السبت ٨ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم مصدق بن علي الجليدي

هل يطمئن العقل إلى ما اطمئن إليه قلب الطالبي

قراءة في كتاب (ليطمئن قلبي) لمحمد الطالبي

توطئة

الباعث على كتابة هذه الورقة أمور عدّة، من بينها:

أوّلا - استئناف التقليد المحمود في الاحتفاء بمنتجات الفكر والثقافة2، وخاصة الجادّة منها، والإسهام الإيجابي في الحوار الساخن الواقع في دائرة الإسلاميات، والمنتشر اليوم عالميا، وهو يهمّنا هنا أكثر لأنه صادر من ديارنا التونسية3، وتونس كانت دائما منبعا من منابع الفكر التنويري ( خير الدين، الطاهر بن عاشور ونجله الفاضل، الطاهر الحداد، سالم بو حاجب...الخ)4.

ثانيا - إن القراءات التي قام بها بعض الصحفيين الورقيين أو الرقميين والصادرة إلى حدود هذه اللحظة لم توف الكتاب حقه من القراءة والنقد والتقويم. فقد جاء بعضها سريعا برقيا، والبعض الآخر مجتزئا وانتقائيا، وهو ما سنحاول تلافيه هنا.

خطة هذه الورقة تتمثل في تقسيمها إلى جزءين: في الجزء الأول سنقدّم الكتاب من نواحي مختلفة مع التعليق عليها، وفي الجزء الثاني سنناقش الكاتب في بعض القضايا التي تبقى مفتوحة ولنا فيها آراء نخالف بها أحيانا ما ذهب إليه.

تقديم الكتاب:

يشتمل هذا التقديم على ثلاث جوانب متعلقة بكتاب "ليطمئن قلبي": رهاناته، وخطته ومحتوياته، ومنهجه وأسلوبه.

بالنسبة للناحية المادية، نشير سريعا إلى وقوعه في 294 صفحة من الحجم المتوسط ، الطبعة محترمة (سراس للنشر)، وإن اشتملت على بعض الأخطاء المطبعية، خاصة في مستوى رسم الظاء، التي كانت كثيرا ما ترسم ضادا.

رهانات الكتاب

الرهانات الرئيسية لهذا الكتاب تظهر بوضوح منذ صفحة الغلاف )التي تتضمن صورة كبيرة لوجه المؤلف وأمارات الحزم والعزم بادية عليه(:

-الرد على من سمّاهم الطالبي بالانسلاخسلاميين 5.

والردّ على " قداسة البابا بنوان 16: الهجوم المعاكس لدفع تهمة العنف واللاعقلانية عن الإسلام (خطاب الحبر الأعظم بجامعة راتسبون بألمانيا في 12 سبتمبر 2006).
غير أن ما لا يظهر إلا بقراءة النصّ نفسه هو أمور ثلاثة:

 تنبيه "الغافلين" من القرّاء "المسلمين" إلى القناع الذي يحمله الانسلاخسلاميون ليخفوا عدم اقتناعهم الجوهري بعقيدة الإسلام وبقدسية الكتاب المؤسس له (القرآن الكريم) وتحالفهم الموضوعي مع الاستشراق المسيحي المتحامل على الإسلام والقرآن والرسول.
 الإدلاء بشهادة عن تجربة المؤلف الروحية والفكرية، أو بطريقة أخرى تبرير الخيار العقدي الديني له6، مع الحرص على التمايز الكامل عن أطروحات السلفيين الساذجة. أي ما عبرنا عنه سابقا «بتحويل ما استقرّ في الروح والوجدان بعبارات الزمان إلى العقل والفهم بعبارات المكان» (بحسب السجل البرغسوني)7.
 تعديل بعض المواقف والأفكار التي كان الطالبي قد اتخذها منذ سنة 1972 حول المسيحية والحوار الإسلامي-المسيحي.

هذه هي إذن رهانات الكتاب التي يمكن تلخيصها في الفكرة التالية: محاولة إثبات نسبية الخطاب العلماني الراديكالي وأن خيار اللاإيمان لا يرجح عقلا خيار الإيمان (هذا باتجاه خصوم الداخل)، وإثبات بطلان دعوى تفوّق المسيحية8 في "إحسانها ومحبتها" (المشكوك فيهما أصلا) على إحسان ومحبة الإسلام القرآني (وهذا باتجاه خصوم الخارج): وفي كلمة استعادة الإسلام القرآني زمام المبادرة وتأكيد أن «مستقبلنا [هو دائما] بيدنا» (ص. 290).

خطة الكتاب وأهمّ الأفكار الواردة به

لإنجاز هذه المهمات اعتمد الشيخ /الأستاذ الطالبي خطة تضمّنت، بعد التوطئة، إحدى عشر فصلا (وخاتمة)، مستأنفا عمل الفكر الإسلامي، عن حق، من حيث انتهى إليه الفكر الخلدوني مؤسس العلوم الإنسانية الأول.

بعد تقديم معادلة «الإيمان بالحداثة والتقدم والتساؤل في نور الله» (من ص. 28 إلى ص.32)، يشن الشيخ/الأستاذ هجوما كاسحا على الانسلاخسلامية (متمثلة في أساتذة الفكر الإسلامي عبد المجيد الشرفي ومحمد أركون ومالك شبال و تلامذتهم)، داعيا ممثليها (وخاصة التونسي عبد المجيد الشرفي والقبائلي محمد أركون) إلى رفع القناع والتزام النزاهة العلمية والأخلاقية والكف عن استبلاه ومغالطة القراء المسلمين خاصة، بدعوى التكلم باسم الإسلام، في الوقت الذي يستبطنون فيه القطع مع أسسه الرئيسية وأولها القرآن الكريم9، وذلك من خلال إعلانهم « التنظير إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم رجل حَسَبَ، صادقا، تخميرتَه وحيا وقرآنا[وما هو بزعمهم كذلك] »(ص.45)، و« التنظير للوحي كحالة سيكولوجية لاشعورية برز فيها ما تخمّر في دماغ محمّد»(ص.47)، و« التنظير لعدم بلوغ القرآن إلينا»(ص.48)، و«التنظير للقرآن الذي بلغنا كمدوّنة »(ص.49)، و«التنظير إلى أننا فقدنا المؤهلات لفهم القرآن على وجهه»(ص. 50)، و«التنظير إلى أن القرآن ليس بكتاب» (ص. 51)، و« التنظير إلى الانسلاخ من طقوسية العبادات أو إلى تغييرها»(ص. 67 وص، 72)، و« التنظير إلى أن الدين مأسسة» (ص. 70)، وأخيرا إلى «غلق باب النبوة ودسّ المفتاح تحت الباب أو أن روح الرسالة المحمدية هي الخروج منها» (ص. 77). و« بيت القصيد: التعاون مع المسيحية لتقويض القرآن[وبعبارة أخرى، توفير] الأرضية العقلانية لكلّ أنواع الانسلاخسلامية»(ص.85).

يناقش الشيخ/الأستاذ كل هذه القضايا التي أثارها الانسلاخسلاميون (وخصوصا عبد المجيد الشرفي) ويتساءل إن كانت أطروحاتهم هذه مبنية على سفسطة أم على جهل!

ويؤكّد «إنّ القضية ليست قضية صداقات أو مجاملات. الصداقات تبقى، وكذلك المجاملات في حينها، وهي أساس الأخوة البشرية عموما، والمعاملات الاجتماعية. إنّما القضية قضية توضيح الرؤية، وترك الأقنعة والتستّر. الانسلاخسلاميون يتقنعون بقناع الإسلام ويخادعون، وحيث ليس ذلك فضيلة، من واجبنا خلع القناع عن وجوههم، حتى نتصرّف معهم بكل أخوّة وعن كامل بصيرة، وحتى نجنب أهل القبلة الّذين يرفضون [ أي يرفض الانسلاخسلاميون] الانضمام إلى صفوفهم تدليسهم[ أي استغفالهم من قبل الانسلاخسلاميين] [...] فلولا أن المنسلخ عن الإسلام يستدرج ويغوي، لتركناه وشأنه. لكن عندما يصبح من «الغاوين» المغويين، يجب التنبيه إلى غوايته[...وفي الحقيقة] لا حاجة لهم في التقنّع والخداع، إذ الإسلام حرية»(ص.33-34).

و بعد أن صفّى الكاتب حساباته مع الانسلاخسلاميين التفت إلى مسألة ثانية، فيها ردٌّ مزدوج على اليهومسيحية ، وهي المتمثلة في قضية الشرّ في الديانات التوحيدية الثلاث10(ص. 97 إلى ص. 162). وخلاصة قول الطالبي في هذا، أن الإسلام، بخلاف اليهودية، لا يعتبر الأرض ملعونة وكرّاكة للإنسان وأن المرأة ليست الفاتنة المتسببة في الشرّ، وأنه بخلاف المسيحية، لا يحمّل البشرية مسؤولية الخطيئة الأصلية، ولا يرى موجبا لأي فداء من قبل المسيح أو غيره، بل يرى أن الله سخر السماوات والأرض إلى الإنسان وأن المرأة والجنس نعمة من الله له.

إثر ذلك، يلتفت الطالبي (فيلسوفا، هذه المرة) إلى قضية، من الواضح أنه يردّ من خلالها على الأطروحة العلمانية الراديكالية، بخصوصها، وهي قضية الإيمان، ليؤكد مرارا وتكرارا ومن خلال فتوحات العلم الحديث (الفيزياء الكوانطية والرياضيات المعاصرة) أن عهد اليقينيات قد ولى إلى غير رجعة: فـ« لا حتمية ولا يقينيات وإنما مشيئية ويقينية إيمانية»(ص. 163-ص. 200).

بقية الكتاب (حوالي تسعون صفحة) يسخرها الكاتب (كمختص في لاهوت الحوار) للردّ القوي والموثّق بغزارة على ادعاءات المسيحية (التي أسّسها بولس11، إثر ضربة شمس، ولا عيسى عليه السلام الذي عاش يهوديا ومات يهوديا: ص. 255) حول قيم المحبة والإحسان12 وحول نشأة العقيدة المسيحية وأخيرا حول صلب المسيح. وهنا يمكن للقارئ العربي أن يطلع على معلومات نادرة حول المسيحية وتاريخها، وأن يعدّل ربّما من بعض تصوراته أو معلوماته حول هذا الموضوع، إذ جاء فيه الطالبي بالجديد العجيب13، قياسا إلى الرواية المسيحية الرسمية المكرسة إلى حد الآن، وذلك تماشيا منه مع الأطروحة القرآنية حول عيسى النبي عليه السلام الذي فرّقه عن « يسوع الإله » وعن قائد ثورة اليهود المصلوب الذي «شبه لهم» بأنه المسيح، وكذلك باعتماد على آخر الأبحاث العالمية حول هذا الموضوع (كأبحاث إسرائيل نوهل وهربرت براون وجيرار موردلاّ...الخ)، وأخيرا بدراسته المعمقة والدقيقة للعهدين القديم والجديد في عدّة طبعات وترجمات، سيّما الترجمة الجماعية (تي-أو-بي).

وبتحليل الطالبي للنصوص المقدسة اليهودية والمسيحية يتوصل إلى أن المسيحية، على عكس الإسلام، مبنية على إنكار الحرية وعلى الإكراه في الدين وتبرير العنف14، نافيا في الآن نفسه دعوى وجود ما سمي بآية السيف في القرآن (التي تدعو في الحقيقة إلى عدم الاعتداء وإلى الدفاع عن النفس فقط: سورة البقر/190-194) ومشهّرا بـعمالة محمد أركون للأمريكان، الذي استند إلى هذه الدعوى الباطلة، ليبارك الغزو الأمريكي للعراق15، فيجازيه بوش بالسماح له إلقاء محاضرة في الكونغرس الأمريكي...

ولا يفوت الطالبي في هذا السياق وغيره أن ينوح باللائمة على السلفيين الذي هم قوم سذّج أهدوا لأعداء الأمة بكل حماقة مسوّغات لاتهامها بالجهل والتخلف والعنف، مبرّئا الإسلام منهم ومن سخفهم وإرهابهم.

هذه هي أهمّ أفكار الكتاب وخطته، وهي خلاصة لا تغني بالتأكيد عن قراءته.

بقي الآن أن نلتفت بالنقد والتقويم لمنهجه وأسلوبه وأفكاره.

منهج الكتاب وأسلوبه:

لقد اعتمد الطالبي أنواع الخطاب الثلاث المشهورة: السجالي (التقريظي/الازدرائي) والجدالي والبرهاني في آن واحد.

فيقول مثلا ضمن نوع الخطاب الأول (إزاء الصنف الأول من خصومه16): «همّنا إذن في أنفسنا. لا يهمّنا لا من يؤمن ولا من يكفر»(ص. 9)، وعل مرمى صفحتين ونصف: «قصدنا في هذا الكتاب أن نبين لِمَ لَمْ نقعْ فيما وقع فيه من انسلخ عن الإسلام، بعدما آتاه الله آياته»(ص. 12). كما يقول في معرض هجومه على خصومه الانسلاخسلاميين: «ليس التقنع اليوم من باب الحيطة المشروعة خوفا من الأذى. إنّما عدم الإفصاح عن الانسلاخ عن الإسلام صراحة، من باب الكيد المبيّت والتدليس المقصود، قصد نشر الانسلاخسلامية خلسة، بطرق التنويه والكذب والنفاق»(ص. 37).

أمّا عند مناقشته لعقائد المسيحية فهو يصف هذه الاعتقادات(بالعودة إلى الأناجيل التي التي يؤمنون بها والتي يعتبرها محرَّفة) بالخرافات ويصف الإله الذي يعبدونه (وفق الصورة التي تقدمها عنه تلك الأناجيل، كما قرأها الطالبي17) بكونه شرير (ص. 104) غدر بمريم واستغواها، حتى تسلم له نفسها، عندما وعدها كذبا بأنه« سيجعل من ابنها ملك اليهود، وعلى يده سيعيد لليهود، إلى الأبد مجدهم وعرش داوود عليه السلام! فخان الوعد، وسلّم ابنها إلى الصلب، وسلّم المعبد للتدمير، وسلّم اليهود إلى التذبيح والشتات»(ص. 220).

هذه نماذج قليلة مما طفح به كتاب الطالبي من أوصاف وأسلوب في الحطّ من قناعات خصومه (وهو يرى أنه لا يفعل أكثر من أن يصف ما هو بالفعل منحط في تلك القناعات).

بدءا، ليسمح لنا شيخنا بمؤاخذته على اعتماده أسلوب التنفيق (الاتهام بالنفاق) والشتم (الرمي بالكيد والتدليس والكذب) لزميله (وتلميذه الذي انقلب عليه) الأستاذ عبد المجيد الشرفي. حقا إن الشرفي يمكن أن يُعدّ، الحلقة الأضعف في سلسلة الباحثين المرموقين في مجال الإنسانيات بتونس( مقارنة بالأساتذة عبد الوهاب بوحديبة وأبو يعرب المرزوقي و هشام جعيط وفتحي التريكي مثلا)18، إذ أنه يبيح لنفسه (لا ندري، إن كان عن قصد أو عن غير قصد) ارتكاب شناعات علمية لا تليق بمن هم في موقعه19، ولا تنطلي على من لهم الحدّ الأدنى من الاطّلاع، خاصة في كتابه "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" (المترجم إلى الفرنسية من قبل الأب أندري فرّي)، ولكن الأستاذ الطالبي كان في غنى كامل عن تصنيف فكر الشرفي تصنيفا لا يقع بعبارات النقد العلمي والابستمولوجي، وكان عليه وله أن يصرف همّته إلى الكشف عما يراه تهافتا للتهافت فحسب.

أما بخصوص نقد العقائد المسيحية، وبغض النظر عن مدى الصحة العلمية لقراءة الطالبي للكتاب المقدّس، فإنه ليس من الحكمة التهجّم على معتقدات الآخرين بطريقة تشبه الشتم، والقرآن الكريم نفسه ينهى عن ذلك: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله، فيسبوا الله عدوا بغير علم»(الأنعام/ 108).

ولا شيء يمنع نقد أي كتاب من حيث المبدأ، ولو كان هذا الكتاب ينسب لنفسه العصمة والقداسة، وليس هناك في العلم محرّمات إلا انتهاك الروح العلمية نفسها أو كرامة الإنسان وحرمته. والنقد والنظر العقلي مطلوب في كال الأحوال وإلاّ لصدقنا أي دجّال يكتب لنا ما يشاء من الافتراءات، وهذا ما فعله العلماء والفلاسفة الغربيون أنفسهم مع كتبهم المقدسة قبل الطالبي، واعتُبِرَ ذلك من مفاخر فلسفة الأنوار، وكان من شعارات الثورة الفرنسية «أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قدّيس»، ولكن آداب الحوار مع الآخر يملي على المسلمين (و هم بطبيعة الحال شركاء لبقية الأمم في هذا العالم وفي إرثه الثقافي والعلمي، ومن حقهم القيام ببحوث علمية حول منجزات البشرية الثقافية والحضارية بأنواعها) القيام بذلك بطريقة خالية من التشنج وبطريقة تقنع كل ذي عقل سليم. وقد حاول الطالبي القيام بذلك، وحشد له عديد الشواهد والأدلة، ولكن منطق ردة الفعل (على خطاب البابا في راتسبون) طغى على أقواله في عديد المرّات.

- أما اعتماده أسلوب الجدال (علاوة على أسلوب السجال)، فيظهر في استشهاده المكثّف بالقرآن الكريم. وكوننا نعتبر الالتجاء إلى القرآن جدالا، فذلك لأنه هو الآخر نقل حتى وإن كان المؤمنون به يرونه حقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فخصومه بإمكانهم كذلك أن ينتزعوا آيات من سياقها ويؤولونها على غير ما يراه المؤمن بها، خاصة وأنه حمّال أوجه وبه عديد الآيات المتشابهات، كما يخبر هو ذاته عن نفسه:«هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات وأخر متشابهات» (آل عمران/7)، وينبه في نفس تلك الآية إلى إمكانية الاستغلال اللابريء لذلك من قبل المنكرين له: :«فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله».

وحتى إن تم الالتجاء إلى الجدال فيجب أن يكون ذلك بالتي هي أحسن:«ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن، إلاّ الذين ظلموا منهم»(العنكبوت/ 46). وقد يكون الطالبي معتبرا البابا بنوان 16 من الذين ظلموا منهم، وهو حقا من الذين ظلموا20، ولكنه (الطالبي) موضوعيا لا يوجه كلامه إلى البابا فقط، فإذا ما قرأه المسيحيون العرب أو المستشرقون، أو ترجم إلى لغات أخرى فسيثير حنق حتى من يعتبرهم أصدقاؤه من المسيحيين21، ويزيد من حقدهم على الإسلام والمسلمين. وهو يسلّي نفسه بأنه «لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم»(البقرة/120). ونحن لا نطلب رضاء الخصوم، بل يجب أن يسلموا معنا بضرورة الاحترام المتبادل. وهذا ما يدركه الطالبي جيدا الذي كتب كتاب "احترام راسخ"(بالفرنسية) ، ولكن يبدو هنا أنه قد ضاق ذرعا بتهجمات البابا بنوان 16، ففقد السيطرة على أعصابه. ليعلم الطالبي وغير الطالبي أن معاركنا مع الغرب الاستعماري والصهيونية لا تحسم بمجرّد سجالات وجدالات، بل بإثبات الذّات على كل الأصعدة، حتى لا يجد الآخر بدّا من الاعتراف بنا شركاء له على وجه هذه الأرض.

حقا، إن الصراع الفكري أمر مشروع وقانون معرفي وحقيقة واقعة، ويجب علينا ألا نقع ضحية مثالية ساذجة، ولكن لذلك الصراع قواعده التي لا يتصور أن يجهلها أمثال الباحث العريق محمد الطالبي (87 سنة).

ولكن حتى لا نظلم الرجل علينا أن ننوّه باجتهاده الكبير جدّا في اعتماد البرهان أسلوبا في الحجاج، فهو لم يدّخر وسعا في الاستدلال على صحة استنتاجاته بالعرض الأمين للنصوص التي مثلت موضوع نقده بتقريبها إلى القارئ العربي، خاصة تلك النصوص التي لم يتعوّد على دراستها، أعني النصوص اليهودية والمسيحية المقدسة، دون تعسّف في التأويل، مع المقارنة بين عديد الروايات والترجمات، والاستئناس باجتهادات وأبحاث علماء آخرين مسيحيين ويهود أمثال: جيرار موردلاّ وجيروم بريور(1999)، ريمون ّبرون (1997)، بيار-أنتوان برهايم (1996)، جاك لاكريار(1993)، إسرائيل خنوحل (2001) و هربارت برون (1979) وغيرهم كثير، ممن مارسوا النقد التاريخي الحرّ للروايات الرسمية عن الدين المسيحي والحوادث المتعلقة بنشأته وتطوره. وقد أظهر الطالبي باعا واسعا في معرفة دخائل الديانتين اليهودية والمسيحية وألمّ بتفاصيل لا تتاح إلا لمن أفنى السنين الطوال في دراستهما(على الأقل 35 سنة بالنسبة له، أي منذ أن كتب كتيبه الأول عن حوار الأديان، سنة 1972). كما أنه أثبت كونه قارئا من نوع ممتاز، مواكب لآخر فتوحات العلوم الفيزيائية والرياضية22 الابستمولوجية والأنطروبولوجية.

قد يقال إنه لم يفعل ذلك إلا ليبرر ما- بعديّا قناعاته، ربما يكون هذا الأمر صحيحا، لكنني أميل إلى القول بأنه قد وضع فرضيات وانطلق في مسيرة التثبت منها، فرجحت لديه على النحو الذي أبانه في كتابه.

والرأي عندنا (كما يقول القدامى) هو أنه لو اقتصر الأستاذ الطالبي على ما هو علمي بحت أو فلسفي بحت وتكلم فقط بلغة كونية لكان بحق مُسْهِما في إثراء رصيد الفكر العربي ولما لا العالمي بأطروحات جديرة بالاهتمام والتقدير. ولكنه للأسف آثر أن يخاطب الملّة فقط (الذين يعمرون مساجد الله أو يتمنون أن يتوب الله عليهم يوما، كما يقول) فأنتج خطابا فيه نوع من الوصاية23 والمشيخية، لا يقرأ فيقبل إلا من عدد محدود من الناس، باعتبار أن السلفيين ليسوا معه والعلمانيين الراديكاليين كذلك، وأن الوسطيين الداعين لعلمانية مؤمنة24 يشعرون بالحرج الشديد من النبرة السجالية القوية لخطابه. أما المسيحيون فحدّث ولا حرج. أي كأني بالطالبي قد نفض يده من كثير من خلق الله (مِتْمَلِّحْ من الكل25، كما نقول بلهجتنا الدارجة التونسية).

وبعد هذا العرض والتقويم الإجمالي لكتاب الطالبي الأخير، نمرّ إلى الجزء الثاني من هذا المقال، وفيه نناقش الكتاب في عديد القضايا التي أثارها، وهي التالية:

II-مناقشة لبعض قضايا الكتاب

علم أصول الدين:

نلاحظ على هذا الصعيد أن الطالبي يشيد بالفكر الكلامي الاعتزالي معتبرا إياه قمة ما وصل إليه في مجال الذبّ عن العقائد الإيمانية بالحجج العقلية26. ولكنه في نفس الوقت يشيد بالفكر الخلدوني (الذي هو أشعري في التقليد العقدي السائد في عصره)، دون أن يدفع بالدرس الخلدوني إلى أقصاه، أي دون أن يستنتج الخلاصات المنطقية القصوى لذلك الدرس. فهو مع كونه انتبه بكل وضوح إلى حقيقة تأسيس ابن خلدون للعلوم الإنسانية على نطاق كوني، إلاّ أنه لم يتفطن إلى أن ابن خلدون قد قال باستحالة بناء علم أصول الدين على أسس عقلية (الهم إلا من باب تبرير العقائد ما-بعديا) وأنه لهذا السبب بالذّات قد أغلق باب الإلهيات وافتتح باب الإنسانيات، زيادة على كونه قد لاحظ زوال الباعث والجدوى من ذلك العلم من الناحية الوظيفية السوسيولوجية والحضارية27.

فكـأن الطالبي يرغب إذن في بقاء علم أصول الدين، وإن ضمن الموجة المعروفة بعلم الكلام الجديد، وكتابه "ليطمئن قلبي" يمكن أن يصنف بالفعل ضمن هذا النوع من الخطاب، حتى وإن اكتسى مسحة من التشدّد28. و لو بقي الطالبي في حدود العلوم الإنسانية أو حاول الارتقاء بخطابه إلى المستوى الفلسفي الكوني لكان ابن خلدون جديدا أو كانطا جديدا أو سبينوزا جديدا أو برغسنا جديدا، ولكن ويا للأسف آثر أن يخاطب الملّة الإسلامية وحدها، في عصر مشكلته هي مشكلة الإنسان ومنزلته كونيا وليست مشكلة المسلم فقط. وبالتأكيد سيجني الطالبي نتائج هذا الاختيار النضالوي الضيق.

فمتى يأتي الوقت لنشهد ميلاد فيلسوف مسلم عربي جديد في مصاف الفلاسفة العالميين، كابن رشد29، ولنرى ظهور عالم محترم كونيا كابن خلدون؟

ختم النبوة

لقد ناقش الطالبي هذه المسألة انطلاقا مما كتبه عبد المجيد الشرفي حولها. نذكّر هنا باختصار أن هذا الأخير قد قدم تصوّرين ممكنين لختم النبوة: الختم من الداخل (البقاء أسيرا في بيت النبوة) والختم من الخارج (الخروج من بيت النبوة والسياحة في أرض الله الواسعة...). وبطبيعة الحال ينصحنا الشرفي باختيار الحل الثاني، باعتبار أن الإنسان قد بلغ الآن مرحلة الرشد. وهنا تثور ثائرة الطالبي فيقول متهكّما من رأي الشرفي:«هل أن هذا الإنسان قد بلغ سنّ الرشد؟ أم هل هو فقد رشده؟»(ص.84).

والرأي عندنا هو أنّ كلا الرّأيين مجانب للصواب. ولنبدأ بمناقشة الطالبي لأننا في أشدّ العجب من موقفه من هذه القضية. كيف لا يتبنى الطالبي مقولة الرّشد وهو يعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم (الموافق لروح القرآن: وهذا شرطه في قبول السنة):« العلماء ورثة الأنبياء». ثم أليس ما يقول به من قراءة سهمية مقاصدية للشريعة هو مظهر من مظاهر ختم النبوّة؟ لا نرى الطالبي إلاّ وهو يردّ علينا بقوله إن القراءة المقاصدية لا تخرج عن روح النبوة، بل هي التكريس الأمثل لها! ومن قال غير ذلك، ما دامت الغاية القصوى من النبوة هي ترشيد الجنس البشري ومرافقته في مسيرة نضجه الشاقة والطويلة؟! لقد فهم الطالبي من ختم النبوة الخروج من بيت الإسلام إلى دار الكفر والضلال، ومن قال أن استقلال الإنسان بعقله وتحرره من كل ضروب الوصاية يعنيان حتما الكفر بالله وبنعمه؟! أليس مفهوم حقوق الإنسان الذي يتبناه الطالبي هو من ثمرات ذلك الاستقلال والانعتاق؟! وأليس هو من باب تكريس مبدإ تكريم الإنسان الذي قرره القرآن الكريم؟ قد يقول الطالبي مثل ما سبق أن قلناه في غير هذا الموضع أن منظومة المقاصد الشرعية تحتوي ضمنيا على هذه الحقوق30، ولكن هيهات أن تنقلب مقاصد المكلِّّف إلى مقاصد المكلَّف من دون ولادة مفهوم الفرد31، التي لم تقع في سياق النبوّة وإنما في سياق ختمها داخل الفضاء الغربي الحديث32.

ولكن الإنسان(ومن هنا نبدأ في مناقشة الشرفي) لم تتح له فرصة الاختيار الحر والترشّد الذاتي إلاّ بفضل الدور الحضاري العظيم الذي قام به الأنبياء ليخرجوه من طور البربرية والتوحش ويدخلوه إلى طور الإنسانية والمدنيّة، فالدين في جوهره تمدين وهو أوّل من أتى بفكرة القوانين والتشريعات لتنظيم المجتمعات البشريّة33، وإنّما وظف الدين نوازع الإنسان الطبيعة من خوف وطمع لتمكين تلك المبادئ الحضارية والقيمية من نفسه: فالناس يدعون الله«خوفا وطمعا»، كما وصفهم القرآن الكريم (السجدة/16).

ولذلك يجدر بالفقهاء المعاصرين أن يخرجوا الآن من دائرة البراديغم الفقهي القديم الذي توعز فيه المقاصد إلى الشارع، مع أنّها استنتجت بالنظر العقلي، لتسند صراحة إلى الإنسان الذي تصبح استقلاليته الفكرية، بعد أن تدرب عليها طويلا، المقصد الأسمى لتلك المقاصد، أو مقصد المقاصد، ليلجوا إلى رحاب البراديغم الحقوقي المعاصر : براديغم حقوق الإنسان34.

الوحي (وخاصة الأخير: القرآن) لم يكن إذن عائقا أمام تطور الإنسان واستقلاله بل كان مرافقا له في مسيرة تحرره ونضجه. هذه فكرة أولى نضعها أمام نظر الأستاذ الشرفي35.

فكرة ثانية لا يتضمنها تصور الشرفي لظاهرة ختم النبوة، هي أن هذا الختم لا يقع دفعة واحدة، بل على التدريج، وهو سيرورة وعي مطّرد، إذ أن هذا الختم ظاهرة معرفية وليست مجرّد حدث تاريخي، وبما أنه كذلك فإنه لا يتم إلا بمقدار وعي الإنسان به. ومن هنا فّّإن كل السلفيين (وهم ينتمون تقليديا إلى دائرة الإسلام) ليسوا معنيين واقعا بهذا الختم وإن كان منطق التاريخ يدعوهم إلى ذلك، بينما أبناء الغرب الحديث (وهم من يعتبرون لدى المسلمين تقليديا كفارا) هم في غالبهم يمارسون حثيثا هذا الختم، من خلال الإمعان في مدّ العقل بأسباب رشده واستقلاله، حتى وإن كان ذلك يتم في عديد الأحيان على حساب سعادة الإنسان، نظرا لتسارع نسق الحياة والوقوع ضحية الضغط النفسي المزمن وعدم الشعور بالأمن وفقدان المرجعية القيمية المتجذرة في أعماق الإنسان36...الخ. ومن هنا ضرورة التوازن بين مطامح العقل وضرورات الروح والوجدان. وبالتالي فختم النبوة يخص فقط ما بمقدور الإنسان معرفته (العقل النظري والعلمي عند كانط)، أما ما يمكن للإنسان أن يأمله (العقل العملي)، فلا يكون إلاّ بالانطلاق من مصادرات، لا شيء يمنع من اعتبار الإيمان أحدها37، بما أنها بالتعريف مصادرات لا يمكن إقامة البرهنة العقلية عليها. وبالتالي الأجدر بالشرفي أن يكفّ عن الخوض في مجال العبادات (كالإفتاء بإمكان التخلي عن الصلاة لمن أراد ذلك أو لم يجد لها الوقت الكافي38)، فهذا قول غير علمي بالمعنيين معا: بالمعنى التقليدي لكلمة (اختصاص علم الفقه) وبالمعنى الفلسفي(الابستمولوجي) لها، حيث يمتنع القطع عقلا في مثل هذه الأمور، فلا فائدة من هرسلة المؤمنين و إزعاجهم بمثل هذه الأقوال، وليقتصر عليها لنفسه إن شاء، ولا نحسب من هو مقتنع بقوله بحاجة إلى سماعه منه، والحال أنه حاصل لديه، فلا يكون عندئذ إلاّ لغوا.

أخيرا، إن محمد إقبال الّذي انطلق منه الشرفي في بناء تصوره لختم النبوّة (ثم حرّف قوله عن مقصده) لم يحرّض المؤمنين على ترك الصلاة مثلما فعل الشرفي بزخرف القول (أسوة بالزعيم بورقيبة الذي دعا الناس إلى ترك الصوم، ففشل في ذلك فشلا ذريعا)، بل لجأ (إقبال) إلى الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس ليستشهد بقوله:«يرجح لدينا أن الناس سيظلون يصلون إلى آخر الزّمان، بالرغم ممّا قد يأتي به العلم من عكس ذلك...والباعث للإنسان على الصلاة نتيجة ضرورية لحقيقة هي أن النفس الإنسانية التجريبية وإن كانت في صحيحها نفسا اجتماعية فإنّها لا تستطيع أن تعثر على ندّها (أي «رفيقها الأعظم») إلاّ في عالم مثالي...ومعظم الناس تنطوي صدورهم على ما يشير إليه دواما أو بين حين وحين» (تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص، 99). أمّا إقبال نفسه فيقول عن الصلاة: «...الصلاة التي تستهدف المعرفة تشبه التأمّل، ومع ذلك فالصلاة في أسمى مراتبها تزيد كثيرا على التأمّل المجرّد. وهي كالتأمّل أيضا في أنّها فعل من أفعال التمثل، ولكنّ التمثل في حالة الصلاة يتخلى عن سيرته بوصفه باحثا عن العموميات البطيئة الخطو، ويسمو فوق التفكير ليحصّل الحقيقة ذاتها، لكي يصبح شريكا في الحياة شاعرا بها. وليس في هذا شيء من الخفاء، فالصلاة من حيث هي وسيلة للهداية الروحانية فعل عاديّ تكشف به فجأة شخصيتنا التي تشبه جزيرة صغيرة، مكانها في الوجود الخضمّ الأكبر للحياة...والواقع هو أن الصلاة يجب أن ينظر إليها على أنّها تكملة ضرورية للنشاط العقلي لمن يتأمّل في الطبيعة»(ص. 99-100).

فأين فتاوى الشرفي المتسرّعة من هذا الكلام العميق، أم أنه جعل قراءته لإقبال قراءة عضينية، انتقائية يأخذ منه ما بدا له ويترك ما يشاء39، وقد فاته أن فلسفته تمثل منظومة متماسكة العناصر. فإقبال لمّا قال بختم النبوة، كما استأنفنا نحن القول بها من بعده، اقترح علينا ثلاث مصادر بديلة للمعرفة، استمدّها من القرآن الكريم الذي أعطى إشارة انطلاق سيرورة ختم النبوة، وهذه المصادر هي: استقراء ظواهر الطبيعة(لبناء العلوم الصحيحة) واستقراء أحداث التاريخ و ظواهر العمران البشري (لبناء العلوم الإنسانية) ورياضة الباطن (الصلاة التأملية، لاستكمال سعادة الإنسان ووعيه الوجودي).

الناسخ والمنسوخ

من الشائع في أدبيات من باتوا يعرفون اليوم بمفكّري الإسلام الجدد، أن نقرأ عن الناسخ والمنسوخ وكيف أن هذه الآلية الفقهية، التي قننها الشافعي، بعد أن وجد أصلا لها في القرآن الكريم، تمثّل نهزة للعقل الديني حتى يتحرّر نوعا ما من انغلاقه ويخفف من تحجّره. والنسخ لغة هو الرفع أو الإزالة واصطلاحا «الخطاب الدّال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدّم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه»40. كنسخ الآية التي توصي للوالدين بنصيب من الميراث دون تحديد: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت، إن ترك خيرا، الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقا على المتقين»(البقرة/ 180)، بالآية التي تحدّد لهما مقدارا معينا منه: «ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه، فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس، من بعد وصية يوصي بها أو دين»(النساء/11)، أو كنسخ الآيات التي لا تحرّم الخمر وإنما تنفر منها فقط أو تنهى عن الصلاة في حالة سكر: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون» (النساء/43)، بالآية التي تحرمها « يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه»(المائدة/90)41...الخ. ولكن ما فوجئنا به لدى محمد الطالبي أنه ينفي نفيا قاطعا وجود النسخ في القرآن، إذ يقول حرفيا: «...لا ناسخ ولا منسوخ في القرآن، وإنّما من اجتهاد الشافعي-رحمه الله- في نطاق وضعه لمنهجية الفقه»(ص. 248).

حقا إن الطالبي هنا قد أتى بالجديد الذي خالف فيه جمهور العلماء42، ولكنه جديد بالمعنى اللغوي فقط. فجدَّّ الثوبَ: قطعه، وبالتالي ما قام به الطالبي هنا هو مجرد قطع مع القديم، ولكنه قطع مع ما هو ثابت بنص القرآن الكريم نفسه: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم بأن الله على كل شيء قدير»(البقرة/106). لا شكّ أن الطالبي يعلم بوجود هذه الآية في القرآن، فلماذا نفى وجود الناسخ والمنسوخ إذن؟ لا وجود إلا لجواب واحد ممكن لهذه الوضعية الغريبة، وهو القول بتأوّل الطالبي لها تأولا آخر غير الذي أجمع عليه علماء المسلمين. فما هو هذا التأوّل؟ لا نعلم عنه شيئا. ولكن قد يقصر الطالبي النسخ على الكتب السماوية السابقة (نسخها من قبل القرآن). على كلّ، لم يزد الطالبي في الموضع الذي أشرنا إليه عما ذكرناه عن هذه المسألة.

وحيث لا نتوفر على المزيد من رأي الطالبي فيها، فإننا نطرح احتمال أن يكون دافعه إلى ذلك هو أمران: عجزه عن الجمع بين حالتين مع من حالات المشرّع (الله): أن يكون«قوله الحق»، من جهة، وتبديله لذلك الحق من جهة ثانية، بينما الحق لا يكون إلاّ واحدا، في نظر الطالبي، على الأقل كما نفهم من قوله: «الإسلام واحد عبر الزّمان والمكان»(ص. 45). نعم الطالبي يعطي الحق للآخرين أن لا يكونوا مثله ويؤكّد على هذا الحق عشرات المرات، ولكن بمعنى أن يكون لهم الحق في أن يكونوا على الضلال وأن يتبعوا خطوات الشيطان، وفي أن يحيدوا عن الصراط المستقيم. إن الطالبي يترك قرّاءه في حيرة من أمرهم إزاء هذا الموقف لأنه يتعارض تماما مع دعوته إلى إسلام من دون شريعة، بالاعتماد على قراءة سهمية مقاصدية للإسلام، وهو في هذا يختلف مع أجيال وأجيال من العقول والمدارس الفقهية. أي يقول بالتعدّد ويمارسه حتى داخل الملة الإسلامية. لا نظن أن الطالبي على هذه الدرجة من الاضطراب في مواقفه، بل غاية ما في الأمر أن الحق الذي يراه واحدا ليس حقا بالمعنى الضيق والتقنيني الجزئي، بل إنه على الأرجح يبحث عن روح الحقّ43، فيجده تشريعيا في مقاصد الإسلام ولا في جزئياته التشريعية. ولذا فهو ليس بحاجة إلى آلية الناسخ والمنسوخ في منظومته التشريعية.

نجيب عن كلّ هذا بطريقتين متكاملتين:

 لاهوتيا: الحق كما يقدمه القرآن الكريم ليس حقا ساكنا، بل «كل يوم هو في شأن»، والآية كاملة تقول: «يسأله من في السماوات وفي الأرض، كل يوم هو في شأن»(الرحمان/29). فتبدّل شؤونه هو من تبدّل شؤون الناس، وتغير أسئلتهم له، أي مطالبهم وقضاياهم ومشاكلهم. فهو قد أعلن صلته بهم من دون تحفّظ فهو «رب الناس/ملك الناس/إله الناس» في السورة التي كرمهم بها عندما سماها باسمهم (سورة النّاس). فإله الإسلام ليس كإله أرسطو الذي دفع العالم ثم دخل في إجازة وجلس مليارات السنين يتفرّج عليه...وبالتالي لا شيء يمنع من أن يعكس لنا القرآن صورة إله يغير من أحكامه بطريقة بنائية تطورية، فهذا لا يضادّ الحكمة في شيء، بل هو عين الحكمة.

 فقهيا: إن القراءة السهمية التي يريد تطبيقها الطالبي للشريعة، مبنية على فكرة المقاصد، والمقاصد الشرعية إنما بناها الشاطبي (في كتابه "الموافقات") والطاهر بن عاشور من بعده بقرون (مع اختلاف في المناهج44) على قاعدة استقراء أحكام الشريعة الجزئية وإيجاد جوامع كلية قطعية لها، ولا ظنية فحسب، كما هو وضع الجزئيات بطبيعتها. والناسخ والمنسوخ هما جزء من مدونة الأحكام الجزئية ويفيدان التيسير والتطوير، وبهما نفهم إلى أين تتجه الشريعة بالمقارنة بين الحكم المنسوخ والحكم الناسخ45، أي برسم السهم الذي يصل بينهما رسما يكشف عن الحكمة والمقصد من تبديل الحكم أو التخلي عنه.

وأخيرا وبما أن الطالبي شديد الإيمان بالقرآن ككل مسلم مخلص، فإننا نذكّره بقوله تعالى:«وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون»(النحل/101). ماذا لا يعلمون؟ لا يعلمون أن المعرفة تتطور والمجتمعات تتطور وتقييم الأوضاع يتغير، فممّا كان من الممتنع التفكير فيه في ابستيمية تلك العصور هو التطور والتغيير، فهو عندهم علامة الاضطراب والعبث والفتنة وضعف العقل وسوء الأخلاق، إذ قالوا «إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مهتدون» (الزخرف/ 22). والناس في مجتمعاتنا يقولون: «اللهمّ لا تقطع علينا عادة»، فهو إذن من نزوع الإنسان الغريزي(قبل-عقلي) إلى الجمود والمحافظة، اقتصادا في الجهد.

وفي النهاية، إذا ما حصل أن اطلع الطالبي على كلامنا هذا، ومع ذلك ظل على رأيه القديم، فإننا سنرغب بالتأكيد في معرفة سبب ذلك.

خاتمة

لا شكّ أن كتاب الأستاذ محمد الطالبي "ليطمئن قلبي" يعكس جهدا معرفيا جادّا، في مستوى التنبيه إلى خصائص البراديغمات المعاصرة في العلوم التي تؤكد على النسبية واللاحتمية و ما يستتبع ذلكم من ضرورة مراجعة مناهج البحث في العلوم الإنسانية التي هي أولى بالتنسيب من غيرها لانفتاحية المشاكل التي تطرح ضمنها، وكذلك في مستوى بناء القناعات الشخصية واحترام اختيارات الآخرين والاعتراف لهم بالحق في الإيمان أو اللاّإيمان، لا بحكم السماحة الأخلاقية("لاشاريتي" باللّفظ الفرنسي)، وإنما بحكم طبيعة الأشياء نفسها، ولا شكّ أنه سيلعب دورا إيجابيا في تنشيط الحوار الدائر حول مكانة الإيمان في العالم المعاصر، هذا العالم الذي بات يشكو من جفاف حادّ لمنابع المعنى لديه، مما سمح بظهور مختلف النزعات الدينية المتطرفة في أمريكا وفي أوروبا وفي العالم الإسلامي، أو في مقابل ذلك الاستسلام للريبية والفوضى القيمية .

غير أن ما ننبه إليه هو ضرورة أن نفكّر بطريقة كونية ولا مِلّيّة. إن الإسلام لم يأت إلاّ ليكون ضمانة خلقية ووجودية، علينا أن نبحث لها عن أشكال إجرائية مناسبة، لممارسة الحرية الإنسانية والإبداع الخلاق. فالاختلاف سنة كونية باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

أما الصّراع ودفع الله الناس بعضهم ببعض، فذلك أيضا سنة كونية، حتى لا يطغى أحد على أحد. ولكن الصراع الذي يخوضه المثقفون والمفكرون يجب أن يتخذ من الأفكار نفسها مادّة للدّرس والتقييم ولا نوايا الأشخاص وضمائرهم. حقا إنّ الطالبي قد ناقش ودحض عديد الأفكار التي رصدها لدى خصومه بحجج لا بأس بها، ولكنه فعل ذلك بطريقة فيها الكثير من الانفعال، وهذا ما قد يخسر به مؤيدين من غير السلفيين، الذين لا يبحث هو ذاته عن استرضاءهم، بل إنهم قريبا سينقلبون عليه عند ظهور كتابه القادم عن القراءة السهمية المقاصدية للإسلام، إن لم يكونوا قد حسموا فيه بعدُ.

أخيرا، بالتأكيد لا يمثل فكر الطالبي نسقا غير قابل للاختراق، بل من المرجّح أنه يحتوي على بعض الثغرات، ولكنه على كلّ حال فكر في منتهى الجدية والنزاهة وعلى غاية من العمق والجرأة، وهذا في حدّ ذاته أمر ليس بمتناول كل الناس، ولا حتى كثير من الجامعيين.

الهوامش والمراجع

2 كثير من الكتب الجادة تمر دون اهتمام يذكر، لعزوف الناس عن القراءة أو التفاعس عن إبداء ردود أفعال منهجية.

3 نعلم أنى هنالك طبعة أخرى لهذا الكتاب بدار الفنك بالمغرب الشقيق.

4 لدينا الآن في تونس منشّط لهذا الفكر وما يشبه المرصد له، وهو منتدى الجاحظ، ونأمل أن تتدعّم التجربة وأن تعمّم على كامل أقطار المغرب العربي (وكافة البلدان العربية).

5 يقول الطالبي: «نعبر عنهم بالانسلاخسلاميين، لأننا نريد قصدا أن نتحاشى في حقهم وصفهم بالمرتدّين، لما حمّل هذا الّفظ، الذي أصبح مصطلحا فقهيا، من معاني الإدانة التي تتجمّع في حكم الردّة. إننا نرفض حكم الردّة لتناقضه مع القرآن، والقرآن مرجعنا الوحيد وما وافقه من السنّة»(ص. 12).

6 لتوضيح فلسفة عنوان الكتاب (ومحتواه) يقول الطالبي: «إن التوق إلى الله رحيل بلا نهاية، وطلب يغذّيه وخز السؤال الّذي لا يهدأ. ألم يخاطب إبراهيم عليه السلام ربه قائلا: «وإذ قال إبراهيم: ربّ أرني كيف تحيي الموتى. قال أو لم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي»(البقرة/260). ويروى أن النبي عندما نزلت هذه الآية، قال: «نحن أولى بالشكّ من إبراهيم»»(ص. 12-13).

7 دوّنّا هذا الذي اعتبرناه مهمة العقل العربي خلال المرحلة القادمة في السجل الذّهبي لمعهد العالم العربي بباريس منذ عشر سنوات خلت، وشرعنا فيه في كتابينا "ختم النبوة" و"في إصلاح العقل الديني"، والطالبي يقوم بنفس هذه المهمة ولكن على طريقته التي لا تلتقي دائما مع طريقتنا، خاصة في أسلوبه السّجالي، كما سيأتي.

8 المسيحية لا يقصد بها هنا ديانة عيسى بن مريم عليه السلام، بل الشكل التاريخي الذي اتخذته تلك الديانة، كما قننه دعيّ الرسالة بولس وما كتبه الأحبار بعد ذلك في الأناجيل وما تراكم عبر السنين من مقررات المجامع المسكونية.

9 يعتبر الطالبي أن الانسلاخ عن الإسلام من حقوق الإنسان، أمّا النفاق فَلا: «وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف/29).

10 لا يعتبر الطالبي اليهودية توحيدية بالمعنى الذي نجده في الإسلام، إذ لا تقول بوجود إله واحد لكل العالم، بل لكل للعالم الإسرائيلي فقط : هينوتييزم ولا مونيتييزم ، أما بقية الشعوب (الغويم) فلها آلهتها الخاصة بها. والمسيحية أيضا توحيديتها ليست كتوحيدية الإسلام فهي تثليثية (الأقانيم الثلاث).

11 المصاب بداء الفصام.

12 يحذّر الطالبي المسلمين، بهذه المناسبة، من الوقوع ضحية الكلبية الغربية، ويشرح لهم هذا المفهوم الفلسفي القيمي (اللاقيمي) لأنه في اعتقاده غريب عن الذهنية العربية والإسلامية.

13 وجود أكثر من يسوع واحد: ثلاثة أو خمسة، وأن يسوع المصلوب هو مناهيم الأسيني (وليس عيسى ابن مريم) وانتشار أسطورة بعث الموتى في اليوم الثالث من قبرهم وتزوج الآلهة من العذارى ونسبة الملوك إلى الله كأبناء لهم...الخ

14 يعتبر الطالبي العقائد المسيحية (كما جاءت في الكتب المقدسة المحرفة) مجرد خرافة لا يقدر على قبولها أيّ عقل سليم.

15 في كتابه الذي ألّفه (بالفرنسية) مع اللبناني المسيحي جوزيف مايلا "من مانهاتن إلى بغداد"، باريس، 2003.

16 للطالبي خصمان: الانسلاخسلاميون والكنيسة المسيحية بزعامة الحبر الأعظم بنوان 16، وهما يلتقيان في السعي إلى نزع صفة القداسة عن القرآن والتشكيك في صدق الرسالة المحمدية كرسالة إلهية.

17 وهي في الواقع تسمح بمثل هذه القراءة.

18 لا شيء يمنعه من أخد مكانه بينهم هو كذلك، شرط ألاّ يتسرّع في إصدار الأحكام وألاّ يصادر على المطلوب، فالذي يجعلنا نخطئ كما يقول فيلسوف العقل ديكارت، هو الإرادة. الإرادة عندما تأنس في نفسها الحرية، تجازف بإلقاء الأحكام دون روية، وتجعل من العقل خادما لها، ولا العكس، كما يفترض أن يكون. فعقلاء الناس، يتفكرون في الأمور، وعندما يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر الحقيقة أو الصواب، يعزمون ويتصرفون بناء على ما توصلوا إليه، وهذا ليس متاحا إلا لقلة من الناس. ولكن هل أن الشرفي قادر على النقد الذاتي. لندع ذلك للزمن الآتي.

19 كما يوحي جهله (أو تجاهله) للقاعدة الألسنية في عدم انفصال الدال عن المدلول، لما أراد أن ينحاز إلى فكرة وجدت في التراث حول نزول معنى القرآن على الرسول وتدبره أمر التعبير عنه بنفسه كناطق باللسان العربي ، أو ما عابه عليه الطالبي، عن حق، من نفي وجود الكتب لدى اليونان والعرب وغيرهم قبل القرن الثاني هجري عند اتصال المسلمين بالصينيين (صينيون وقعوا في الأسر:الطالبي، ص. 63) وتحصلهم على الكاغد ، بينما كان هناك الرقّ وورق البردي وغيرهما من محامل الكتابة، ويروى أن مكتبة الإسكندرية في عهد بطليموس الثاني (309-246 ق.م.) قد حوت 500000 كتاب (الطالبي، ص. 65).

20 لا نقول هذا بدافع من حماسة دينية، بل لكونه أطلق أحكاما تعميمية في غير محلها وعن جهل بحقيقة الدين الإسلامي، حيث نسب إليه اللاّعقل والعنف المنهجي وحاول الحط من قدر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد رددنا عليه في www. gric.asso.org

21 كصديقنا كلود جفري المغضوب عليه من الكنيسة الكاثوليكية لدعوته إياها إلى التخلي عن ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة.

22 وظف الطالبي هذه القراءات لإثبات نسبية الطرح العلماني الراديكالي وتساوي خياري الإيمان اللاإيمان عقلا ، ومن هنا قوله تعالى: «وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف/29). وقد لا يزيد هنا عن تأكيد الحل الكانطي: «وضعت حدّا للعقل لأفسح في المجال للإيمان»، ولكن مع التنبيه إلى أن مفهوم العقل والحكم على نوعية أدائه قد تغيرت في الزّمن الحاضر لصلح القراءة الطالبية، فقد تم الانتقال من نموذج الفيزياء ذات الإحداثيات النيوتنية الزماكنية المطلقة إلى براديغم النسبية .

23 قد تكون بدافع من الشعور بحمل الأمانة وبدافع من الرغبة في إنجاز ما يراه قول كلمة حق وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.

24 انظر محاضرتنا في ندوة "تركيا والعرب" على www.eljahedh.org

25 قد يرى الطالبي في ذلك عملا بقوله تعالى: «لا يخافون في الله لومة لائم».

26 يقول الطالبي:«...ولذا تحتلّ علوم أصول الدّين والكلام في الإسلام مقاما أساسيا، وقد حاز قصب السبق فيها المعتزلة»(ص. 196)

27 نحيل القارئ لمزيد التفاصيل إلى كتابنا "في إصلاح العقل الديني": فصل في نقد علم الكلام: علم أصول الدين : هل حان زمن القطيعة؟ وهذا الفصل موجود كذلك في الكراس الأول الذي نشره منتدى الجاحظ تحت عنوان " تاريخية الفكر الإسلامي" وفي موقع منتدى الجاحظ وموقع مدونات مكتوب.

28 تشدّد الطالبي ليس كتشدّد السلفيين. فالسلفيون يرفضون الآخر بإطلاق، في الداخل والخارج. أما الطالبي فلا يرفض الآخر ولكنه يحدّ من مفهوم الذّات، ليخرج منها الانتماء الثقافي ويحصرها في الانتماء العقدي بحسب الفهم الحرفي للنص القرآني. مع التنبيه إلى كونه يتخلى تماما عن القراءة الحرفية للنص عندما يتعلق الأمر بغير العقائد والعبادات، أي بالمعاملات، حيث يتبنى هنا قراءة سهمية مقاصدية للشريعة. وهذا الموقف شبيه جدّا بموقف الفقيه الحنبلي نجم الدين الطوفي الذي ابتدع مفهوم رعاية المصلحة، حيث يقول «إذا تعارضت المصلحة والنص في غير العبادات والاعتقادات أخذ بما دلّت عليه المصلحة».

29 نقدر كل التقدير فلسفة محمد إقبال.

30 إذا نظرنا في مقاصد الشريعة الخمسة والتي هي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل لوجدناها تتوافق مع نعرفه الآن بمصطلح "حقوق الإنسان".

 فحفظ الدّين يعني حرية الاعتقاد وحرية التفكير "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". (قرآن كريم).
 وحفظ النفس يعني الحق في الصحة وصيانة حرمة الجسد.
 وحفظ العقل يعني الحق في التعليم والمعرفة والغذاء المتوازن.
 وحفظ النسل يعني الحق في المناعة وفي إقامة علاقات جنسية وفيّة وحقوق الطفولة.
 وحفظ المال يعني الحق في الشغل والكسب المشروع أو الملكية الخاصة.

31 - بطبيعة الحال، لم يفكّر الفقهاء المسلمون على وجه الدقة في مفهوم حقوق الإنسان الذي يعتبر من مجلوبات الفكر الفلسفي والتشريعي الحديث، ولكن المسافة التي بقيت تفصلهم عن ذلك ليست شاسعة وإنّما تقع في منعطف جديد تنقلب فيه مقاصد الشارع إلى مقاصد المكلَّف الذي هو المواطن في المجتمعات المدنية الحديثة.

32- لا نعتبر ختم النبوة ظاهرة دينية خاصة بالمسلمين، بل نعتبرها ظاهرة معرفية كونية تشمل كل الجنس البشري، وسنرى كيف أنه بإمكان كل البشر تحقيقها في التاريخ.

33- أنظر لنسج، تربية الجنس البشري، ترجمة وتقديم وتعليق د.حسن حنفي، التنوير، بيروت، 1981.

أو أنظر كتابنا، ختم النبوة: إبستيمية مولد العقل العلمي الحديث، تونس 2002، ص 61.

أو مقالنا "مرجعيّة الذات المتعينة في الحاضر : الفرد أم ولاية الفقيه"، مجلة الحياة الثّقافية، السنة 27، العدد 131، جانفي 2002.

34 وهذه الملحوظة الأخيرة تهم الطالبي كذلك لأنّه يعتزم إصدار كتاب حول القراءة السهمية المقاصدية للشريعة.

35 لمزيد التفاصيل، انظر كتابنا "ختم النبوة: ابستيمية مولد العقل العلمي الحديث"، تونس، 2002(متوفر بالمكتبات العمومية التونسية)

36 انظر حوار الكاردينال جوزيف رتزنغار(البابا بنوان 16، حاليا) مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرمس سنة 2002 (مجلة "إسبري").

37 اعتبر كانط الحرية ووجود الله وخلود النفس ووحدة العالم مصادرات للعقل العملي.

38 انظر كتابه الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص. 63.

39 من عجائب الزّمان أن من أعاد نشر كتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" للفيلسوف والشاعر الهندي محمد إقبال، هو عبد المجيد الشرفي نفسه (سلسلة معالم الحداثة، دار الجنوب للنشر-تونس، 2006).

40 الغزالي، المستصفى من علم الأصول، ج1، ص. 107.

41 قال الفقهاء أن الأمر بالاجتناب أشدّ من الحرمة نفسها، حيث يتجنب كل ما يتعلق بها وليس تناولها فقط.

42 لقد شذّ الغزالي عن هذا الإجماع، ولعل ذلك يعود إلى نظرته الاستاتيكية للنص (التعالي عن الزمان والمكان)، بينما إله الإسلام (رب العالمين) قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، سواء أكان الداعي فردا أم جماعة(حاجات المجتمع المتجددة).

43 ونحن نفضّل عليه لفظ "الصواب"، الذي هو نسبي، لأنه وكما يقول الطالبي نفسه في عيال الله: لا يعلم الحق، كل الحق، إلا الحق (استعاده في كتاب ليطمئن قلبي، ص.10). انظر بودون(1995) في "الصواب والحق": دراسات حول موضوعية القيم والمعرفة:فرنسا فايار (بالفرنسية).

44 انظر الفاضل بن عاشور، محاضرات، ص.365.

45 قد يكون النسخ من التحريم إلى التحليل، كما هو الشأن من الشريعة الموسوية إلى الشريعة العيسوية:«ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحلّ لكم بعض الذي حُرِّمَ عليكم»(آل عمران/50). وقد يكون من الإباحة إلى التحريم: مثل حكم شرب الخمر في الإسلام، كما تقدّم: «ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه رزقا حسنا وسكرا، إن في ذلك لآية لقوم يعقلون»(النحل/67)، فذكر السّكر ولم ينه عنه.

قراءة في كتاب (ليطمئن قلبي) لمحمد الطالبي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى