الثلاثاء ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم زكية خيرهم

حذاء الرئيس

وأخيرا أخيرا جاء فصل الشتاء بلياليه الطويلة السوداء،
وبفجره النائم الكسول... بهدوئه ... بسكونه .... ببرده القارس... بنهاره القصير. وحبيبات الثلج تتطاير كالغبار، تحمل رائحة الثلج و تدخل أنفي، فأحس بأوجاع في كل مكان في جسدي. أحس بعطش إلى الشمس و بشوق إلى الحرارة. فصل طويل يتسرب في عروقي لدرجة أن روحي تصبح باردة ... متجمدة ... و ما إن يأتي ذلك الصيف القصير وتلك الشمس القطبية، شمس منتصف الليل، حتى أحس أن روحي ستزهق أو زهقت. يذكرني هذا الفصل القصير بشمس وطني، بدفء حرارته، بحرارة ناسه، بطبيعته المتنوعة، بجباله وصحرائه وهضابه وسهوله...

آه! كم أتذكرك يا وطني عندما يأتي الصيف في النرويج. وكم أتوق إليك عندما يحل البرد هنا، ويغطي أسلو رداء أبيض من الثلج، كما يغطي قلبي بخمار أسود من الحزن عليك يا وطني ...!! أاقسو عليك أو على نفسي... ؟! أاكرهك أو أكره نفسي...!؟ تركتك كارها والرجوع إليك مستحيل... ابكي عليك كل يوم، وأبكيك كل صباح حين أغادر بيتي إلى عملي. أرثيك للثلج وللأشجار... ماكان الثلج يحس بي ... وما كانت الأشجار لتسمعني...

ها هو عيد الميلاد اقترب موعد مجيئه، وبعده مباشرة، تأتي سنة جديدة، ويليه عيد ميلاد آخر... وسنة أخرى، وبيني وبينك مسافات مستحيلة يا وطني. ضحكت عاليا غير مبالية وأنا أمشي بين شوارع أسلو، غير مكترث للاكتظاظ الهائل: سيارات ... قافلات ... ترامواي ....تمشي باستمرار في الشوارع على مدار الساعة. ترى الناس في كل مكان. في المطاعم، في البارات، في المحلات.... محلات مليئة.. مكتظة... طوابير طويلة ... الكل ينتظر دوره لدفع ثمن هدية عيد الميلاد. الكل يريد أن يفاجئ حبيبه ... صديقه .... أخاه .... ابنه ... زميله في العمل... زوجته ... الكل ينتظر تلك الليلة التي يلتقي فيها الأهل والأحباب... ....

من سأفاجئ ... ولمن سأشتري هدية ... لمن سأعطيها.....؟ ومن سيفرحني ولو لسويعات قليلة..!؟

مازلت أمشي إلى أن دخلت مركز ( أوسلو سيتي). سمعت عجوزا تقول لزوجها، وفي يدها أكياس من الهدايا: " عيد الميلاد من دون سقوط الثلج ليس عيدا"

ضحكت في نفسي..." فليتأخر أو لا يأتي على الإطلاق يكون أحسن."

مررت بمركز (جينريوس) وقعت عيناي على دكان شرقي مليئ بالأكسسوارات والملابس العربية ... انشرح صدري .... فسرح عقلي إلى يوم العيد، في وطني. لمحت فساتين نسائية شرقية، فتخيلت أمي وأخواتي يرتدينها، وهن يحمن في البيت كعادتهن .... ينظفنه ... يزينه ويصنعن الحلوى بمناسبة العيد ... إقتربت من الدكان ... دخلته .... شممت رائحة جميلة ليست بغريبة علي.... جعلت روحي تطير إلى وطني ... تبعت الرائحة، وكلما اقترب إلا والرائحة تزداد عطرا وشذى ... وعندما وصلت إلى منبع تلك الرائحة، وقعت عيناي على علب البخور، فحملني عبق عطرها إلى المسجد يوم العيد في وطني. يا إلله ! ماذا أرى ...!! علب الحلوى ... حلوى (جبان كلبان) ... الحلوى التي كان الكبار يعطونا إياها يوم العيد ... سبع وخمسون سنة مرت، ومازلت كما انت يا جبان كولوبان ... لم تتغيري أبدا ... سأشتريك وأوزعك على الأطفال هنا ... سأوزعك كما يوزع بابانويل هداياه ... أكيد إن الأطفال هنا لايعرفونك ... لكنهم سيحبونك، لأنك (حلوى) وهم (أطفال)...)...

اشتريت العلبة، واشتريت معها قناع بابا نويل ... وضعته على رأسي وكلما أشاهد طفلا صغيرا ... أخرج من العلبة قطعة أمدها له، وأقول له جبان كلوبان وسنة سعيدة ... يبتسم الطفل ويجيبني: شكرا... فرغت العلبة قبل أن أغادر المركز التجاري ... ولم يعد هناك شيئ أوزعه.... يجب أن أذهب إلى إحدى المقاهي في محطة القطار، علني أجد أحدا أعرفه وأدعوه ليحتسي معي فنجان قهوة... وفي طريقي إلى المقهى، أرى شجرة عيد ميلاد كبيرة تصل السقف ومزينة بالأضواء... وحشدا من الناس على شكل دائرة وأسمع صوتا مرتفعا ينادي من يشتري ... إنه المزاد... استغربت لأول مرة أرى مزادا بمحطة القطار. اقتربت من الحلقة ودفعني الفضول أن أتوغل بين المتجمهرين لأرى ماذا يباع.
ملابس نسائية وأحذية للمشاهير في النرويج وصاحب المزاد يرفع صوته عاليا لكي يسمعه الجميع حاملا بيده ميكرفون وعيناه تبرقان بفرح العيد ... بفرح اقبال الناس عليه ... كل يريد أن يشتري من خصوصيات المشاهير، والنقود سيرصد لمساعدة الأطفال "هناك"....بدأ صوت البائع في المزاد يعلو وفي يده حذاء لإحدى الممثلات النرويجيات. حذاء جميل يليق بصاحبته... حذاء داس السرايا والقصور.... حذاء دخل أرقى الحفلات وشارك في أجمل المهرجانات... حذاء ينم عن أناقة صاحبته وغنجها. يتطلع البائع إلى الناس ... ثم يتطلع مرة أخرى إلى الحذاء يتغزل به وبصاحبته، و يضيف.... يا ما دخل هذا الحذاء قصر الملك، وربما حظي بدعسة من حذاء الملك..

ارتفعت الأسعار، كل يزيد في السعر إلى أن حظيت به امراة في الخمسينيات. ثم حمل بيده حذاء رجاليا وابتسم وهو يتطلع إلى الحذاء. حول نظره للحشد وابتسم ثم فتح فاه صارخا:

حذاء رئيس الوزراء.... من يشتري حذاء الرئيس... 500 كرونة ... يتطلع إلى الناس مرة أخرى ولكي يزيد في السعر قال: يا ما وقع الرئيس أهم القرارات وهو يلبس هذا الحذاء. نطق واحد من الجمهمور 600 كرونة، تطلع البائع مرة أخرى إلى أعين الناس يتفحص اهتمامهم، وأضاف : حذاء الرئيس... هذا لبسه عندما وقعت معاهدة أسلو... علت أصوات من هنا وهناك والأرقام تتطاير من شتى الجهات بتلك الحلقة: 750 كرونة.... 900 كرونة.... 1500 كرونة ... 2000 كرونة، ثم توقف الجمهور عن الكلام أما البائع فنظر مرة إلى الحذاء وقال: حذاء يدخل البرلمان كل يوم والقصر الملكي كل يوم خميس ... حذاء يعرف صاحبه السلام وينادي بالسلام ... توقف عن المدح ..... نطق واحد نرويجي: كم رقم الحذاء؟

أجاب المزادي: 42

وقال النرويجي 2000 كرونة

قفزت من مكاني صارخا ثلاثة ألاف كرونة.

بدأ الكل يتطلع إليّ و حماسي المفاجىء غير مبالية بأحد إلا بالحذاء ... دفعت الثمن ثم انصرفت وفي طريقي إلى بيتي كنت أتمعن في الحذاء. تطلعت إلى يميني وشمالي ... اختلس النظر إن كان أحد ينظر إلي... خلعت حذائي... لبست حذاء الرئيس... أحسست بزهو ... وبخطوات غير خطواتي... أمشي وكأني طائر على بساط الريح ... تخيلت حالي في قصر الملك أناقشه مشاكل الرعية... تخيلت حالي مدعوا في القصر، للاحتفاء بملك من الملوك غير المغضوب عليهم ولا من الضالين... تخيلت نفسي ... تخيلت نفسي أوقع معاهدات السلام من الشرق إلى الغرب ... أدعو إلى التحالف الإنساني... تخيلت نفسي أرقص مع ابنة الملك..

شعرت بنقمة عليك يا وطني .... أرى فيك بقايا عمري وأوهامي... عن شعب ينام حتى الصبح بسلام

آه عليك يا وطني ...! هناك المرء يمنع من الإقتراب من بيت الرئيس، والا يقاد بسلاسل من حديد ويرمى في سجون الصحراء للكلاب والعنقاء.... منعتني أرى رئيسي... لكنني هنا ألبس حذاءه، ضحكت عاليا وأنا مازلت أمشي.... في طريقي إلى بيتي، أخطو بزهو و في رجلي حذاء الرئيس....وكدت أن أهتف عاليا: بالروح بالدم نفديك يا حذاء الرئيس!!!. متذكرة هذا الهتاف الأبدي في أوطان العرب..نفس الهتاف ولكن بدون كلمة حذاء....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى