الأربعاء ١٢ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم عاصم بدرالدين

حالة حب

لحظة جنون عابرة
صعد الدرج مسرعاً، خمس درجات فقط خالها مئة، كاد يقع مرات عدة، نجا ...
دق الباب بقوة، طرقه بعنف، كان يعزف نغمات متضاربة متسارعة، لم تكن الضربات متناسقة بل عشوائية تائهة، بعنف كان يقرع، كمن يقرع طبول الحرب.

كان هناك معها، أخبرته، قالت له أن الأمر إنتهى.حين وصل كان يحمل وردةً حمراء أخذها خلسةً من حديقة والده، وطبع سراً كلماته عليها، قدمها لها، رفضت.."للموعد طرفين، أجملهما اللقاء:قبلة هادئة ساكنة وتنتفض من بين ورود الحبق والياسمين، وأبشعهما الفراق"كان يقول.رفضت الوردة ومنعت القبلة وأحبطت الإنتفاضة، وطلبت منه الجلوس، أخبرته أن أمرهما إنتهى، لا هي لم تقل شيئاً عرف هو، سمعهم يتحدثون في الأمر، لكنه تجاهل، إعتقد أنها "كذبة نيسان" في شهر آب..أخبرته أن الأمر إنتهى وعليه تقبل الأمر بـ"موضوعية"، صمت، نظرت إليه تغيرت ملامحه، لا لم تتغير، لم يبقَّ هناك أي ملامح، تجمد..

تركته والمقعد..إستدرك وإلتقطها سريعاً وأجلسها بخفة، خافت من نوبة جنون، لكنه بقي ساكناً، نظرت إليه "الأن ملامحه قد تغيرت، تجهم وجهه، وخرجت عيناه من غرفتهما الضيقة، لذيذ هذا المشهد، لن أحزن، هذا خياري أنا وهذا شأني.." شعرت باللذة تجتاحها وهي تنظر إليه صامت كالذليل، تخيلته يجثوا أمامها...وقفت ورحلت، دون مقاومة.

فُتح الباب، كانت أخته الصغرى، ثمان سنوات، وإبتسامة هانئة بريئة مرتسمة على عينيها، قال في نفسه:"كم هي بريئة اليوم وستكون غداً ماكرة كالأخريات"، وقفت في وجهه أرادت معانقته وقبلة، دفعها بقوة سقطت أرضاً وبكت.

إستمر في هجومه الغريب هذا، دون توقف، سأله والده عن مفتاحه، تذكره بالفعل أنه يملك مفتاحاً خاصاً للباب، وضع يده في جيبه ورفع المفتاح ورماه..

صعد درجاً آخر، كان هذه المرة أطول، صعده راكضاً، كان صوته غريباً قوياً ومزعجاً، نوعاً من الصراخ المكبوت، ربما، كان كمن يمنع الصرخة، كمن يمنع الجرح من النزف، كان جريحاً بلا دم!

صعد إلى غرفته، كانت الثانية من الجهة اليمنى، وقف لثواني معدودة يسترق النفس..اقفل الباب وترك أمه تعزف نوتة "القلق المرير" على خشبه، تقدم بإتجاه الخزانة، فتح الدُرج، أخذ منه ورقة وقلم، وجلس على السرير هادئاً، وكتب:

"كنت أقول لك دائماً أن الكلمات، ومهما صعبة الحالة قادرة على التعبير عنها، الكلمة هي سر الوجود، و لولا الكلمة لا حياة ولا بشر ولا تاريخ ولا شيء، نحن حين نحب:نكتب، وحين نحزن:نكتب، وحين..وحين..وحين.أنا لم أبدل بعد رأي يا "حبيبتي" لو تسمحين لي بقولها! الكلمات صادقة ولا تكذب، ولكن الإنسان هو من يكذب، حين كنت أكتب لك في ما مضى، كنت صادقاً لأني أعرف حين أكذب ستكشفني كلماتي لشفافية الكلمة في المطلق، وأنت حين تسمعين أو تقرئين هل كنت تكذبين؟

تذكرين ذلك اللقاء الأول أمام الشجرة الصفراء؟ كان الخريف، حينها بدأت القصة، كانت رائعة ولذيذة ولا تنسى..أتذكرين كل شيء؟
نسيت أن أقول لك حينها، أن الذاكرة لا تنسى الكلمات، حتى لو إعتقدتي أنها تنسى، أنت لن تنسي، لأنني جعلت من حبي لك كلمات كتبتها، لن تنسي حبي مهما فعلتي، أنا في ذاكرتك ملكاً توجتني كلماتي..الكلمات لا تنتسى، أنت مخطئة والخطيئة أنت..

ماذا أفعل الآن؟ أأقتلك؟ لا لن أفعل، تأكدي، الذي يعشق لا يقتل، ربما، يُقتل ولكن لا يقتل..رجل آخر إحتل مكاني بأمواله في نفسك، التي ككل مادة هي زائلة-كنت تقولين!!-أما أنا فراسخٌ فيك، فلماذا أقتلك؟ سأتركك تتعذبين، هكذا لأن العذاب أحد فصول الحب، سأعود لك في كل لحظة "سخونة"، لأني أصبحت جزءاً من تاريخك الذي هو أساس حاضرك..وكما أنت مني!

واليوم نحن في أيام الصيف الحار، الآن إنتهت القصة..أنت مخطئة والخطيئة أنت، أنت المخطئة وخطيئة أنت..."

مسح عن خديه ندى العينين، و إلتقط الورقة، قطعها ورماها في سلة المهملات..

عاد ليرتعش..عاد ينفعل، حمل كل ما هو أمامه ورماه، بدأ رقصة التكسير كان كالمحترفين، وقف أمام المرآة وحمل زجاجة العطر، هديتها له، ورماها بها..تحطمت "خبيط ولبيط" هنا وهناك على هذا وذاك وفي كل مكان، فتح الباب مسرعاً..إصطدم بوالده وحطم كل ما في طريقه، اللوحات والزجاج، والأواني الفخارية التي ورثها أباه عن جده، توجه نحو غرفة والديه، ضرب الباب لم يفتح، كسره..خلعه ودخل..بحث وخرب وحطم وكسر كل شيء وصد والده ودفعه، وحمل مسدسه وأطلق النار..

كانت لحظة جنون عابرة وإنتهت.

سخونة

حينما كانت تغتسل إستعداداً لحفل زفافها..غرقت، غرقت في الماء الساخن المتساقط على جسدها، كانت سخونته سخونة الجسد وأكثر، تخالطه سخونة الدموع..كانت السخونة دائرة تلفها من أسفلها إلى أعلاها.سيطرت السخونة إذاً، وخرجت أفكارها من وكرها العميق لتوقظها من حلم خالته جميل ويستأهل التضحية.كانت تبكي وبكاؤها هو الأخر ساخن-حار، تبكي على فعلٍ خاطئ متسرع طفولي، لا يرقى لعمرها بشيء.

ما معنى أن تترك الحبيب من أجل الخطيب؟ وكيف يمكن لحب خالطه الزمن وصاحبه أن ينتهي في لحظة ما، لحظة عابرة مراهقة؟ وكيف ستستطيع أن تدفن هذا الحب وتطفئه في حجر رجل آخر.

السخونة تعيدها إلى الوراء، إلى حبيبها، إلى تلك الرقصات المتسارعة إلى هيجان القلب ونغماته الشاعرية .. تذكرته، تذكرت ماضيها الذي تمنته حاضراً ومستقبلاً رائعاً، تذكرته وسخونتها ترتعش بنار أفكارها، عادت إلى اللقاء الأول تحت شجرة ما في مكان ما، هناك بين أفندتها وجذورها وأوراقها المنتشرة على الأرض صفراء، كان الخريف.تذكرت اللقاء الثاني والثالث والرابع..والمئة بعد الألف!

على خدها قبلة هادئة ساكنة طبع في كل مرة، وفي كل مرة كانت تحلق بأجنحتها كطائر إنتفض من بين ورود الحبق والياسمين، هكذا كان يقول لها..كانت تحبه بما يكفي لتحبه وتعشقه.

كان يحبها بما يكفي لتحبه وتعشقه، كان يحبها بجنون عاشق ربما، كانت تحبه بجنون عاشقةٍ حتماً، كانت تحبه لأنه يحبها ويعشقها..كان حبهما الطفولي جنوناً، لم يكن طفولياً بالمعنى المتعارف بل كان بريئاً و جميلاً، بسيطاً بعيداً عن تعقيدات الحياة وفلسفة الروايات وأفكار العشاق الأخرين، كان حباً هادئاً هائلاً، كان صادقاً متماوجاً كموجات بحرٍ أيام شتاء، كان أبيضاً شفافاً كسحابة صيف.

أرجوحة الزمن سيدة الموقف الآن، تذهب بها إلى ماضِ أرادت العودة إليه وتجيء بها إلى حاضر رغبة متوسلةً النفور منه، ولكنها الآن تعيش في هذه اللحظة ولا مفر من المواجهة و المتابعة.

"كان بإمكاني أن أرفض، كان خياري حينها، لماذا ذهبت؟ لماذا أخترت الآخر؟ هو كان آخري، لكل منا آخر في المكان أي مكان، كان هو آخري أنا، وليس ذاك الغريب، أنه آخر نعم ولكنه ليس آخري، آخري وجدته وأحببته وتعلقت به، ربطتُ حياتي بحياته حتى النهاية..لماذا لم أرفض؟ كان بإستطاعتي ذلك، حتى لو فرض عليّ فرضاً من عائلتي وأهلي، أنا صاحبة الشأن، كنت أستطيع الرفض والممانعة.لماذا، لماذا لم أرفض؟

أيعقل أن تكون رغبة بالفوز بتجربة؟ وأي تجربة تلك التي ستدمر حياتي، وحياة حبيبي ورفيق دربي ومخيلتي؟ أنا الآن لآخر غير آخري، آخر لا أحبه لا يشعر بي، لا يشبهني لا يعرف عني شيئاً سوى إني إمرأة -برأيه- جميلة...هذا آخر وأنا أريد آخري الذي فقدته فداءاً لتجربة عمياء لا واعية..

هل سيسامحني؟ هل يقبل إعتذاري؟ أنا مخطئة في حق كل لحظة عشق كانت بيننا..أنا مذنبة ومجرمة في حق كل ساعات الجنون الجميل التي مضت..

أيمحي خطيئتي بما تبقى من ذيول حبنا في نفسه؟... لا لن يرضى لن يسامحني، خطيئتي أكبر من أن تغتفر وأبعد من أن تمسحها ذاكرة، إنها أشبه بطعنة في جسد لا تمحى ولا تنسى..لا أعرف ماذا أفعل، أأهرب إلى ذاكرتي المفقودة؟ لا بل المجروحة، لا لا المقتولة، لقد قتلتها بيداي اللتان ما عادتا يداي، منذ أن فقدتاه! أو أهرب إلى الأمام إلى صدر رجلِ جحيم، أشيب الرأس كثير الخبرة ووفير المال؟ لا أعرف، أينما ذهبت أنا الخاسرة الأولى.."

سخونة كل شيء، تنعكس على كل شيء، على الجسد والروح والذاكرة، حين تسخن الذاكرة تقوى وتستعيد كل الذكريات حتى المهمل منها، فكيف، إذاً، بقصيدة كتبت لها، قصيدةٍ مليئةٍ بحرارة المشاعر ودفئها وصدقها وطوباويتها:

"كم تمنيت أن أقدمَ لكِ وردةً
عابقةً بعبير حبي
مفعمةً بشبقي إليكِ..
تختلج بين أوراقها الحمراء
هيامي بكِ
يا وردتي ... يا حلوتي"

طغى اللون الأحمر على القصيدة والحالة، أحمر الحب والقلب، أحمر الوردة وأوراقها، أحمر الخدين والقبلة..وكانت هي تغرق في أحمرها..
ورحلت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى