الاثنين ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم زكية خيرهم

الأجانب،مأوى العجزة، هلمليا،هذا البلد وطني!

سكون رهيب في منطقة (هلمليا) ما عدا حبيبات ثلج بيضاء تتساقط من السماء، وضوء الفجر يقترب ببطء مودعا بصمت ذلك الليل الشتوي من شهر فبراير. الأرض مكسوة ببياض ناصع حالم، والبيوت النرويجية الجميلة مازالت مرتديةَ كساءها الثلجي، غارقة في سباتها، ترى أضواءها بداخلها خافتة جدا. استيقظت (جمانة) بتثاقل من سريرها الدافء، استحمت ولبست ملابسها في عجالة وأسرعت إلى موقف الحافلة. برد قارس. خليط من بياض الثلج ورمادية السماء المائل لونها إلى السواد يثير في النفس دهشة ووحشة. سكون ذلك الطقس البارد المبكر يسرب إلى نفسك أطيافا من الرهبة والوحدة ويجعل النفس تنزوي إلى ذاتها...

نظرت (جمانة) إلى ساعة معصمها الجلدية وبطرف كم المعطف أزالت عنها الثلج... لا يزال أمامها متسع من الوقت حتى يحين موعد الحافلة. تحدّق ببصرها صوب شقق جاراتها... تضحك بامتعاض: لا أستطيع استيعابهن ولا فهمهن، كما لا أفهم كيف يعشن من غير عمل، إلا على ذلك الدخل الزهيد من الضمان الإجتماعي. ترى بعضهن وكأنهن زوجات رجال أعمال، مثقلاث بحلي تكون مصدر فخر وتيه على بعضهن وكل واحدة تتغنى بأمجاد وغنى مركز أهلها في البلد التي قدمت منه. يذهبن إلى المدرسة ثلاثة أيام في الأسبوع ليدرسن اللغة النرويجية خمس ساعات في اليوم... وكأنها خمس سنوات في السجن...

لا أستطيع أن أفهم شيئا... (هداية) تقول لي لو كان لي الإختيار بين الذهاب إلى المدرسة أو أن يأخذ عزرائيل روحي لفضلت عزرائيل على المدرسة، لولا أصحاب الضمان الإجتماعي الذين فرضوا علينا الذهاب إلى المدرسة وإلا يقطعون عنا المساعدة. و(علية) عندما سألتها ابنتها:
ماما أريد أن أشتغل في مستشفى المسنين في نهاية الأسبوع هكذا أشتري ما أحتاجه.
انفجرت فيها أمها غاضبة والشرر يقدح من عينيها:

ما هذا... أنت...؟! تشتغلين في تغيير الحفاظات..! هذا جنون...! هذا مستحيل...!
ماما كل البنات اللواتي يدرسن معي في الجامعة يشتغلن في ساعات فراغهن. العمل ليس عيبا وإنما تجربة في الحياة وفي نفس الوقت يعتمد الإنسان على ذاته... إن النقود التي تعطيني إياها لا تكفي لشراء ما أحتاجه من أشياء خاصة...
خاصة...!؟؟ ماذا تريدين...؟ عندك كل شيء... العطر والماكياج والملابس الفاخرة... كل شيء نوفره لك...
ماما أريد أن أشتغل....
على جثتي يا (مرام)... على جثتي.،ما دمت حية لن تعملي في مستشفى المسننين ثم نظرت إلى (جمانة) وأضافت: هذا العمل المقرف الذي يقدمونه لنا نحن الأجانب في طبق من فضة. أرأيت يا (جمانة) بنات اليوم....؟! لقد تعلمن من هذه (النرويج) الإستقلالية العمياء وعدم احترام الوالدين.

نظرت (مرام) إلى أمها وعيناها مغرورقتان بالدموع ثم انصرفت إلى غرفتها. لم تحتمل (جمانة) ذلك المشهد الهزلي... المبكي... شعرت بالخزي على حال الأجانب... بالعار... يداها باردتان ترتعشان... أشعلت سيجارة بعصبية تدخنها... تعض على عقبها كأنها تنتقم منها... صامتة وفي داخلها صراخ كالرعود. ماذا سأقول... ومع من سأتحدث... من سيفهمني،الصمت أجدر في هذه المواقف. نظرت إليها (علية) وقالت:

لماذا أنت عصبية؟ هل لأنك تشتغلين في مستشفى المسنين...؟ اسمعي يا (جمانة) انا اعرف أن العمل ليس عيبا وأنا أعرف...
ماذا تعرفين... ماذا تعلمين... إنك لا تفقهين شيئا يا (علية)... هل تعتقدين أني استحي من عملي في مستشفى المسنين... لا والله بالعكس... افتخر به لأنه عمل شريف نزيه وإنساني...

نقودي آتي بها من عرق جبيني ورأسي مرفوع. إنني أفضل تغيير الحفاضات عن أن أقف في مكتب الضمان الإجتماعي وأتوسل النقود وأنا في كامل الصحة والعافية وبمقدوري أن أشتغل. العمل في نظرك ليس عيبا بالنسبة لي.. لكنه عندما يتعلق الأمر بابنتك فهو عيب. لا أفهمكن أيتها الجارات المحترمات. (صبية) تفتخر وتتغنى بالماضي وبوالديها الميسورين في بلدها... و(رقية) تفتخر بأصلها ونسبها ويسر اهلها بالبلد التي قدمت منه،فلماذا جئتن إذا إلى هذا البلد وأحوالكن ميسورة هناك... لماذا فضلتن مغادرة الوطن والأهل والأحباب والثراء وجئتن إلى بلد الثلج... بلد الغربة... إسمعي يا (علية)، سامحيني أقولها لك صراحة:

إن كنت سألوم أو أكره أحدا فأنت من سأكره وأمثالك... ماذا أعطاك بلدك ماذا وفر لك أيتها الأميرة الحسناء...؟ بالله عليك أخبريني،أعطاك فقرا وجوعا وقمعا... تعرفين لماذا؟ لأنكم لا تمشون إلا على هذا النحو. آه كم كنت مسكونة بالشوق والحنين يملأ قلبي إلى بلدي لكن بكائي وألمي عليه كان أعظم... تفصل بيني وبينه المسافات والحقب، آه أحس الأسى يقتلني والحسرة تأكل قلبي على وطني. الشعب المتعلم والمنتج لا يرضى الجهل وحياة مبنية على اللصوصية... نحن يا (علية) لصوص ويملك أمرنا لصوص، قدمنا هنا متأففين... ناقمين... وعوض أن نسلك حياة إنسانية طبيعية ونستغل الفرص الخيالية من تعليم وعمل أصبحنا نمارس مهنة اللصوصية لأن اللصوصية تجري في دمنا... نقعد في البيوت... ونتسكع في شوارع أوسلو كل يوم ونشتري بنقود قدمت لنا مساعدة بسبب عدم تأهيلنا أو تقاعسنا وتهربنا من العمل والمسؤولية، ثم نلوم أهل البلد ونتهمهم بالجهل والعنصرية. من العنصري والمتخلف يا علية.. نحن أم هم؟ كيف ستشتغلين مادمت أنت وصبية وفتية ورقية وسعدية وفتحية وهنية تفضلن أن يأخذ عزرائيل أرواحكن على أن تذهبن إلى المدرسة. هل تريدين أنت وحضرة جناب من مثلك أن تشتغلن في البرلمان أو في الشركات... إشرحي لي هذا بربك وأنت لا تعرفين حتى أن تملي استمارة بخطك. والله أنتن السبب في كل ما يحصل في هذا البلد من تفرقة وعنصرية بين الشعبين النرويجي والأجنبي...

مازالت (جمانة) تتذكر حوارها مع جاراتها حتى توقفت الحافلة. فتح السائق الباب وهو يضحك بصوت مرتفع. دخلت (جمانة) بسرعة لتتخلص من ذلك الصقيع، وقالت بعصبية:

لماذا تضحك؟

فأجاب ضاحكا:

أضحك عليك...

جحظت عينيها

هل رأيتني أمشي عارية كالمجنون؟
لا معاد الله! فقط كنت أبصرك وأنت تحركين يديك بانفعال وكأنك تتشاجرين مع أحد.
صحيح والله! فعلا كنت أتشاجر...
تتشاجرين مع من؟
مع جاراتي المحترمات... نساء الحسن والدلال والخلق المصان...
بحلق عينيه... توقف عن الضحك... وقال بجدية مع شيئ من التحفظ والحزن على حالي:
لم أر أحدا معك....أمام محطة الحافلة...
كان يظن أنني فقدت عقلي أو في طريقي إلى ذلك... ولم لا فمرحبا بالجنون على أن أعيش مع أناس يدعون الذكاء والحكمة لكن دماغهم كبير في الحجم فقط كدماغ الحمار. نظرت إليه مبتسمة:
لا تخف أنا لست مجنونة وإنما من حولي هم المجانين...
ثم رويت له أسرار جنونها وتعاستها.
بعدها علا ضحكه مرة ثانية وقال:
ما اسمك..
إسمي (جمانة)... لا ينفع الحزن على مثل هؤلاء... ثم أنك لايجب أن تكوني قاسية هكذا على الأجانب.. ليسوا كلهم حثالة كما تتدعين... كما أن مثل هؤلاء الذين تتحدثين عنهم هم ضحايا التخلف الذي حملوه معهم من هناك... أنظري وراءك...وشاهدي من في الحافلة في هذا الصباح الباكر... صباح يوم الأحد... إسألي نفسك إلى أين هم ذاهبون... إنهم مثلك ومثلي... ذاهبون إلى العمل... أنظري جيدا...
نعم... نعم... أعرفهم... إنهم جيراني...
أرأيت؟ أكثر من خمسة وثلاثين راكبا، كلهم أجانب، استيقظوا باكرا مثلك متجهين إلى العمل. كانت تنظر إليه متأملة طريقة حديثه واستيعابه للأمور... فتحت فمها صارخة:
لا... لا... لا أصدق! أهذا أنت؟ مستحيل... إنه أنت... أليس كذلك؟
نظر إليها والضحكة لم تفارقه، مظهرة أسنانه البيضاء، مصطفة بانتظام، ناصعة كالثلج على ذلك الوجه الأسمر الداكن.
مابك... وما الأمر...؟
نعم... نعم... أتذكر... أنت السائق الإفريقي (كيفي باري) الذي شاهدته في برنامج (روبنسن)... نعم أنت هو... بالله ما أجمل هذه الصدفة... كم كنت سعيدة أرى أجنبيا يقطن في النرويج يشارك في إحدى البرامج المشهورة ويشارك مع مواطني البلد... أعجبتني شخصيتك كثيرا..
إسمعي يا (جمانة) أنا من جنوب إفريقيا... عانيت الكثير أنا وأهلي... الذل والفقر والعنصربة،

تركتهم وسافرت إلى أمريكا. فوجدت أيضا العنصرية ومشاكل كثيرة. فقلت لنفسي يا (باري) هذا المكان ليس مكانك، جرب حياتك في مكان آخر. فكان النرويج البلد الذي راق لي، خاصة في ذلك الوقت كان هذا البلد يستقطب أمواجا كبيرة من الأجانب. في بداية إقامتي هنا، وجدت نفسي مضطرا لتعلم اللغة إن أردت الحصول على وظيفة. وفي فترة دراستي كنت أتلقى دعما من الضمان الإجتماعي. يدفعون لي أجرة البيت والطعام وأجرة المواصلات. هل تجدين يا (جمانة) هذه التسهيلات في دولنا؟ عشقت البلد وأصحاب البلد وتعلمت اللغة بسرعة فائقة، وحصلت على وظيفة بسهولة، وبمجرد ما توفرت لدي النقود اتجهت إلى الضمان الإجتماعي لأرد لهم كل قرش أنفقوه علي. قالت لي موظفة هناك بأن المساعدة التي قدموها إلي ليست سلفا... قلت لها أريد التحدث إلى المسؤول فأنا لن أخرج من مكتبكم حتى أصفي ديني معكم. تعجبت الموظفة واندهشت لتصرفي الجنوني حسب رأيها. لكنني كنت أضحك في أعماق نفسي. وقفت من مكانها مرتبكة ثم نادت المسؤول الذي بدوره قدم إلي وقال مبتسما لا نريد منك شيئا، فنحن نساعد العاطل عن العمل حتى يجد عملا بعدها التوفيق كل التوفيق. صرخت في وجهه، أريد أن أرد لكم نقودكم... هذه نقود الدولة وقد تساعدون بها غيري.. أنا شاكر لكم مساعدتكم لكنني الآن مصر على أن لا أبرح مكتبكم حتى تأخذوا نقودكم... لن أخرج... لن أخرج ولو أشهرتم في وجهي السلاح. كنت أتكلم معهم وعلى ملامح وجهي الإمتنان والشكر لهم والغضب أيضا لرفضهم قبول نقودي.
ضحك)كيفي باري(بصوت مرتفع

وأضاف قائلا: انتفخ ريشي كالديك المستعد للهجوم، فابتسموا لي ابتسامة إعجاب ووافقوا على طلبي.

ضحكت (جمانة) بصوت مرتفع والدموع تسيل من عينيها:

لا... لا أصدق... من أنت؟ قطعا مجنون وجنونك هذا جميل جدا... لم أر قط في حياتي من يقوم بما قمت به.

ابتسم وقال:

كنت أشتغل وأدفع لهم قسطا شهريا من النقود، حتى سددت كل المبلغ وعندما حصلت على الجنسية تقدمت للجيش. لم يجبرني أحد على ذلك. صرت أتمتع بكل حقوق المواطن النرويجي فأحسست أن النرويج وطني... واحدا من هذا البلد، أتمتع بكل الحقوق، فلذلك دخلت التجنيد المدني لكي أقوم بواجبي كمواطن إفريقي نرويجي وأكون من الأوائل الذين يحمون البلد.

من أنت يا (باري)... هل أنت فعلا بشر أو ملاك أسمر قادم من السماء؟!
لا أنا ملاك أسمر قادم من بيتي باكرا جدا لأقود الحافلة وألتقي بك أيتها المجنونة. ثم ضحك.. اسمعي يا (جمانة) هذه النكتة لقد حصلت معي...

كان يتحدث إليها وكأنه يعرفها منذ سنوات... ضحكته طوال الطريق ترقص على وجهه الأسمر الذي يشع طيبة وحيوية وذكاءا ونورا...

كنت مرة في (ريما 1000((محل لبيع المواد الغذائية.) أتبضع أغراضا للبيت.توقفت أمام ثلاجة اللحوم أحاول اختيار ما سأشتريه ذلك اليوم. أمسكت دجاجة مثلجة... أنظر إليها وأتحدث في نفس الوقت إلى صديقي وزميلي (رولف مدلبو). اقتربت مني امرأة مسنة وقالت بدهشة، أسمر يتكلم بطلاقة مثلنا؟! التفت إليها وانا أضحك عاليا كعادتي ثم قلت:

ما رأيك يا سيدتي في هذه الدجاجة...!؟ ببلدي نأكل لحوم البشر وأنا الآن جائع جدا جدا وبما أن أكل لحوم البشر ممنوع في بلدكم سلمت أمري لله واخترت هذه الدجاجة علها تسد جوعي...
اختفت الإبتسامة عن محيا تلك المرأة المسنة وبدأت تقفقف وتتراجع إل الوراء والعكازة التي كانت بيدها وقعت على الأرض.. أما أنا وصديقي (رولف) كنا نضحك بصوت عال والزبائن ينظرون إلينا ويضحكون على ضحكنا.

ضحكت (جمانة) فأضاف قائلا:

إضحكي يا (جمانة) إياك والحزن والأسى على الناس. فالناس صالح وطالح في كل زمان ومكان... فمن له ضمير حي يعيش نزيها حرا طليقا سواء كان أسودا إفريقيا مثلي أو أبيضا نرويجيا مثل (رولف).

وصلت (جمانة) إلى مقر عملها... فتح لها (باري) باب القافلة وقبل أن تغادره ضمته إلى صدرها بقوة وكأنها تودع عزيزا ثم انصرفت تضحك ضحكا مخلوطا بالبكاء...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى