الثلاثاء ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم عناق مواسي

مساحة حب لامرأة قصيرة

طالما حاولت أن أتمرد على مساحات جسدي بطولهِ وعرضهِ وارتفاعهِ.. أن لا أتمغنط إلى قياسات بيولوجية.. وأن لا أستكين لطاغية المقاسات، لكّن في كلِ مرّة كانَ الفشلُ يفترسني بأنيابه ويشرذمني أشلاءً.. ويتركني أداهم الفضاء بحثاً عن كياني..

كرهت نفسي لأن ارتفاعي لا يزيد عن المائة وخمسين سنتيمتراً.. كل شيء في حياتي قصير، تماماً مثل طولي، أبي، أمي، أصدقائي، ألواح خزانتي، سريري وحتى لحافي.. والغريب أن نصف قطر حياتي كان أقل من النسبة التربيعية.. صنّفتني العيون مختصةً بشؤون الأتربة والأديم، لكني كنتُ أكره هذا التشبيه لأني ما أعرتُ ما تحت قدمّي أهمية.. وكنت أداعبُ النجوم بأحلامي الطويلة..

والمذهل في الأمر، أن شيئاً في أعماقي كان أطول مني..شيئاً تمرد على طول سيقاني، وتطاول على ارتفاع عنقي، حاولت أن أخفيه بمساحة جسدي، أن أخنقه بقياساتي، حتى أصابع قدمّي امتعضت من حذائي الضيّق وحاولت الفرار بحرية.. وباتت محاولاتي لاهثة..

ورغم قصري ووضاعة جسدي، كانت تنمنمني أفكار طويلة ورغبات قوية وأحاسيس كبيرة وأمنيات طويلة لكنها لم تنفك تنفصل عن جسدي القصير،مما آل إلى تخبط داخلي في داخلي..

وكلما كانت تشّتد آلامي وتتعسر ولادة آمالي، كنت أرجع لأحتمي ببنفسجة جبران الطموحة المتمردة، القصيرة التي توسلت إلى الطبيعة أن تزيدها ارتفاعاً وعلواً، التي دافعت عني وعانقتني وزودتّني بالأمل فاستشف قوتها وأتجرع كأس تمردها وعنفوانها وأرتعش من مداعبتها لأحاسيسي الدفينة، فتشرئبّ لها عنقي وتزهو بها نفسي.

وعلى حين غرة، في محطة القطار، كانت تلك المرة الأولى التي رأيتها به. ولمع في ربيع حياتي.. في الثالث والعشرين من كانون الأول الذي غدا أطول يوم في حياتي وأقصر يومٍ في السنة، فإزدادات أيامي القصيرة طولاً، وأصبح وجوده حقيقة لم أتمكن من أن أنفصل عنها أو تنفصل عني يوماً..

كان رجلاً طويلاً.. طويلاً، في كل شيء.....

أعجبت به وبمعطفه الطويل الدافئ في أيامٍ كانونية باردة، حيث المطر المتساقط فيختبئ الناس تحت مظلاتهم بينما كنت أنا اختبئ في قلبه وتحت مظلة عاطفته وأنا أشعر أصابع الدفء وهي تشعلني حينما كان يرتديه.. حتى حذاؤه كان طويلاً.. كنت أشعر أن مقاسات جسده تلائمني وتلائم أفكاري وخيالاتي التي حاولت أن أوصلها للعالم، لكن قصري كان حجر عثرة يقف أمامي فظننت آفاقه بعيدة، طويلة، وروحه طويلة موازاةً لجسده وتفاصيله الطويلة.

ولا أعرف حقاً لماذا انجذبت إليه بهذه الطريقة الساحرة.. عندما أطل في حياتي أرداني أسيرة لعاطفتي، ورهينة محتجزة لخيالاتي، وقتيلة لأنوثتي المتفجرة ة حباً وعطاءً، تاركةً ورائي جيشاً عرمرماً من الخيالات الرومانسية، هذا ما دفعني لأظن مشاعره أيضاً طويلة..

عندما كانت صوره تبعث نسائم دافئة تنفث من روح الحياة روحاً في روحي وترفرف صوره أمام عيني، كانت تتملكني قوة خفية، تدفعني نحو النجوم، أتسامى على البشر بمشاعر ثائرة، ثورة الحجر، باندفاعٍ أقوى من اندفاع المطر، على شواطئ تَحِنُ إلى أكثر من بحر..

أحببــــــتُ..هِمــــــــتُ.. عَشقــــــتُ..طِــــــرتُ...تطــــــايرت..تَـــــذّوّتُ..ذُوِّتُ..

حالة الحب هذه سطّرت دفتر وجودي بطريقة لا انسيابية، تختلف عن الخطوط الأفقية والعرضية، وأصبحت هناك تفاصيل أكثر إمتاعاً في أيامي التي ازدادت طولاً وازدادت جمالاً، لأني شعرتُ أن هذا الرجل الطويل قُدِّرَ له أن يكون منفذاً وملاذاً لروحي الثائرة المستعرة الهائجة المائجة التي لا تكاد تخبو نارها في غرفتي- تلك التي لا تتعدى مساحتها عن التسعة أمتار مربع...... حين عودتي للبيت رغم غبطتي اللامتناهية..

وما كان يملأني غصة، سريري....
ذلك السرير الحقير القصير الذي كنت ألقي بجسدي عليه.. سريري الذي يذكرني دائماً بحجمي وقصري، ويعيدني إلى واقع مقاساتي التي أكرهها.. أتقلب عليه يمينًا فأهرب من قصري، وأتقلب عليه يساراً فأهرب من عبثي..

ومع ذلك أحببته بشغفٍ، بلوعةٍ، بهيام، باندفاعٍ، بقوةٍ، لان صوره البهّية أكسبت لياليّ سحراً، وعتمتي نوراً وقصري طولاً.. بدأ حبه يسري مع الوريد في الجسد، صرت أحب الأشياء الطويلة، وأتخيل ملامحه في الأشياء الطويلة التي طالما وددت أن أمد يدي إليها دون أن أحتاج إلى وسائل مساعدة.. كثيراً ما كنت أتخيل نفسي أمامه، لكن الفارق كان مضحكاً لفظاعة المنظر، فالفارق بيننا نصف امرأة بنصف طولي. ولا أعرف تماماً إن كان هذا التمغنط بِفعلِ الصدفة، أم انّه ترتيب قدري كتب على لوح الحياة.. كأني وجدت في طوله رافعة نحو الأفق، نحو الأمل المجتث من وجودي، أحتمي بها وأستند عليها لأحس بجسمي وروحي أنهما لا يزالان على قيد الحياة..

خفت عليه، أن يفر من بين يدي، فقررت أن أخبئه في مكان سري للغاية حتى لا يعلم أحد بمكانه، لان الحب ممنوع في بلدي، وإذا افتضح أمر غرامي فلن يكون هنالك سوى تابوت منسي يحمل بداخله جثتي القصيرة وأحلامي الطويلة ليسيرا معاً في مسيرة جنائزية نحو الهاوية فاختبئ أنا وحبي تحت سطح الأرض.. فاستدعاني خوفي عليه أن أحفظه حفظي لعيني، فخبأته هناك في أطلس الجغرافيا، لأنه كان أطول كتاب لدي..، وأقفلت عليه..

قررت أن أصارحه بكل ما يدور في صدري، في أعماقي، لكني خفت من نفسي على نفسي.. خفت أن اقترب منه.. أن أتسامى في ارتفاعي نحو عينيه المصوبتين نحو السماء.. حاولتُ توهج قلبه أن أخترق، لكني خفت أن أحترق.. خفت أن أرجع إلى نفسي بائسة مكوية إن رمقني بنظراته نحو حجمي وكياني وقصري..

وفي لحظة عفوية وبدون تخطيط مسبق وجدت نفسي أصارحه عن حبٍ أطال وسيطيل عمري...

وبدأت علاقتنا تزداد طولاً...
فكان لنا لقاءات تحت نور الشمس، على شاطئ البحر، مراتٍ ومرات، لقاءات مفعمة بالحب، وهناك في ذلك البعيد مارسنا العفوية، وفتحت كل أبواب حضارتي وتاريخي وأعلنت عن اعترافي لزماني ومكاني لأول مرة، هنالك فقط اعترفت بقصري....

وتوالت اللقاءات من كانون إلى آذار، وفي اليوم الواحد والعشرين من آذار تفاجئت بقصره وقصر ساعاته التي ظننتها أطول أيام السنة تحديداً. فكان اللقاء الأخير... قلت له ما عدت أطيق درب الشقاء....حدقت في مقلتيه،فلاذ بالصمت، صمت كثيراً وقبض على الرمال ونثر ذراته الذهبية....

ولما كانت تستدرك العتمة مسارها في شق طريقها نحو الليل، عدت إلى مسكني.

تركني وهو لا يعلم بحالي، أنوء في تلك المعالم وأتناسى تلاوين الشحوب التي تناجيني، وتباريح من الوجد تناديه. ولت أيامه ولم يبق لي إلا زفرة من روحه الطويلة والدمع لبعده مدرارًا، يفيض في بحر أجاج أصبح شرابه لذةً لبؤسي وضياعي في كوامن عاطفتي..

رفضتُ التحامي برجلٍ آخر معللةً ولعي بالفلك، أسبح في فضاءات ماضٍ آلمني لأقترب من النجوم التي حلمت بها طول عمري، وأدور في مدارات ذاتي. اهتدي بنجمه البعيد، آفل كشهبٍ لمعت وانطفأت من أجل مراسيم الغياب، ومن أجل أن ميثاق الحب الذي كان بيننا فالشمس والقمر والنجوم كانت على حبي له شاهد.

اخترت الاحتفاظ بطهارة الحب رغم انه أبتعد عني إلى غير رجعة، والى غير هدىً...

لم يثمر هذا الحب سوى الأرق واللوعة رغم العاطفة الجياشة التي فاض بها فؤادي..

كلما كانت تجتاحني رغبة مشبعة بالشوق، ملهمة من نواقيس المعذبين وباندفاعٍ قوي، كانت تثور عاطفتي، ثورة الموج على الشواطئ الساكنة، ثورة ما بعدها ثورة، ثورة كانت تحرقني وتجعلني رماداً متطايراً، بعد احمرار وتوهج الجمرات التي كانت في موقد غرامي، حينها كان لجوئي وملاذي إلى الأطلس أعانقه بحرارة، بحرارة، وأقربه من قلبي لأسمعه نبضاتي وادخله من وريدي الأيمن وأعيده من وريدي الأيسر كي لا افقد لحظة ارتحاله عن مسيرة الدم في العروق،فأتحسس جغرافية ذكرياتي، وأمرر أصابعي على تضاريس المكان والزمان.... لأنه غدا عاشقاً نافراً من قصري زاهياً بطوله..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى