السبت ١٥ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم ياسين

حين أدرك

منذ أن سمع من أمه تلك العبارات القاسية التي سممت حياته: إنك ولد زائد عن الحاجة، لقد حاولت مرات عدة وأنت في بطني أن أتخلص منك بكل الطرق والوسائل، لقد تناولت من الأعشاب والأدوية ما يكفي للقضاء على أمة من الأمم إلا أنك كنت ولدا منحوسا ولم يؤثر فيك كل ما تناولته من أدوية، كأنك كنت مصرا على أن تعيش عالة على نفسك وعلى الآخرين، لم يكن بد من أن تولد، لكنك لم تشأ أن تترك الفراغ لإخوتك، لقد اقتسمت معهم الطعام والشراب وزاحمتهم في الهواء وفي المكان الضيق الذي ما فتئنا ندفع بعضنا بعضا فيه... كلما تذكر هذه الكلمات اسودت الدنيا في عينيه... كان في أحيان كثيرة يلجأ إلى التساؤل، يسأل نفسه... وهل كان في إمكانه أن يسأل غير نفسه، لكن أسئلته كانت عقيما، بحيث إنها لم تكن تلد أجوبة... أسئلة تشبه الاستنساخ، كما قرأ عنه وكما فهمه، أسئلة تلد أخرى... الاختلاف أمر مهم وضروري... توالد الأسئلة وتكاثرها ينسخ بعضها بعضا يزيد من ألمه ومعاناته، يشعره بالعجز... هذا العجز الذي زاده المرض قسوة وشدة، كانت الحيرة تملأ عليه كل كيانه، كيف يمكن لأم أن تكون بهذه القسوة؟ قلب الأم مركز الحنان والعطف ورمز الدفء، كيف يصير حجرا؟ ما ذنبي؟ تساءل في قرارة نفسه، ماذا صنعت حتى تكون حياتي بهذه الدرجة من التفاهة؟ هل لوجودي معنى؟ هل من حق أمه أن تمنعه من الحياة؟ هل من حقها أن تقرر إن كان زائدا عن الحاجة أو كان وجوده ضروريا؟ ما جدوى أن تخبره بذلك بعد أن ولدته؟ لقد قست عليه أمه وقسا عليه الفقيه والمعلم والشرطي... قسا عليه قبل ذلك وبعده الفقر الذي عاش فيه، الفقر الذي حرمه من متعة الحياة ؛ حرمه من طعام يشبعه ولباس يستره... الفقر ذلك اللئيم الذي تربص به صغيرا وآلمه كبيرا... الموت آخر ما في اللائحة وليس الأخير... هذا القاسي الذي أدماه حين تربص به خفية، آخذا منه جدته التي كانت له سندا يحتمي به، يسند ظهره إلى ظهرها فتدفئه ويضع رأسه في حجرها فتهدئه... هاهي رحلت وتركته للقلوب القاسية العاتية تفتك به بكل برودة... تتربص بجسده الهزيل...لم يجد من ينتقم منه غير نفسه، كانت الأمور تنمو وتكبر، نظرة احتقار لهذا الجسد المهترئ كلما نظر في المرآة، كانت بداية العقاب الجهنمي الذي ألحقه بنفسه، وبعد وقت قد طال أو قصر أصبح ما عاد يحب رؤية وجهه، وتدرج فأصبح لوما وتعنيفا وتساؤلا: ما جدوى... وما جدوى...

وهو صغير كان قد تمنى... وما أكثر ما تمنى... حلولا سحرية ؛ خاتم سليمان... قمقم سندباد... أي حل يخرجه من هذه الأزمة، إلا أن وجود جدته إلى جانبه جعل هذه التمنيات وهذه الأحلام، أحلام اليقظة متنفسا يخفف عنه وهو يستظل بظل جدته، أما الآن وقد رحلت وتركته وحيدا فلم يعد ثمة أي مبرر للتمني، إلا أن الأسئلة لم تتوقف وما كان لها أن تتوقف. الأمر ليس بيده، الفيلسوف هو من يقرر أن يسأل أو أن يمتنع عن السؤال، يصوغ السؤال ثم يعيده، يجعله مفردا أو مركبا، بسيطا أو إشكاليا... هو لم يكن يملك الخيار في أي شيء، فهو بقدر ما كان يدرك ألم السؤال بقدر ما كان يدرك عجزه عن التوقف وتغيير المسار... بعد سنين من المعاناة والمكابدة أدرك، كما أدرك من قبل، أن الوقت قد فات على التغيير، وحين عزم على أخذ الأمور بجدية قرر أن يسلم نفسه وحياته... للعبث وذلك بأن يترك الأمور كما يتركها الكثيرون... للصدف، ولا يتبقى له إلا ينتظر الموت حتى يتخلص من... الإدراك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى