الثلاثاء ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم مازن رفاعي

الـغـد يـوم آخــر

تتململ في سريرها، وتكشف عيناها ربيعا أخضر. ترنو إليه بنظرة مختلسة وهو يلهث ممارسا رياضته الصباحية. تقع عيناه على وجهها المتواري خلف الوسادة فيتذكر مشاجرة الأمس. كم كان غاضبا في الأمس؟ لم يعرف مثل هذا الغضب منذ بداية تعارفهما.

عرفها حين كانت وردة تبدأ بالتفتح. لم يقطفها ويرميها، بل حضنها ورعاها، وحاول أن يكيفها مع مفاهيمه، وينشئها في محيطه. حيويتها، رقتها، انطلاقتها، حريتها، كانت كنوزا يتمنى لو حازها. في لقائهما الأول أعادته عيناها لقريته الجبلية البعيدة. وحين انسابت نظراته كشلال على قدها الروماني، قفزت خيالاته إلى لاعبة الجمباز ناديا كومانتشي.

إحساسه بدقات قلبه المتسارعة زادت من الحمرة التي هاجمت وجهه في حديثهما الأول الذي دار بينهما بجميع اللغات، وكان اكثرها تمكنا لغة الإشارة. ويذكر أنها حين سألته مبتسمة بدلال

"هل أنت عربي؟" أجابها بفخر وزهو تلك الأيام: "نعــــــــــم."

تعددت لقاءاتهما، ونمت الألفة، وتراكمت المودة. علمته اللغة، الطرق والشوارع، العادات والتقاليد. أعجبها صدقه، صراحته، رقة عواطفه، ثقافته وكرمه. وأعجب برقتها، وأنوثتها، ثقتها بنفسها وجمالها. أثمرت علاقتهما عن سامر. وقبل الثورة بأيام تزوجا ورزقا بسارة.

في مسيرة حياته واتته الكثير من الفرص للكسب اختار أفضلها و أنظفها، وكون ثروة نظيفة يفخر بها. رفض الكثير من المكاسب بسبب قوانين تعلم أن يحترمها، ومبادئ نشأ وتربى عليها، لم يصبح من أصحاب الثروات الهائلة.

تبدلت الحياة اليوم، وانقلب الكثير من مفاهيم الأمس، حتى هي لم تعد تلك الطفلة التي كان يلعب معها. يفهم جدلية التاريخ وحركته، ويعلم أن تفكيره ديناميكي يقبل بسهولة المستحدثات، ولكن مالا يستطيع فهمه هو لماذا تتحول المكتبة من غرفة الجلوس إلى غرفة المؤونة، وتهمل موسيقى بيتهوفن وموتزارت ليحل مكانها موسيقى إلكترونية خالية من الحياة.

ولا يعلم لماذا اشتاقت إليهما دار الأوبرا، وكذلك مسرح المدينة وحدائقها. لماذا تحولت علاقاتها الاجتماعية إلى مصالح مادية؟، وغاب رفاق الفكر واستبدلوا برفاق العمل. في هذه الأيام يستعيد غربته تدريجيا بعد أن فقدها منذ سنوات. هل فقد قدرته على التأقلم بسبب العمر؟ آم أن السبب هذه البلاد التي نفضت عن نفسها غبار الأمس وانطلقت مبحرة في سباق ماكيافيللي محموم؟

في الأمس كان يجلس في منصة الادعاء موزعا الاتهامات بمخالفة الأعراف والقوانين، واليوم يجلس في قفص الاتهام بتهم الانتماء، وعدم مجاراة العصر، وعدم تفهم الواقع، يحاكمه أعمدة مجتمع اليوم الذين أدانهم في الأمس.

كل هذا لم يرعبه، ولكن ما يخشاه هو وصول هذه المفاهيم إلى أولاده. يريد لسامر أن يكون عالما أو مبرمجا، والمادة تأتي لاحقا. والدته تريده أن يكون تاجرا يشتري ما يشاء من ألقاب ومناصب. أخبرها عدة مرات أن قوانين الغاب غير صالحة لتربية أولاده لأنها قوانين خاطئة.
أجابته
"أن يفترس النمر غزالا ليس عملا وحشيا، فهو إن لم يفعل مات من الجوع."

وحين اعلمها أن هنالك قوانين إنسانية متحضرة، أخبرته ما يطنطن به دائما جارهم المتنفذ، "القوانين كالحائط يمر الصغار من تحتها ويقفز الكبار من فوقها ويصطدم الحمقى بها."

كل هذه الأمور تتراكم قطرة قطرة في وعاء صبره. وما حدث في الأمس كان القطرة التي ملأت الكأس، فانسكب غضبه على سارة التي عادت متأخرة من حفل ميلاد صديقتها، وخاصة حين علم أن صديقها في الصف هو الذي أوصلها.

تدخلت هي مدافعة عن تصرفات ابنتها متهمة إياه بالتعصب والسلفية، فبادلها الاتهامات بالانحلال الخلقي للمجتمع والفساد، فأجابته بأن الإنسان الذكي يتكيف مع بيئته. صمت الجميع بعد أن ارتفع صوته مهددا متوعدا، سابا لاعنا، وحين دلف إلى غرفته استرجع اتزانه، وجلس متسائلا: "ما الحل؟ هل يغترب ثانية إلى بلده الأم، أم يقبل أن يتغير نحو الأسوأ؟" معادلة صعبة، وقرار أصعب لا يزال يعتمل في مخيلته حتى اليوم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى