهقان ؟
وقزازك ليه مشروخ واللون بهتان؟
ومش مطمّن .. ولاّ فرحان
مش معنى إن عيونها ادّارت منك
وسط ضباب الأحزان .. يبقى خلاص
ما بقيتش تدوب في رموش العين
ويموت الحب اللي بقى له سنين " [13].

حب مراوغ، وحنين للعشق المرتحل مع طبقة من الأحزان الشفيفة التي هي سمة لكل حب عذب فهناك دائما شق من العذاب والمكابدة والامتناع . يتفرع الإحساس الأول بهجة رجراجة، ولا يصبح الحب طيرا محبوسا إلا عند الجلادين ومحبي القهر، لذا يوصي الشاعر ألا تُسد النوافذ أو تغلق الأبواب بالترابيس . يتوجه الشاعر بقلب رهيف طالبا بحقه في الفرح الإنساني، سواء كانت الحبيبة وطنا أو قرية أو محبوبة حقيقية من دم ولحم :

" عايز أحس إنك فرحان
حاسس بأمان
عايزك ترجع زي ما كنت زمان
( تطلع على سلم علاليها )
توصف كل ما فيها
تجري وتلعب
لما تحب تنام.. في عينيها
وتجيب لها يوم العيد
.. الكردان " [14] .

يتجسد الحب في مقامات معهودة، وسواء كانت الحبيبة " إيزيس " أو " بهية " أو " الأخت " التي تستحي من كلام الشقيق فهناك حزن سري نبيل يترقرق في العيون، وهنا يتأكد نفس الملمح الذي رصدناه من قبل حين نعلق هزائمنا على الزمن، وهو اتهام قديم يتجدد مع كل محنة يمر بها الفرد أو انكسار يلحق بالوطن، وعلى نطاق التجربة الشعرية فهناك تماس مع الأسطورة حيث يحتل أبطالها الملحميون زوايا النص دون أن يشتبكوا تماما مع عناصر الواقع المرير، فكأنهم يحضرون بظلالهم لا بعنفوان فعلهم الحي الموار بالأمثولة :

" فوق السطوح كانت إيزيس
تايهة في بهو الأعمدة
وعيونها كانت
راكبة مهرة بدون لجام
وسط الزحام " [15] 27.

تتحول " إيزيس " إلى رمز، وهو ما يجعل الإحالات ممكنة في ذات السياق الذي يشي بفكرة التشظي والضياع، وانتهاك الخصوصية، ويقوم الشاعر بلعبة تبديل الأقنعة حين يحدث التماهي بين " إيزيس " كرمز فرعوني ينطلق من أسطورة قديمة تـُقرأ على جدران المعابد إلى " بهية " وهي شخصية ملحمية لها مكانة في الوجدان الشعبي :

" لما يصحى الفجر كان لازم .. يوضيها
ويمسح فوق جبينها
ويرتشفها
بس ليه الذاكرة .. صبحت غبّية ؟؟
قربت منها .. شوية ودقـّـقت .. فتأكدت
إن الملامح دي لياسين
واللي كات متنكرة ف إيزيس ..
بهية ! [16] .

اللغة التي يكتب بها الشاعر نصه لغة بسيطة وتضفير الرموز يتم بصورة جزئية، وهو ما يشكل مأزقا عند التلقي . لقد أمسك شعراء العامية الجدد بخيوط قضية الاغتراب ونسجوا منها على مهل تجربتهم الفنية، فرأينا البوح، والفضفضة، والنجوى، والرغرغات، وكلها توميء إلى طريقة في الكتابة تجعل الشاعر يخاصم واقعه ويكتفي إما بتبيان الجروح التي لحقته من علاقته بالجماعة، أو ينحي كل العلاقات الإنسانية متجها لحياد بارد باهت، ولكنه في أحيان أخرى يقوم بتفريغ الشحنة الانفعالية في " عرضحال شعري " يرصد كل المظالم التي اكتوى بها الكادحون والفقراء وشعراء الربابة المخلصون، وهاهم يواصلون التوصيف بلا كلل أو ملل :

" جالها المخاض
عضت على علم السنين
اللي ابتدى قبل التاريخ
شبكت إيديها .. في ريبون!
صدّرت رجليها في البحر الغويط!
فرهدت حيل الدمايطة ..
وهزت النخل ف رشيد [17]

مخاض الوطن في مفصل تاريخي شهد تحولات جذرية أودت بالكثير من الركائز الأساسية للفرد، ف" الشاعرالجديد يفقد الانتماء إلى المنظورات الفكرية التي انهارت، وينفي الهوية المحلية والقومية بالشكل الذي كانت تصدر به في التجارب السابقة. لقد صرنا نعيش في عصر السياقات التراكمية الشكلية فائقة النمو، في الوقت الذي تركد فيه العلاقات اليومية بين البشر الذين يدورون بلا معنى في العجلة النفعية الهائلة " ( 7) .
لا يختلف شاعر العامية في تفاعله مع تلك المتغيرات عن غيره من المبدعين، فمن يقرأ القصائد الجديدة يجدها تموج بنفس الرؤى والانفعالات التي تعبر عن مفهوم الاغتراب، وقدوم الظلام، ولحظات المخاض الصعبة التي تعلن عن قدوم وليد، وهي " التميمة " التي تحملها قصيدة العامية المصرية منذ وقت بعيد . هناك رغبة دفينة في ابتعاث اللحظات المضيئة في تاريخنا المصري القديم، حيث المكانة والمهابة، وهنا يكون الإلحاح في قراءة التاريخ محاولة أخرى للعودة للنبع الصافي :

" إقروا التاريخ
الشمس تشرق
مرتين .. في العام
على وش الملك !
ماهو .. دول .. جدوده
شربوا .. م النيل العظيم
وعشان كده ..
لسه الخصوبة ف علمهم.. للآن
ولحد آخر مرحلة [18]

قصائد بسيطة تبحث عن قوة الإرادة في صفحات التاريخ، وعن بؤس الإنسان في أوقات انكساره، وربما تكون قصائد طه هنداوي الأخيرة وهي التي وصلتني مخطوطة تقترب أكثر من الهموم الذاتية، ولهذا يقتنص بعض الصور المحيرة في واقعه ويوقـِّـعها شعرا مثل مشكلة الخصومات التي تقع بعد الانفصال بين الرجل والمرأة وكيف يمكن أن يتوه الحق ويتبدد العدل :

" وليه كل السكك عميا
ما بتشوفنيش ؟!
وليه قلبي اللي عطشان ضلة
ما بتسقيش؟!
وليه سهم العدا صابها
وسهمي يطيش
وليه عالي عليّ السور .. [19].

في الأربعينيات والخمسينيات كان بيرم التونسي يتناول أشد المشاكل الاجتماعية تعقيدا ويضفي عليها مسحة من السخرية، ولكن أغلب الشعراء المعاصرين يبسطون في نصوصهم نفس الحس المأساوي في تمثل مثل هذه القضايا ؛ فالذات متورطة في الأحداث والوقائع، لذلك لن يكون غريبا أن نستشعر تلك المرارة التي تفيض على حواف التجربة :

" وحدفوني لبلاد .. بره
وبعد ماكنت رب البيت
بقيت العبد.. بال.. جرة
يبيعوا ويشتروا في ّ
وأيه يعني! وإيه بعد الوطن ما يبيع ..
هايوجعني ؟! [20] .

أليست القضية هنا لتتسع من هم ذاتي يخص فرد إلى هم عام يخص وطن مع الجدل المستمر بين النسقين وهو ما حاوله طه هنداوي في أغلب قصائده المخطوطة، ولكنه يصل إلى حد كبير من القنوط والإحساس بالمهانة كما يبدو في نهاية نفس النص المليء بإشارات كثيرة للسقوط والانكفاء على النفس القلقة :

" يا سمك القرش لا تقزقز على مهلك
وخالف هذه المرة علام أهلك
فلحمي قد حشاه السم من كرهي
وأخشى أن يغرك طعمه .. تهلك [21] .

وهي رباعية انتزعناها من سياقها في حين أنها لخصت المعنى كله، وعبرت عن المأزق بأكثر الأدوات الفنية قوة حيث الصورة الحسية التي نرى صداها في بيئة الشاعر . ولا شك أننا لاحظنا ألفاظ الفصحى التي تسللت للنص وقد جاءت نتيجة رغبة الكاتب في أن يبدو في مرافعته صاحب لغة متماسكة فخمة حتى ينجح في سوق أدلته .

هو إحساس يتزايد مرة تلو مرة أن الوطن يبيع أبناءه، وأن الموازين قد اختلت تماما . لذا نرى الشاعر وعبر أقنعة أبطاله يثور مرة، ويصمت مرة، ويحذر لما يبصره من خلف الأفق، حتى أن الموت الذي هو وجود أصيل كنهاية مؤكدة للحياة يزحف ليحتل منتصف المشهد، وهنا يتأمل الشاعر أحزانه ويطلق زفراته الحارة :

" وليه دايما .. معانداني
أنا بالتبر شاريكي
وليه بالتبن بايعاني؟!
باموت فيكي
واشوف بيكي
وليه دايما ما شايفاني ؟! [22]

هي مفارقة إذن أن ينكرنا من نحبهم، ويفرط فينا من نحرص على التمسك بهم، وقد استفاد الشاعر كثيرا من صيغة الموال، واتجه للنداء على تلك التي باعته، واستنامت لخطو الغرباء، وهو ما استوجب أن يلوح لها بكل إشاراته الحميمية التي يحملها، لكنها فيما تبدو قد مضت في غيها، مفارقة إياه، لتعمق معنى الاغتراب في قلبه الموجوع الحزين : المرأة / الوطن / الأسطورة !

عبدالوهاب الشرقاوي، وتقنية التداعي :

تفصح قصائد عبدالوهاب الشرقاوي عن إحساس قوي بالغربة، وعن بنية جمالية رائقة تمتح من الشعبي، مع توليد علامات قراءة خاصة بهذا الشاعر الذي يعتمد على التداعي، وعلى رؤية محبة لكنها معاتبة للكون من خلال ديوانه " ورد البداية " ( 8) . ديوان متميز بغلافه الأسود، ولوحة مشغولة باللون الذهبي لوحيد البلقاسي، أقرب ما تكون إلى الرسم التلقائي المعبر والمختزل لكثير من الأقوال . يهدي الشاعر الديوان إلى روح أخيه عبد الرازق الشرقاوي شهيد الغربة، وهي عتبة أولى تبصرنا بأجواء القصائد التي سنتعامل معها حالا . يحرك الشاعر دلالاته مع ذلك النزوع الواضح للوم الزمن وهو اتجاه رأيناه دوما عند شعراء العامية الذين يوثقون موقفا ما من الحياة . إلى ما وراء السطح الساكن للأشياء :

" وبتنتهي الأيام
بعلامة استفهام
والكون حصى وركام
ودومات ياما
جايلك يوم القيامة
فما تفرحيش فيا
يا شمعة مطفية
وساكنها ريح وسواد
وجعي المسافر عاد [23]

مقطع طويل بعض الشيء أردت أن استحضره هنا لتوضح منطق التداعي الحر الذي يعتمد عليه الشاعر، وهو متمكن من صنعته، مدرك لأسرار حرفته، يغلب العفوي على المصنوع ويقدم خطابه الموجوع بشيء من الاختزال الذي لا يمحو ملامح الأزمة . الحب موضوع للمعالجة، وهو حب غائم، بعيد، مرتبك، لكنه يأتي إلينا على مهاد تخييلي وعبر نطاقات شفافة مشغولة بمهارة . يد الصانع الماهر تختفي ليبدو لنا المشهد أقرب للوحة الفسيفساء الذي تتجاور فيها المربعات الصغيرة الملونة لتشكل مشهدا كاملا وماتعا . وقبل أن أتوغل في عمق القصيدة سأتوقف أمام تفريعات تصويرية ميزت هذا الشاعر الموهوب فعلا في أخيلته الطازجة، وفي تعامله الفاهم مع تقنية " التداعي " :

" دانا عيل في حُبك تاه
وجرحي دواه
تطل عليا تندهلي من الشبابيك
أقول لبيك [24]

ينتقل الشاعر من مستوى لغوي إلى آخر مستوعبا ما في العامية من إمكانيات تستنفر كل طاقات الجمال في تداخل وتخارج الحروف النغمية، ولذا سنجد أن صورة الحبيبة تمتزج بالوطن، وتمرق عبر الذات في علاقة تتراوح بين التمثل والاستدماج الكامل، بشيء من المعادل التشكيلي للدلالة فالجرح هو نفسه الدواء، والدموع التي تترغرغ بها العيون يطوح بها ناحية من يحب " حب موت " وهو تعبير يجمع بين شدة الوجد، وبين دلال المحب على حبيبه . إنه يدفع بعناصر الطبيعة في فضاء نصه ليقبض على هذا الحب المستحيل، مواصلا فكرة التداعي بين الألفاظ وعبر المعاني مطلقا غنائية كاشفة لهذا الوله المحب العجيب :

" ما تفرقش المسافة كتير
قمرنا كبير
واذا عوق ما بيغيبشي
إليك بمشي ما بوصلشي
سمعت كلام
وقلت حرام ما يحصلشي
تراب الأرض ما يهونشي [25].

تدرج في مستويات التصوير مع اجتراح آفاق جديدة للتوجه نحو رحاب الحبيبة، وثمة خيط لامع علينا أن نتتبعه مهما بدت الظلمة عاتية، وهناك أرقام " البركة "، وتنويعات شعبية حول مدارج الحبيبة، وشعور مبهم بوجود رقي وبخور يصعد، وآهات عميقة من القلب الموجوع بفراق الأحبة . هنا يكون للاغتراب ملمحا مغايرا إذ هو يتجاوز النسق التقليدي ويجمع في قبضة واحدة بين الذاتي جدا والعام جدا في آصرة جملية واحدة لا تنفصم :

"سبع سموات بتقطعهم وبتجيلي
بتوحيلي مواويلي
عينيك الكـُحلة ساكناهم
وليلهم نار
وداب الصمت جواهم
وقلبك كل خطوة جدار [26] .

تغلب على هذه الصورة رؤية كلية تتبرعم فيها وحدات جنينية للمشاعر الإنسانية التي تعلن عن حب مدهش متأرجح بين التحقق والتشظي، بين الاستحالة والإمكانية، مع رغرغات دامعة لأعين مسهدة ترى في الغربة اقتصاصا لذنوب تاريخية وأخطاء شخصية، ونوع من القدر المكتوب كما تتمثله الجماعة الشعبية خاصة مع التلميح بفكرة السفر، والهجرة، والابتعاد بالجسد أو بالروح سيان :

" وراحت فين؟
دا نا اللي كنت موالها
وشايل ع الكتاف ويلها
وانا اللي كنت بحايلها
عشان ترضى ماترضاشي
وأقول يمكن
يرجّعها السفر وتتوب [27]

هل يمكن أن نتوقع قدرا أكبر من التعاسة، و الإحساس القوي باللوعة، وتأكيد تلك الثنائية عبر النص الذي يغترف من حب فياض يعكره غياب قاس وقبضة لا ترحم تعصر الفؤاد وهو ينبض بحب جارف للحبيبة أو الوطن . بشكل لافت تتكرر هذه الثيمة عبر العديد من قصائد الديوان التي تنبش في الجذور، وتنقب عن الضوء المختفي تحت ركام الظلمة، فلا يوجد ما يحبس عطر الورد، ولا عبير الحدائق الغناء لمكان نحبه، أوفتاة نعشقها، أونيل نشرب ماءه العذب . يتساوى الضحك والبكاء في هذا المكان الذي نكتشف فيه طراوة قلوبنا ويبوس طبائع الأغراب عنا، ومع السهر يكون الحلم، وثمة تناص يؤكده الشاعر مع قصائده نفسها في استحضار الفكرة عبر صور متراكبة متداخلة لا يعوزها الجدة والابتكار :

" هانضحك ليه؟
مادام الحزن بيعشش على قلوبنا
ونفرح ليه؟
مادام الحب عذبنا وتهنا معاه
دا حتى الحب متغرب [28].

ليس من شك في أن المنظور الذي يلجأ إليه الشاعر يضعه على محك اختبار إرادته في تجاوز الأزمة من عدمه ؛ فالإلمام العميق بطبيعة الحبيبة التي تتأبى على الحضور هو جانب مأساوي يتعلق بمدى ما في الواقع من عقبات، وهو ما يدفع النص نحو مكابدات نفسية ومجاهدات روحية حتى يمكنه أن يتواصل مع تلك الحبيبة التي تمثل له هدفا بعيد المنال .

إن مثل هذا الإحساس القوي بالغبن يمكن إرجاعه إلى ما يعتور الواقع من نقص وفساد وانعدام طاقات النور في واقع بائس، رث، متشظ، متواطيء مع كافة رموز الاحباط . ما يحدث في القصيدة أن الحبيبة تلوح ثم تختفي، وما يحدث في الواقع أن الوطن يبدو قريبا ولكننا عندما نحتاجه ينسحب من تحت أقدامنا أرضا وفراديس ولا يتبقى لنا غير حقائب السفر . والنص الشعري عند الشرقاوي يدفع بنا نحو مفهوم رولان بارت لفكرة تحقيق اللذة، ف" إذا قبلت أن أحكم على نص ما حسب اللذة، فلا يمكنني أن أنساق إلى القول : هذا نص جيد وذاك نص رديء . فلا قائمة للجوائز، ولانقد، لأن النقد يتضمن هدفا تكتيكيا واستعمالا مجتمعيا، ويتضمن في أغلب الحيان غطاءا خياليا " ( 9) . تتحقق اللذة في نصوص الشرقاوي من تلك المعادلة الشعرية التي يحققها حين يمرر شرر الإبداع بقوة بين أقطاب النص فتسري الومضة التي تخطف أرواحنا، حتى لو كان الخطاب الذي يرسله لنا هو الاغتراب، والشعور بأن الحياة قد صارت قاسية وغير ممكنة . لذا تتولد الصورة الشعرية برقة بالغة وهي تنبض بمثل هذه الأشواق المستحيلة في غنائية راقية تميز كلمات هذا الشاعر المطبوع :

" دنا قلبي لسه ف الهوى بيعافر
لساه مسافر
والليالي عنيدة ؟
ضهر المراكب تعب
من كـُتر ترحالي [29]

هي لقطة معبرة عن السهاد الذي يلف تلك الأعين الساهرة، ورياح السفر تهب، والمراكب نفسها قد تعبت، فهي استحقت شيئا من صفات البشر الممسوسين بالغياب فوقها، والنداء نفسه لا أحد يسمعه، ورغم ذلك يستمر الحب المستحيل من طرف واحد . فهل تنجاب الغشاوة عن العيون ؟ وهل تسمعنا تلك النافرة البعيدة القصية؟ ذلكم هو السؤال الافتراضي الذي يطلقه الشاعر، وتستوطنه النصوص كلها : نصوص فقد، وعتاب، وانتظار .

محمد علي غالي، الصور تركض وراء الصوت :

يمكننا أن نرجع لرؤية " باشلار" ونحن نمحص قصائد تلك النخبة من شعراء كفر الشيخ حين يشير إلى " الصوت الذي يترك الصور تركض وراء الصور، والذي يعيش في تراكب شتى التفسيرات، ندرك ما يمكن أن تكونه حالة الغنائية حيث تكون محض روحانية، محض فكرية " . ( 10) فالشعر بهذه الكيفية هو توظيف للصوتي في خدمة المشهدي، وهي ترسيخ لمبدأ الغنائية في الشعر كمدخل حقيقي ومؤكد للقبض على عناصر العملية الإبداعية . لكننا اتخذنا محورا يخص فكرة " الاغتراب " وفيما يبدو فإن مثل هذا الشعور المضاعف بالفقد يستدعي شخصيات لها بعدها الشعبي لكي تملأ هذا الفراغ الذي يستشعره صاحب كل قلم وهو يبحث في الطين، والطمي أي في الأرض نفسها عن سبب للحياة ومواصلة التعب اليومي . إنه السفر وقد تزيا بشيء من انتكاسة الحياة، وهجاء الواقع في ديوان " فتافيت فرح " ( 11) :

" بخضار القلب باشوف
فوانيس النيل السهرانة
في طراوة الليل
وأداري الضحكة
وأشق الصخر
وأسافر ويا الطير [30].

في هذا الديوان الصغير " فتافيت فرح " يمكننا أن نسوق الكثير من الأدلة على وجود نفس شعري ينتقل من جيل على جيل، يلقي تبعات الانكسار على الزمن، وينسحب من ميدان الخسارة ليجهز النفس لمعركة مقبلة . هو نوع من الانسحاب الآمن، يطرح الشاعر عبره مفهوما لبعث أبطال" الحواديت" ليحتلوا الصدارة، ويحققوا مالم يتمكن الفرد من أن يقوم به . هو ملمح استعاري ينتقل من نص إلى آخر، لذا سنعثر هنا على " الشاطر حسن " و" ست الحسن " كما عثرنا في الدواوين السابقة التي تصدينا لها بالمناقشة على " ياسين " و" بهية "، كما يمكننا أن نعثر كذلك على " الزناتي خليفة " أو " السندباد " أو " الحورية " التي تطلع من البحر أو النهر كي تنتشل الفرد الوحيد الأعزل من كبوة مؤلمة أو حزن مستغلق. وعلى الدوام ينتقل مركز الثقل الإيقاعي من المتن إلى الاطراف البعيدة ويتحرك " الصوت " موزعا أنينه على " صور معدة سلفا " يمكننا أن نطلق عليها " الترميز الجمعي " وهو الذي يمكننا من خلال إدراك شفرته أن نفكك القصيدة إلى خطاب معلن، ورمز مؤكد، ومعنى متداول وهنا نعثر على ألفاظ مثل " الفجر : دلالة على الأمل "، " الأحلام : دليل على الرغبة في مستقبل مشرق " وهكذا دواليك، وهو ما يمكن لناقد شعر العامية الممارس أن يدركه فهو يمثل " ماء شعري " يغترف الجميع من معينه دون ضرر أو ضرار، المهم أن يتم استنبات الجملة الشعرية في غيط صالح للنمو، وهو ما قد يحدث أو يمتنع . تعالوا نلقي نظرة على صورة أخرى لملمح من زاوية مختلفة لذات النص :

" شق الأرض وإرمي
عصايتك
جايز تحمي الموتى
بقومتك
جايز ترمي الوهم
ف مقتل
قول للفجر تعالى وشأشأ [31] .

شق الأرض يأتي تاليا لفعل الخروج، ومسألة الرمي تحيلنا لقصة سيدنا موسى عليه السلام، إما إحياء الموتى بقيامته فهو مجتلب من الثقافة القبطية، لكن الفجر يطل وتملأ العين أحلاما خضرا . إنها لحظة ميلاد موازية للموت الذي يقف على الأعتاب، وهنا يحضر وطن بلفظه ومعناه ليكمل رتوش الصورة .
يطرح توظيف الموروث الشعبي فكرة تبادل الأدوار، وحتى في مجال التناص نجد تحويرا أساسيا لشخصيات تأتي محملة بتاريخها من البطولة مثل " عنترة " أو الإثم مثل " أبو لهب " . تلج الشخصية الرمز فضاء النص كقناع، أي تأتي مثقلة بإرثها وما تعارف عليه الناس من تصورات قبلية، وينهض نوع من العصيان على الشائع حالة كونه يتضاد مع مفهوم الوطنية، وهنا نشعر بشيء من المباشرة حتى أن لفظة مثل التأمرك تقتحم صفاء الشعر:

" قوم استعيذ
من شر حاسد لو حسد
وأوعاك تصاحب
تبت يداه
وإياك معاه
تدخل في سرداب اللهب [32] .

قلنا أن القصيدة الشفافة هي التي تكشف عن الخفي والمستور، أشبه ما تكون بمحارة داخلها لؤلؤة تشع بالضوء الباهر، وهناك في قصائد غالي عنصران يتقدمان الكشف الشعري، أولاهما مادة الحلم التي تشكل مساحة للتخييل واستنهاض الهمم وصولا إلى مستقبل زاهر . ثانيهما الحكايات التي نجد أبطالها يتبادلون الأدوار مع المنشد ذاته . بطلنا الممعن في اغترابه ووجعه الأبدي، وهنا يقوم الشاعر بإطلاق تحذيراته، وهي إحدى سمات قصيدة العامية التي نجدها لدى أجيال السبعينات وصولا لوقتنا الراهن أي عام 2006 بدون تغيير يذكر . هل لهذا معنى؟ بالطبع وهو أن الشاعر المعاصر ما يزال يتمثل دور الثائر، المتمرد، المنفلت من إسار واقعه، فهو النقيض لما يحدث في الواقع من انكسار، أي هو الذي يضع قناع البطولة :

" والحلم أهو مات
جوه الحكايات
والأخضر غايب ماوصلش
فبلاش تتسلطن أيا صاحبي
أصل السلطان
عمره ما بيدوم
فادخل في يمين
واسكن في سمانا المفتوحة
واوعى الضالين
وأبدأ ب" يس [33] .

على أن شعراء العامية في كفر الشيخ ـ وبدون استثناء واحد ـ لديهم حس استشرافي، فهم يشعرون فعلا بالاغتراب، ويناوشهم الإحساس بتراكم الخيبات، لكنهم يحملون داخلهم قناعة أن الغد سيحمل لهم الخلاص، أو هم يرددون مقولة " الصبر مفتاح الفرج "، وعند غالي نشعر أن هناك سمات للخلاص، منها إتيان النور، وتجدد الحلم، والقدرة على أن يعيد أبطاله الشعبيون نفس أدوار البطولة في عصرنا هذا، أي أن تمجيد البطولة يلعب دورا أساسيا في التغلب على النكوص والعثرات كما سنقرأ حالا :

" أفرد قلوعك في المدى
فوق نجمة عالية
ماجدة
وإياك تحب اللي اعتدى [34].

إشارة ذكية من الشاعر لحقيقة أن البطل سيطل من اللغة، أي أنه شدد هنا على هويته العربية، ولما كان الشعر هو ديوان العرب فهذا ادعى للوثوق بقدرة أبطالنا على الحضور، والتغلب على كل العقبات التي تشعرنا بالاغتراب، وبكوننا نحارب معركة لن تُحسم بسهولة لصالحنا، وسنجد قوة الدفع تتأكد، مع حث الشاعر لذاته أو لبطله كي ينتفض ويقبض على خلاصه:

" لملم دموعك
للإله كبر
وارفع نداك الأخضر
قوم شد فجرك
ولا ترضى بهوان الذل [35]

هي إذن معركة مستمرة، وحراك مجتمعي صعب، وتحول تاريخي لا ينقطع، مسئولية الشاعر فيه أن يكون رأس سهم في مواجهة كل محاولات التركيع والانهزام لأن الشاعر كالعنقاء يحترق لكنه يـُـبعث من جديد!

محمد السيد سليمان، وتحديث نص العامية

في رصيد شعر العامية معجم خاص يمكنك كباحث أن تعثر عليه بسهولة، وهناك ترميزات منحوتة منذ الستينات، يتم تداولها في أغلب نصوص الأجيال الجديدة . هل يمكننا أن ننكر وجود ألفاظ بعينها ترمي بدلالاتها في فضاء النص مثل ( الخوف، السكون، الظلام، السكات .. ألخ ) وهي توظف بصور مغايرة عبر تشكيلات تصويرية متبايتة لكنها تؤدي نفس الهدف ؟

لدينا ديوان صغير يحمل عنوان " دقة على باب شرنقة " ( 12) للشاعر محمد السيد سليمان، ينحو به باتجاه صياغة قصيدة عامية تجتهد لفك شفرة العالم ببساطة وهدوء . ستلاحظ أنك تعيش في نفس الأجواء التي مهدت لها القصائد الأولى التي تناولناها في الدواوين السابقة، ولا أعرف هل تبدو ميزة أن تشعر بوجود أرضية مشتركة للإبداع أم أن هذا التكرار بحاجة مخلصة للخروج عن الأطر التي تحوط شعر العامية المصرية بوضعه الراهن ؟
وسؤال إضافي : لقد خرج عدد من الشعراء لقصيدة النثر باللهجة الدارجة، وتوسمنا خيرا في أن يحدث تغيير في بنية القصيدة، وتتم إزاحة ما في مبنى النص، لكن ما حدث هو أن القصيدة الجديدة استغرقتها العادية، والأحاديث التي تشبه الثرثرة عن خصوصيات معينة حول الشخصي جدا، بحياد بارد وقلب ميت، وما لبث الجميع أن راح يغزل نفس الخيوط على نول واحد بكيفية المطابقة والمشابهة، فصرنا كأننا في مواجهة قصيدة واحدة يشترك المئات في كتاباتها .

رغم كلاسيكية الطرح في الدواوين التي نتحدث عنها إلا أن هناك اختلاف ما في طريقة الآداء، وتشكيل الصورة، لكن القاموس الشعري نفسه لا يتجدد . كنا في السبعينات قد توقفنا أمام تجارب هامة مثل التي قام بها زين العابدين فؤاد، ومحمد سيف، وزكي عمر، وهذا الجيل الطموح، وكانت ثمة فرادة في التشكيل والصياغة، والتعامل مع التراث الشفاهي، وما لبثت أن غابت هذه التجارب الرائدة مع قدوم جيل جديد يقدم النص المثقل بالقضايا الوطنية، والمتناغم مع هموم الذات، لكن المثير أن الطرح الفني يكاد يكون طرحا كليا رغم أننا لا يمكن أن ننفي الشاعرية عن أحد، فالموهبة واضحة، لكن المداخل تكاد أن تكون متطابقة، وخطة سير القصيدة تخضع لذات الشروط .فهل هو مزاج جمعي فرضته طبيعة الواقع وتحولاته ؟

إنني أفكر بصوت عال، ويهمني أن تفتح قصيدة العامية النوافذ على كل الاتجاهات، وأن تحدّث نفسها ضمن سياقات جديدة ورؤى مختلفة، وأن يجد الشعراء الجدد في أنفسهم الجرأة كي يجددوا طرائقهم بحيث يمكنني أن أقول : هنا صوت جديد . هنا دهشة تعصف بالمشاعر . هنا صدمة لي كمتلقٍ أن أقف مبهورا حيث " لطشني " هوى القصيدة ورجني رجا . فهل أبحث عن شيء صعب ومستحيل؟
الإجابة سأتركها للشعراء والجمهور وللنقاد من الأجيال القادمة فقد يفتح الصفحات المتراكمة من يشاركني هذا الهم ويشد على يدي ويهمس في أذني أو يقولها جهرا : كنت على حق . ولابد أن تجدد قصيدة العامية دمها وتطور أدواتها ككل شيء في الوجود .
تعالوا نتجول في قصائد الديوان، ونستنشق شيئا من عطر الكلمة، ثم سنطرق بعد ذلك بوابة تدخل بنا نحو فضاءات الحداثة :

" زي الفراش
أنا قلبي كان
أوكاد يكون
بيغني ترانيم السكون
ويغازل النور المميت
الخوف عبيط
والأعبط إنك تزرعه
نن ف عنيك [36]

سوف نلمس على الدوام هذا التداخل بين الإحساس المبهم بالخوف، وسكون الكلمة، وتفشي العدمية في عالم يخفي الحلم أو يزيحه، وهنا تكون الفراشة هي ترميز للرقة ولاقتحامها اللهب باحثة عن دفء ما، وهناك صورة جميلة حين يزرع البطل الخوف في نن العين، ثم يعرج المشهد ليقف أمام مرآة الزمن . الأشباح تسرق الخطوة ونفس الإحساس المتنامي بالفقر الروحي والعوز النفسي يتبدى مع قدوم الليل .

كان شعر العامية محاصرا باستمرار بأسئلة صعبة عليه أن يجيب عنها منها صلة النص بمفهوم الحداثة، " وهنا تبرز إشكالية من أكبر إشكاليات الشعر المكتوب بهذه اللغة ويصبح بالتالي شاعر العامية الذي يجتهد للدخول بقصيدته إلى آفاق أكثر عمقا ورحابة وحداثة شاعرا نابيا عن السياق العام الذي مازال ينظر للشعر المكتوب بالعامية نظرة قاصرة ومحدودة . ومن هذا المنظور يصبح الوعي الصحيح لشاعر العامية بتراثها وتقاليدها وتكنيكاتها وعيا مهدفا من أجل تطوير هذا التراث وتلك التقاليد بما يتمشى مع ضرورات الفهم الحداثي للشعر، لاوعيا مستسلما لنفس المعطيات المتواترة لهذا التراث وتلك التقاليد المتكررة له . وإلا أنتفت عملية التطوير برمتها من الأساس " ( 13).
هذا التوجه لتحديث القصيدة العامية هاجس ملح في صدور الجميع، ولن يحدث هذا قبل أن نحرر النص من أسر التكرار والاجترار سواء في الخطاب أو التشكيل الفني .
مع دقات الشاعر محاولة للانفلات من الرؤية المتكلسة للوطن، وهناك متن غنائي يسوقه النص حين يكثف الصور ويجعلها متلاحقة تفيض بالحب للأرض وهنا لا يهم إن جاء ليل او اقتحمنا نور النهار، فالأهم هو أن يحدث الفهم، وتهب الرياح لتكشف الإجابات الصحيحة لأسئلة موغلة في القدم :

" علمني حبك ياوطن
إزاي أقول
وانفخ ف قصقوصة ورق
تطرح عقول
وتهب ريح
فهمني يا نوح الجريح
المسألة [37]

في الفن قدر من اللعب . اللعب الفني الحميد، وعبر هذا اللعب يحدث الكشف عن جماليات النص . حب الوطن يعلم القول، ولاشك أن هناك إحساس بالطوفان، فيكون من المناسب أن يأتي " نوح " عصري لينقذ المؤمنين من الغرق . وثمة أسئلة تطرح دائما على المخلصين حتى إن نجحوا في الإجابة عليها أنقذوا مدينتهم من الخراب، وهكذا تتطور الأسطورة القديمة مع قدرة الفارس على فك الرموز . قد تسأل نفسك ما هي العلاقة الموضوعية بين نوح " كرمز ديني "، وبين البطل الذي يستطيع فك رموز المعضلة وهنا نرتد للأسطورة" الأغريقية "، وبين الفتى العصري الذي يعشق وطنه . والإجابة أننا أمام لعب فني وتداخل في الأحداث وضربات تأثيرية من فرشاة تلون أفق النص.
قد نستسلم لتقاليد الحكاية الشعبية أو نسق الأسطورة، وقد نتعثر مع مكابدات الإنسان المصري البسيط المعاصر لنا، كل هذا صحيح غير أن ما يبهجنا في النصوص ما تحمله من حداثة في التلاعب بالرموز القديمة، والبدء فورا في تصعيد غنائية تجري كالدم النقي في عروق القصيدة، هو الحب الذي يتشكل بأشكال مدهشة تكسر جمود الحياة :

" وليه الكون إذا غبتي
ما يحضنيش؟؟
وأنا الدرويش في قفطاني
غزلت الصبر بخيطاني
آدان الفجر صحاني
وليه ضيك ما يوصلنيش؟؟ [38].

يبرز رمز " مسرور " السياف قادما من " ألف ليلة وليلة " وهو يليق بمزاج الشاعر الشعبي في تعامله مع حكايات قديمة عن فرسان يتخطون المستحيل للظفر بالحبيبة، والنجاة من أعين الحساد . ما أجمله، هذا الشعر الصافي الرائق الذي يتسلل بهدوء ليحرك مشاعرنا باتجاه الجميلة التي نحبها جميعا :

" بتبعدنا الحدود لكن
إذا كنتي .. أنا كائن
أحرك نبضك الساكن
وبرفع حرفك المكسور [39].

بساطة، وجرأة في توظيف الكلمات المغرقة في عاميتها، ولا يبدو ذلك غريبا مع شاعر درويش، لا يخاف العفاريت، فقط يرهقه أنه ليس متاحا له أن يقوم بالصلاة في محراب الوطن لغربة ما اقتنصته!

حسن المنطاوي، ثنائية الحب والوطن :

عالم يحمل في ذاته مقوماته الخاصة . يتعامل مع ثنائية الحبيبة الوطن بقدر من الفهم والوعي بجدل اللحظة، وفي نصوصه شعر حقيقي، يبدأ أغلب قصائده بالنداء، وكأن هناك أوجه غائبة يسعى لأن يستعيدها، وهو يشعر بنفس مأساة الاغتراب لكنه شديد الاعتقاد أن المحن تصهر المعادن الأصيلة فتكون أصلب عودا. وكلما كانت الحبيبة بعيدة كان الوطن مستحيلا، كما نجد في العديد من القصائد التي بين أيدينا من ديوان " فارس وفرسة " ( 14) :

" باعشق ترابك ياوطن
بتزيد حلاوتك
لما بتزيد المحن
زي ما بتكون
بترضع بؤسها [40].

كل اتصال لغوي يحمل بالضرورة قدرا من عناصر القضية التي يبسطها هذا الشاعر في هيكل تعبيري بسيط للغاية، وبدون فلسفة أو شروحات يهتدي الشاعر إلى معادلة تجمع القريب الحميمي والنافر القصي، وهو يتأمل عناصر ومفردات الحياة في وطن يعشقه، لكن هناك من أبنائه من يحمل صفة العقوق . إنه بكل بساطة يدرك أن لاشيء يضيع أبدا،مهما اختلطت الأوراق، وزاغ البصر، فهناك ميزان لا يبدد مثقال ذرة :

" فاتح كنوزك للجميع
واللي بيتجدعن يبيع
سر وعلن
وانت بتضحك منهم
وفاتح لهم
مليون كفن [41].

كأن الموت سيحل كل القضايا المعلقة، هذا منظور أول، وثمة منظور ثان، يأخذ مشروعيته من الفهم الشعبي للأمور حين يدرك الناس أن " المال الحرام " مصيره الفناء، وسوف ينقلب بالشر على من ينتهبه، كما أن الضمير الحي سوف يجعل منه غصة في صدر من يستسيغه.
على الرغم من غنائية هذه اللغة، وحرصها على أن يدب الإيقاع حيا في جوانب القصيدة إلا أن هناك أمرا آخر علينا أن نتنبه له، وهو أن النص يحمل مشاعركل من يحلمون بالوصول إلى مرفأ آمن . كنت أريد توضيح أن الحلم هو الوجه المقابل للقهر والقيود والعتمة، فهو يمثل الخلاص من عنت الحكام، وعثرات الأيام، وهو يمتح من الواقع لكنه يسمو عليه . فإن كنا قد توقفنا أمام الكثير من المراثي والعديد، والبكائيات فهناك التوجه المقابل الذي يرى أن الحياة ستدور دورتها، وسيسقط كل زائف أو كذوب، وسيكون الصعود للحلم مؤكدا عبر تلك الثنائية التي يتماهى فيها الذاتي بالعام، والتي تشارك فيها الحبيبة الوطن نفس القسمات :

" وسلمت الأمور لله
وقلت اصبر
يجوز الحظ يتغير
وأيام العذاب تقصر
ونمت احلم
وأحلامي بقت تكبر [42]

تفرش النصوص ظلالا نفسية من البهجة على المتلقي بالرغم من هذا العتاب الرقيق الذي يطرز حواشي القصيدة هنا أو هناك، وسوف نلمح بالقطع إمكانية الحكي داخل النسق الشعري وهو ملمح سبق أن عثرنا عليه في نصوص الزملاء . لكن في قصائد حسن المنطاوي نوع من المرح، وإشراق الروح، فهو لا يعقد الأمور ـ أمور الحياة ـ بل يبسطها، وهو يرى الدنيا أرجوحة، عليه أن يتعامل معها بكل الرضا :

" ما آهي غارقة
ومش فارقة
يادنيا ولابسة بكيني
إذا مرة ضحكتي لي
متين مرة تبكيني
ومرجحتك تملي لتحت
ولا مرة تعليني [43]

مثل هذا الإحساس المرير بغربة الروح يتم تخفيفه بتلك الروح المنطلقة المتحررة التي ترفض كل أسر . لم يكن غريبا إذن أن يختار الشاعر " فارس وفرسة " للتعبير عن الانطلاق، لكن الحكاية تبدو أكثر غرابة من ذلك فالفرسة تبدو مشدودة لفارس بعينه تمكن من شد اللجام، وصارت هناك مراهنة مؤداها من يمكنه أن يكسب حتى نهاية الشوط خاصة أن العلاقة هنا ترتد لتعبر عن علاقة خاصة جدا بين رجل وامرأة . الترميز واضح، وفي تراثنا الشعبي يعبر عن المرأة الجامحة بالفرسة، فهي ممشوقة القوام، منطلقة، تحتاج دائما لمن يسوسها . وكأن القصيدة تلخص قصة الصراع بين الرجل والمرأة، بلمسات خفيفة يجيدها الشعر:

" أول ماهايقول لك تعالي
هاترجعي
أول ما هيحن قلبه
تحت رجله.. هتركعي
ولما هيشاور بصابعه
راح تدوبي وتخلعي
كل أقنعة المقاومة
والمساومة هتبتدي
وهاتخضعي [44]

مع هذا النص بالذات تنفك الثنائية لنكون أمام الحبيبة وحدها، في صدها وهجرها، ويبدو أن منطق الرجل وخطابه الذكوري هو المتسيد، لكن لا أحد يمكنه أن يعلن القطيعة مع المرأة مهما نفرت، أو جمحت، ففي مثل هذه الأحوال ينعكس الوضع تماما، وتتصاعد الآهات، ونوبات القلق، والنجوى :

" غيابك طال
وانا محسوب مع الأموات
إذا غبتي
مدام شمسك ماهيش طالعة
ولاعينيكي نجوم ساطعة
أعيش ازاي ؟ [45].

سنلاحظ معا هذا الريق الحلو يسري في النص، وتلك التداعيات اللفظية التي تنقل الصورة من مكان إلى آخر بسيمترية وانسجام، ولكن فيما يبدو علينا دائما أن نشير إلى أهمية أن يخلق الشاعر مناخات أخرى لنصه الشعري، وهو ما يستدعي شهادة ماجد يوسف حين يشير إلى أننا " كنا نشعر أن هذا الزلزال يبحث عن مكافئه المزلزل على مستوى الشعر، ذلك المكافيء الذي كان عليه أن يقلب الأرض من أعماقها، ويحرث التربة من جذورها ليقيم على أنقاض كل ذلك مداميكه الجديدة التي تخرج بالقصيدة العامية من دوائرها الصغيرة المحدودة المغلقة بالأغراض السابقة من غناء وتأمل وحكمة .. ألخ، إلى دوائر أخرى مفتوحة باستمرار على احتمالات واسعة وغير محددة أو محجمة سلفا " ( 15) . أرى أن في كل قصيدة جديدة مشروع للخروج من أسر المشترك والمكرور، وربما ما قد أعطى الإحساس بوجود مثل هذه النطاقات المتعانقة طبيعة اللغة التي تتعامل مع اليومي والمشاع، وهنا لابد أن يكون للشاعر اجتهاده كي ينفتح النص على احتمالات تشكيلية جديدة . أعجبني مثلا في هذا الديوان قوة الإحساس بالاغتراب النفسي، فهناك طريق حتما ستطرقه الأقدام، وثمة نوازع تضّيق الخناق على مصائرنا، ومع كل هذا توجد بحبوحة من المشاعر الدافئة، وهذا معناه أن النفس الشعبي الرقيق قد تسلل للنصوص بدون فذلكة أو تعقيدات مسبقة ومقصودة :

" مش عارف أقول لك أيه
وانا اقولك ليه؟
ما انا وانتي في واحد
وطريقنا ماهوش واحد
لكن .. لازم نمشيه
ملعونة الغربة الساكنة
ف جوايا وجواكي [46].

وهكذا، نشعرعبر قصائد الديوان أن مكابدات الحياة لا تقضي على الأمل، وهو ما يسري في زوايا النصوص، وتؤكده تلك الثنائيات التي تسم هذه النصوص، وأحب أن انوه هنا إلى اللوحة التشكيلية التي اختارها الشاعر لديوانه فهي تؤكد الملمح فكرة الجموح والانفلات نحو المطلق، وهي للفنان محمد السيد سليمان الذي سبق وأن ناقشنا ديوانه في نفس هذه الدراسة .

طلعت الهابط، وخبرة الحياة :

في مقدمته لمخطوط ديوان " دموع الناي " ( 16) يقدم الشاعر طلعت الهابط مقدمة موجزة توضح عقيدته الفنية، وفيها يقول " من المؤكد أن اللغة العامية تخاطب السواد الأعظم من شعبنا العربي، ومستقبلها في اقترابها من الفصحى، وهي انعكاس لعبقرية الوجدان المصري، قادرة على استيعاب الجديد الذي يسمح لنا بتصوير خوالج النفس البشرية . ولأنها رافد متدفق خادم للمعنى، كان هذا الديوان " دموع الناي" . عبرات تتساقط من ثقوب الوجع الإنساني تحمل في داخلها فضاء شعريا لديه القدرة على اصطياد الواقع عبر أبنية جمالية تكتنز شعرا، ولديها القدرة على التفاؤل في حيوية التربة وجدتها، وفي إحساس صادق وأمين " (مخطوط، " دموع الناي "، ص 5 ) . مثل هذه المقدمة تفتح أعيننا على مفهوم الشعر عند الهابط، والأمانة تقتضي مني أن أذكر أنني بعد تصفح قصائد المخطوط عثرت على نفس شعري جديد يتجاوز في الرؤية والتشكيل قصائده المنشورة في دواوين سابقة . لقد نضجت خبرة الشاعر، وتجاوز بإدراكه الجمالي التشكيل السابق الذي اعتمده، وترك لذاته التي حررها من أسر الخطاب المكرور العنان ليصف، ويتمرد، ويكون أكثر قربا من قضاياه التي حملت بصماته حيث تخفف من النبرة الزاعقة، ومن عبء الإحساس المادي بالواقع، وبدأ يطرح أبنية أكثر معاصرة وتحديثا، رغم أن الهم هو هو لم يتغير كثيرا :

" الليل قضبان
منفي وسجان
وعساكر صفرة بلون الموت
وعيال اتملح ريقها بطعم الدخان
وبنت بنوت
بفيونكة جميلة ونص لسان
والشارع زي طاحونة
تبلع ف جنون
علب الكرتون [47]

في هذا المقطع من القصيدة يتركز الإحساس العارم بالفجيعة، وقسوة العالم، وسنلمس تلك المراوحة بين القبضة القوية الباطشة، وبين ملاحة وجه البنت الصبوحة . هي مشاعر متناقضة، لكنها مصرية الرائحة والطعم والقسمات . بل أن هذه القصيدة تذكرني مثلا بأول نص لعبدالرحمن الأبنودي في ديوانه العلامة " الأرض والعيال " والذي قرأنا في طبعته الأولى الصادرة عن دار ابن عروس دراسة جيدة جدا للناقد الراحل سيد خميس حسب ما تسعفني به الذاكرة . ليست هناك مشابهة، ولكنني أشير لكثافة الشاعرية وعبق اللغة، وقد رأيت أن الهابط اقترب من مناطق التحريض رغم ما في صوره من طزاجة، وهذا ملمح ستيني يتردد في نص جميل :

" الشمس جاية تعبّي جيبي بارود
وتقولي يابني لك نسب وجدود
ارم الحجر تفتح بلاد وحدود
أما المعارك خضها لاتهتم [48]

ينفتح الخطاب الشعري على ايحاءات جسورة للمقاومة، ونعثر من خلال الترديد الإيقاعي على تداعيات ذلك الموقف الصلب . إن الاغتراب لا ينتفي لكنه لا يبدو مسيطرا على المشهد بل هو في حالة انحسار تدريجي يعبر عنه الشاعر بقوة خطابه حين يستحضر الماضي فكأن له قوة المضارع :

" كان قمحنا إن طاب تـدَّلى
وأرضنا مصلى
الفجر يغسل عنيه بالحنين
أبويا يشكر المولى
وإحنا العيال الطيبين
لا قوة ولا حولى
ورد المسا يفتح
الأرض بقعة نور [49] .

بنية شعرية تمثل تلك الحقائق الأساسية في الحياة مع مشاعر الكاتب الذي يبدو في طريقه للاغتراف من حكمة الشارع بعد أن عاش منخرطا في حركته . هنا يتأمل كل الأحداث ويستعيد النهج القديم ليفسر الآني، قد نرصد التحويلات الدلالية في النص وهي تؤكد أن الاغتراب لم يعد منفصلا أبدا عن ضفيرة معرفية تؤسس لإمكانية الانفلات من قبضة الليل الرجيم . في قصيدة يهديها لصديقنا القاص أحمد ماضي يقترب تماما من تخوم الإدراك الكلي لحالة الوطن الأكبر الممتد من المحيط إلى الخليج، فالقهر نفسه يتأكد خارجيا أو داخليا، والانسان هو من يدفع الثمن : " مهموم بأحزاني

ودخاني
ولون الورد متفحم بأوطاني
شبابيك قلق متكسرة
م القاهرة تغضب
من نخل العراق
من دمع الفرات الـمـُـر
من صبر العطاشى ع الصدر
النحاس
من قبضة الحراس [50] .

يعود بنا النص إلى ما في فضاء العمل من جوانب أسلوبية، فكل انحراف عن المعدل في اللغة يعكس انحرافا في جوانب أخرى تمس صلب الخطاب الفكري وتجلياته الممكنة . وقد يظهر كل نمط كتابي عبر أشكال إيجابية وأخرى سلبية ؛ فالصورة تتشكل عبر مهاد تخييلي لكنها بالقطع تنطلق من نقطة واقعية . الورد هو ترميز لعبق لطيف فتان، بإضافة الوصف يكون التفحم هنا مصدرا لإحساس بالعبث، ولم لا والشبابيك نفسها تعيش القلق، وحين تعاود الإطلالة تجد نزعة الحزن تصل ما بين النيل والفرات أو بالأصح بين القاهرة وبغداد . هنا يواصل الشاعر ثورته المبررة من قضية العراق على مشهد التضحية في فلسطين، ومن أجمل ما قرأت في هذه الدواوين مقولة الغناء بقلب حزين . تلك الحالة من الوجد والانجذاب للوطن لا تعني أن يتوقف الإنشاد،بل يستمر ويتصاعد، لكنه إنشاد له طعم مالح، فكأن القضية تحمل الشيء ونقيضه . وهو جدل تصويري مبني على خبرة الحياة ومشوار طويل مع الشعرالملتزم :

"ويا قدس النبوات
وياعطش السموات
ما بين الجي والرايح
يخضر حلمنا المالح
ونطلع م المداين نور [51] .

كل قصيدة تحمل تلك الهواجس عن الوطن، وعن العثرات وثمة ثوابت تتحكم في هيكل البناء اللغوي الذي يشكل المشهد بطلاقة وتأثير كبيرين . هناك ملمح آخر يخص النسغ الحي الحزين الذي يقاوم بطريقته. إنه موجود هنا بكثافة . نقوم بعملية تأويل للرموز، ونبحث في العلاقات عن المعنى ونشعر بتلك القلقلة الوجودية التي تسري تحت السطح، فحين تكون للشاعر تلك البصيرة الشعرية يكون مهيئا كي يكتشف المزيد من العلاقات السرية في الحياة :

" كل ما اشوف الضلمة
عنيه تموت في النور
ولا تسأليشي
عصفور
بينام على صوت الطلقة
ولا يحزنشي
لو هدموا عليه عشه المسحور [52]

ثم تترقرق الكلمات بعذوبة من اكتشف المعاني الكامنة في تراتبية الأشياء في سمتها الواقعي، وفي بعدها التخييلي ليشكل معنى جديرا بالتأمل :

" كل ما اشوف الضلمة
عنيه تموت في النور
وأنا وأنت
جنب السور
بنستنى طلعة شمس
تغسل بقع الدم المنقوشة
ع الفستان الكستور [53]

حتى بتفصيلات الشاعر وذكره الفستان الكستور هو انحياز إلى شرائح الفقراء والمهمشين بدون أن يذكرهم بالاسم . ولاشك أن هذا السور يظهر بقوة في أغلب قصائد طلعت الهابط ونجده سور يمنع اللقاء،وهناك " ديك " يطلع من صرة الحكايات يصعد في إيقاع شيق ومتوازن، ليمنح القصيدة شعبيتها مع وجود المسحراتي وهو قاسم مشترك أعظم في كل دواوين العامية المصرية خاصة بعد ترديده القوي على " بازة " العم فؤاد حداد، والحواريون يواصلون الدق بلا لحظة سكوت:

" يا مسحراتي والليالي بدور
متكحلة جنب عمدان نور
الطبلة هبلة بتكشف المستور
في كل ليلة نفتح الشبابيك
وينده ديك
ولاكنش بينا وبينك سور
واتكسر البنور [54]

تشكل خبرة الحياة العمق الكامن في النص ؛ فهو يتأمل ويلتقط البعد القصي في النص، وتعمل أنساق معرفية في ملامسة الغياب المؤثر لفجر تأخر لعقود طويلة، ولقد رأينا الديك يطل ليظلل المشهد ويقترح حلا افتراضيا . وقد عاد الشاعر إلى منطقة مشتركة للحزن تضم كل الأجيال وتمثل بكائية متوارثة في شعر العامية المصرية لكأنه مقترح لتوصيف الوطن وعلاقتنا به :

" تعريني
وتكشف عورة الأيام
وبحة صوتك الباقية
توزعها على الثكلى وع الأيتام
وتدارى ورا ضلي
شجر ناشف [55] .

وكلما أوغلنا في قصائد طلعت الهابط عثرنا على مفاتيح مختلفة للولوج إلى منطقته الثرية بأخيلة طازجة، ولغة مدهشة، وخبرة ناضجة بالحياة والناس، والمقدر والمكتوب .

السعيد دياب، والسخرية المرة :

رأيت أن أختم تلك الباقة المتنوعة من الزهور الشعرية بزنبقة بيضاء، ولا أريد أن أمضي وقتا طويلا في تقديم فروض نظرية لشاعر يقدم نصا مغايرا فيه خفة الدم والسخرية المريرة . الشاعر هو السعيد دياب، وسأبدأ بآخر قصيدة ضمها الديوان ( 17) لأفحص معكم طرائق الآداء الفني للنص :

" الهموش بيدنسوا عني الحكاوي
الهموش بيخطوا فوق نفس الخطاوي
الهموش ما يعرفوش
إن كروان الغلابة سكن القلوب
قبل العشوش [56] .

الهموش هو العائق، سبب المهانة والانحطاط، وسر تعاسة الأمة كما يصوره الشاعر، وهو في تقصي أسباب انتشارهم يؤكد على فرصتهم في البقاء لأنهم سبب خراب كل شيء في الوطن . مما يجعله يجأر بالشكوى : لم يستأثر كل غريب بخيرك وابنك يبدو بعيدا عن خيرك . هي شكوى تنتقل من عهد الأسرات الفرعونية مع الفلاح الفصيح حتى اليوم بلا تعديلات أساسية تذكر في عمود الحكي :

" زحمة الشوارع يا حسن
قال الشوارع موت
الخلق طافحة الكوتة
وحلمها مكبوت
وانا زي ضل النخل
بفرد ع الجناين والسواقي [57].

انتهاك للخصوصية مع تلك الشوارع المزدحمة، وهنا تتصاعد رنة الأسى وتتخلق صورة النخل الذي يفرد ظله على البيوت والمدينة كلها . الشعور بالاغتراب يتنامى كلما رأى الشاعر الغريب ينهب خير أرضه المستباحة فيختنق بشعور يتزايد بمدى قوة الظلم والإجحاف.
ومن القصائد الهامسة التي أعجبتني ودس فيها الشاعر شيئا من سحر اللغة وبساطة التراكيب اللغوية، فيما شحنها بطاقات خلاقة ما سنذكره حالا عن " الشتا " ذلك الفصل المثير للشجن والحزن النبيل :

" الشتا
والحكاية لسه وردة منبتة
والشوارع والرصيف والريح وانا
وإيدك في أيدي متبتة
واسمعي
لو هتبعدنا الشوارع
أرجعي [58] .

تيمة الانقسام بين الحب المستحيل والصقيع الذي تبعثه برودة الشوارع يورق شعرا حسنا، وليس من شك أن المنظور التأملي لهذا الحب يؤكد أنه من الممكن أن يبقى، وهو ما يتبلور في نصوص تتأرجح ما بين احتمالات الفشل وضروب النجاح، فيما نكتشف روعة التصوير الفني لإحساس فريد بالانطلاق والقدرة على التحليق . بيد أن المهم، هنا، هو قدرة البطل على رصف مشاعره ببساطة آسرة متجاوزا كل العقبات المعهودة :

" الليل وقلبي وبكرة وشوية حاجات
والريح بتبدر في الفضا شعور البنات
وانتي وانا تحت الشحر
قاعدين بنرسم ع التراب قلبين صغار [59]

وفي مستو ثان من المشاعر قد نكتشف نوعا من المخاتلة أو الخداع، فالحب لا يستقيم دائما، فهناك منحنيات للغربة والافتراق، ومتعرجات للضياع :

" في الصبح واقف تحت شباكك أنا
وبتحدفي ع الأرض وردة حبنا
بس ياخسارة
ضهري مرضاش يتحنا [60]

قلنا أن السخرية المرة تندس في زوايا المشهد الشعري، وثمة جرأة في التناول، وموضوعات لم تكن مطروقة بدأ سن القلم في مسها بقدر من الشفافية والنصاعة، كما في" باسبور " وهو جواز مرور للعالم الخارجي، لكنه عتبة الغربة نحو " برة مصر " لذلك ستفيض الأبيات بالسخرية الدامية :

" لساني مش قادر افتكر
غير وش بيشق الزحام والعتمة والناس الكتير
عمال بيضحك ويناديني
أيوه صحيح
أنا كنت واقف من بعيد
وسمعته بيعيد النشيد
نفس النشيد
إحنا ابتدينا مرحلة .. استحملوا [61] .

يلتفت الشاعر لمناطق كثيرة في حياتنا يعريها بهذا القدر من الوضوح واللماحية التي أعتبرها بعدا أساسيا في قصيدة العامية فقد كان صلاح جاهين لا يرص حروفا ويشكل صورا فقط لكنه كان يبحث عن حقائق الوجود، وحكمة الحياة وهو ما يشكل رؤية المبدع الخلاق . شدتني قصيدة جميلة في الديوان شعرت أن الشاعر كتبها بدمه، وبلمسة صادقة حينما يودع الشهيد :

" النعش فايت والبلد خلفه
الناس بحالها وراه
ولوحدي أنا مخالفة
والحزن ماشي في البلد طايح
يابو النجوم والنسر فين رايح
جوه التابوت محطوط ولفينك
شايلين مصيرنا ولا شايلينك [62] .

إن هذه اللغة الغنائية التي تقترب من " العدودة " المصرية تعني وجودا حيا وراء الموت، لذا تتعانق الأصوات لحظة توديع النعش فتترقرق الدموع وتشف القلوب عن أحزان أبدية لها طابع جنائزي متوارث . هكذا تتولد المشاعر الدافئة لهؤلاء الناس : ملح الأرض، وهم يقاومون الاغتراب، ويدسون جذرهم في قلب التربة المصرية . لقد كان الخطاب أعمق من اللمحة السطحية فهو يدنو من أسرار الخلق الشعري وهذا مستوى تال من مستويات اللغة الباطنية يتكرر لدى السعيد دياب :

" اتفرفطي زي الشجر
.. م بيرمي ورقه في الخريف
اتفرفطي زي المطر لما بيفلت م السحاب
ومدي جدرك في الزمن مش في التراب
علشان ماحدش يقلعك [63] .

هل يمكننا القول أن الفرس او المهر أو الحصان كلها مسميات لحالة الجموح التي نجدها لدى أغلب شعراء كفر الشيخ الذين عالجنا نصوصهم، وهو اختيار ينحو باتجاه الترميز لحالة الجموح والانطلاق، لكننا في نصنا الأخير هذا نشعر بنبرة لوم حين ينفرط شيء جميل وضروري في حياتنا، وما رقة القلب ورهافة المشاعر غير عتبة أصيلة وضرورية لحالة التوحد التي يشير إليها النص . ثمة عنصر معرفي حين يتعلق الأمر بحالة انقسام جلي وبين في داخل المشهد الواحد فالزمن يقف ليلتقط الجذور ويدسها في التربة . وثمة مهر جموح هو القلب الذي يرفض أن يمتلكه من ليس جديرا به . شبكة من الصور المتداخلة والعلاقات المتشابكة، فهل هي حالة جنون، أم أن العقل ينعكس جنونا كلما اقترب جدا من ملامسة كبد الحقيقة كما يقول "ميشيل فوكو"(18) مهرب المعرفة ؟

إن الجنون هنا هو حالة من حالات مفارقة الواقع رفضا واستهجانا، ولذا نرى الصورة حية وشجية مع وصفه لذلك المجنون الذي يستعيده حضورا بعد غياب، فهو تميمته التي يتحدى بها كل محاولات الإحباط والإنكسار :

" كنت اشوفه
يخبي عصافير الكنارية بين هدومه
وتني تحكي له حكايات
وهو يحكيلها فى همومه
كات تملي بتسمعه
وهو كان دايما معافر
ياما حط وياما سافر [64].

إن التحول من نعمة العقل إلى أحوال الجنون ينطوي على رغبة في مخاصمة العالم، وقد يحدث هذا التحول الدراماتيكي قدرا من الارتباك على مستوى الواقع لكنه مبرر فنيا وتخييليا ؛ ففي أحيان كثيرة نكون بحاجة إلى مثل هذا الجنون كي نقوم بأفعال نعجز عنها ونحن مقيدين برطانة الواقع، وبقيوده التي تمنعنا من الحركة، وتحبسنا عن إطلاق الفكرة . ولاشك أن الفكرة الناصعة دائما هي بداية الحركة الصحيحة المباركة .

هوامش :

( 1) محسن الخياط : شاعر عامية من اليسار المصري، كتب بعض الأغنيات الهامة فترة النكسة وحرب الاستنزاف،وحرب أكتوبر، وغنى له عبد الحليم حافظ أغنيات منها " لفي البلاد يا صبية " و" سكت الكلام والبندقية اتكلمت " وغيرها، وكان يحرر باب " أدباء الأقاليم بصحيفة الجمهورية، وهو نفس الباب الذي يحرره حاليا يسري السيد .

( 2) أحمد سماحة، مراية النار، الفرسان للنشر والتوزيع، القاهرة، 1994 . ويتكون الديوان من 11 قصيدة .

( 3)أنظر موقع " أخبار ليبيا " على هذا الرابط :

http://www.libya-watanona.com/adab/essa/ea04026a.htm

( 4) قدم الشاعر ثمان قصائد للبحث في مخطوط، وهو الذي سنلجأ إليه في هذه الدراسة .

( 5) د. محمد فكري الجزار، البناء المونولوجي وانشطار الذات، فصول، العدد 58، القاهرة، شتاء 2002 .

( 6) بين أيدينا ديوان " فضفضات النعناع " سلسلة إشراقات، العدد 3، فرع ثقافة كفر الشيخ، 2003، و" المخاض " ديوان شعر، صدر بطبعة محدودة على نفقة المؤلف، 1999، ومخطوط لم ينشر بعد يضم ست قصائد .

( 7) أمجد ريان، تجربة التسعينيات في الشعر المصري، الفعل الشعري، القاهرة، مارس 1994، ص 3.

( 8) عبد الوهاب الشرقاوي، ورد البداية، دار بلال للطباعة والنشر، 2006.

( 9) رولان بارت، لذة النص، ترجمة فؤاد صفا والحسين سبحاز، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1988، ص 21 .

( 10) جاستون باشلار، جدلية الزمن، ترجمة خليل احمد خليل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982، ص 175.

( 11) محمد علي غالي، فتافيت فرح،مطبعة أولاد ابوشحاتة، سنة 2005.

( 12) محمد السيد سليمان، دقة على باب شرنقة، دار بلال للطباعة والنشر، ط1، القاهرة، يوليو 2005.

( 13) ماجد يوسف، ملاحظات حول شعر العامية في مصر ( مقال )، أبحاث مؤتمر الفيوم الأدبي الخامس، ص 16.

( 14) حسن المنطاوي، فارس وفرسة، دار بلال للطباعة والنشر، ط1، القاهرة، مايو 2005

( 15) ماجد يوسف، ملاحظات حول شعر العامية في مصر، مصدر سابق، ص 17.

( 16) قدم لنا طلعت الهابط ديوانا مخطوطاهو " دموع الناي " يقع في 184 صفحة، كما قدم لنا ديوانا مطبوعا هو " دواير " سلسلة إبداعات إشراقة، العدد 9، يناير 2000، وأجدني ميالا أكثر لمناقشة قصائد المخطوط الأحدث كتابة.

( 17) السعيد دياب، المجنون، مديرية ثقافة كفر الشيخ، ط1، كفر الشيخ، 2001.

( 18) ميشيل فوكو : مفكر فرنسي يمكن تلخيص فكر ه بأنه يتركز في إعلانه الخطير عن” موت الانسان “، فهو يقول في كتابه المعروف” الكلمات والأشياء “:إن الإنسان اختراع حديث العهد، صورة لايتجاوز عمرها مئتي سنة، إنه مجرد انعطاف في معرفتنا وسيختفي عندما تتخذ المعرفة شكلاً اخر جديداً. وقد اعتبر الجنون انعكاسا للعقل الغربي .

بقلم: سمير الفيل

[1مخطوط، ق" إلى النهر الوطن حدد مداك

[2المخطوط، ق" إلى النهر الوطن حدد مداك

[3المخطوط، ق للنخل شأن آخر

[4مخطوط، ق" للنخل شأن آخر

[5( مخطوط، ق" للنخل شأن آخر

[6المخطوط، ق - موال بحلق الملح

[7المخطوط، ق طير يمامك ياوطن

[8المخطوط، ق طير يمامك ياوطن

[9المخطوط، ق " الجرح لم يندمل

[10المخطوط، ق الجرح لم يندمل

[11المخطوط، ق السفر للمستحيل

[12المخطوط، ق السفر للمستحيل

[13فضفضات النعناع، ق محلاها ريحة النعناع ، ص 45

[14فضفضات النعناع، ق محلاها ريحة النعناع ، ص 48

[15فضفضات النعناع، ق " اكتشاف "، ص

[16فضفضات النعناع، ق " اكتشاف "، ص 29

[17ديوان المخاض،قٌ "المخاض" ص40

[18ديوان المخاض، ق " المخاض "، ص40

[19مخطوط، ق" الشقة من حق القاضي

[20مخطوط، ق" الشقة من حق القاضي

[21مخطوط، ق" الشقة من حق القاضي

[22المخطوط، ق " معانداني

[23ورد البداية، ق" عتاب "، ص 11

[24الديوان، ق " الرحلة "، ص 17

[25الديوان، ق " الرحلة "، ص 18

[26الديوان، ق " الرحلة "، ص 19

[27الديوان، ق " يوم القيامة "، ص 22

[28ورد البداية، ق" ليه؟ "، 69ـ 70

[29ورد البداية، " حورية "، ص 113

[30فتافيت فرح، ق " فتافيت فرح "، ص 52

[31فتافيت فرح، ق " فتافيت فرح "، ص 55

[32فتافيت فرح، ق " انتماء "، ص 17

[33فتافيت فرح، ق " إشارات "، ص 24

[34فتافيت فرح، ق" نور فوانيسك "، ص 10

[35فتافيت فرح، ق نور فوانيسك ، ص 11

[36دقة على باب شرنقة، ق" دقة على باب شرنقة "، ص 55

[37دقة على باب شرنقة، ق" عاشق "، ص16

[38دقة على باب شرنقة، ق" الدرويش "، ص64

[39دقة على باب شرنقة، ق" الدرويش "، ص65

[40فارس وفرسة، ق " يا وطن "، ص 34

[41فارس وفرسة، ق " يا وطن "، ص 36 ـ ص 37

[42فارس وفرسة، ق حلم ، ص 47

[43فارس وفرسة، ق " المرجيحة "، ص 87

[44فارس وفرسة، ق " فارس وفرسة "، ص 49

[45فارس وفرسة، ق " الآهات "، ص 68

[46فارس وفرسة، ق " أربع حتات "، ص 79

[47المخطوط، ق عروستي ، ص 102

[48المخطوط، ق " عطشان لصوتك "، ص 106

[49المخطوط، ق " الرحلة "، ص 10

[50المخطوط، ق " شايفك "، ص 24

[51المخطوط، ق " المجد لله "، ص 30

[52المخطوط، ق حطب النار "، ص 36

[53المخطوط، ق حطب النار "، ص 37

[54المخطوط، ق " يا عم مكاوي "، ص 39

[55المخطوطة، ق" العشم في وجه الله "، ص 137

[56المجنون، ق" الهموش "، ص 71

[57المجنون، ق " الحل "، ص 62

[58المجنون، ق " الشتا "، ص 55

[59المجنون، ق " عصفور انا "، ص 53

[60المجنون، ق " غرور "، ص 49

[61المجنون، " باسبور "، ص 37

[62المجنون، " الشهيد "، ص 24

[63المجنون، ق " اتفرفطي "، ص 20

[64المجنون، ق " المجنون "، ص16


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى