الأحد ٩ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم مازن رفاعي

ليلة زفافها

يوم خريفي ممطر. الشتاء في طريق عودته من رحلته الجنوبية. سيعود ثانية ليطرق الأبواب داخلا دون استئذان. الشارع يتحرك تحت مظلة من الغيوم الداكنة الممطرة. المارة يفرون هاربين من البلل.

تقف على الناصية تراقب المشهد. نظراتها تخترق جدار الزمن. تعرض في مخيلتها شريط من الذكريات الخاطفة. شريط الشتاء الماضي. في نفس المكان في منتصف هذا الشارع امسك بيدها واجبرها على الوقوف صارخا بها بحنان:

"ارفعي راسك بشموخ، واستقبلي حبات المطر هذه. هي الرحمة، فلا تفري منها."
دمعة تنساب على الخد تتابع سيرها نحو الأرض لتمتزج مع حبات أمطار الخريف الهاطلة فتغسل أدران الماضي. دموعها الهاطلة ليست دموع فرح، على الرغم من إن هذه الليلة هي ليلة زفافها. دموعها تبكي أحلاما موؤدة وسفنا غارقة.

اليوم يوم الإعدام. يوم مشهود. يوم إعدام مشاعرها تحت مقصلة الزفاف. اليوم سيشهد نهاية قصة حب. وسيسدل الستار على أحلامها بالعيش معه. حتى فساتينها التي حاكتها لترقص معه ستكون هذه الليلة ملكا لغيره. أحمر الشفاه الذي يحبه ستمنحه شفتاها لغيره. العقد الذي أهداها إياه ويزين صدرها الليلة ستمنح حق لمسه لغيره.

الليلة ستغلق عيناها. وستتخيل انه هو من ترقص معه، وتقبله، ويلمس عقدها. وستهاجر روحها إلى ذراعيه، وستذوب في أحلامها بين يدي غيره. سترقص الليلة على بقايا ذكريات وبقايا صور. وغدا سيستيقظ الصباح، وستشرق شمس البعد على كليهما.

غدا سيصله نبأ زفافها في غربته. وسيقف على أطلال ذكرياتهما. وربما. سيمزق رسائلها. سيتعذب وستنهشه الغيرة. سيوقظه النبأ من سبات مشاعره، وسيتخيلها كيف أمسكت بيد غير،ه وكيف منحت شفتاها القبل لغيره، وكيف أن غيره استحوذها. ضمها. عانقها. قشرها من ثيابها. والتهمها. سيصرخ أو سيبكي. ستهطل دموع الألم والغيرة والاشتياق والحب، وستمتزج مع دموع الندم، ندم من أضاع قلبا دافئا ومشاعر صادقة.

يوما ما سيدرك أنها أحبته بطريقتها الشرقية، وأن مشاعرها كانت مسجونة، وإنها ودت لو منحته كل ما طلبه لتنال رضاه. منعها من ذلك إيمان بالله رضعته، وعفة تربت عليها، وخوف من أن تصبح ساقطة في عينيه.

لم تكن تمثالا جميلا من الشمع كما كان يقول لها. كانت تملك روحا مليئة بالمشاعر التي تدفئ القلوب، وعاطفة مترعة بالحنان، وأشواقا تغلي في العروق، ورغبة كانت براكين خامدة لم يقدر لها أن تنفجر. لم تكن بخيلة كما كان يظنها. كانت على استعداد أن تهبه حياتها لو طلبها.

سيدرك ذات يوم أنها دائما تمنت لو أن غيوم أشواقها هطلت أمطار حب على صحراء رغباته، بدلا من أن تهطل —وبعد كل مرة قابلته فيها— دموع الم تبلل وسادتها. كم حلمت بفراش واحد يضمهما! وان تتمدد على لحاف يديه! وأن تفتح عينيها على اشراقة عينيه! كم تمنت أن تسمع صوت طفله يصرخ لها "ماما!"

من سيشعل الحب في الغد؟ ومن سيجعل الأيام تتوهج بعد أن انطفأت شمعة اللقاء، وغربت شمس السعادة، وانتهت المشاعر يتيمة على قارعة البكاء، بعد أن ذبحتها سكينة البعد وطعنها سيف العناد؟

في الغد ستشرق شمس البعد. كم باتت تكره الغد وتتمنى ألا يأتي! عجلة الحياة ستستمر. وغدا لن تجف الأنهر، ولن يتحول لون السماء لإلى لون احمر دام، ولن تموت الأشجار. غدا سيكون صفحة أخرى من كتاب حياتها الذي تحول إلى صفحات من الأحزان وأخرى من الآلام، وبات من الصعب عليها أن تغلق هذا الكتاب لتطوي صفحاته النسيان، فالليلة ليلة زفافها إلى قاتل حبها


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى