السبت ٢٩ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم زكية خيرهم

الثلج الأحمر

في تلك البقعة من الكرة الأرضية، يشمّ ُ الإنسان رائحة الجفافِ والفقرِ والجوع ... ويسمع جرس الإنذارِ ... إنذار الموتِ ... الموتُ الذي سببته كل مخلفات الجهل وقساوة الطبيعة.

أرضُ ُ جرداء أصبحت عاقرا لانقطاع المطر عنها. حروب من الداخل وأخرى من الخارج، السكان جائعون، أميون، متمردون، ناقمون على الطبيعة، حاقدون على الحياة ... انتشر بعضهم كالغبار الذي تقذفه الرياحُ من غير رحمة إلى البلدان المجاورة والبعيدةِ أيضا. كان إسماعيلُ وفاطومة من ضمن من ساقتهم الأقدارُ من ذلك القحطِ إلى النرويج، حيث الطبيعةُ الخلابة ُ وحيث النعيمُ والرغدُ بكل أنواعهِ والسلام و الغنى ... وكلّ ُ شيء .... منحتهم الدولة حق اللجوء الإنساني وعاشا في جنة من الطمأنينة وهدوء البال، بعدما كانا في جهنم الحرب والجوع والقتل والبطش والإغتصاب ... إغتصاب الأجساد باختلاف جنسها وأعمارها ... أجساد رخيصة ... محتقرة ... لا تساوى شيئا ...

لم يكن اسماعيلُ مؤهلاً لعمل أي شيء في النرويج لكثرة الأمراض النفسيةِ والعضوية التي قدِمَ بها من ذلك الوطن اللاوطن ... ولم يستطع بطبيعة الحال استيعابَ لغة البلد. أما زوجتُه فكانت مثقلة ً بثلاثةِ أولاد مع أنها لم تتعدى العشرين من عمرها. التقى بها (رجب ) وهي في دكان ب (جرولاند) تشتري الخضر. تبادلا التحية وتلك الأسئلة التقليدية التي أمست جزءا من حوارنا، نتعاطاها بدون ملل عندما نلتقي ببعضنا، بمن لم نره منذ مدة طويلة أو قصيرة. كيف حالك ... كيف حال الأولاد ... كيف حالك مع الدنيا ...ماذا تعمل..أين تسكن..هل أنت مرتاح في البلد..

ستة أشهر مرت منذ أن رآها آخر مرة. وكأنها كبرت عشر سنوات ... صوتُها أكبر من سنها. أحس بكثير من المرارة في أحرفها وألمٍ عميقٍ في كلماتِها التي كانت تخرجُ رُغما عنها، محدثة حشرجة في حلقها. كان ينظر إليها خلسة من أخمص قدميها حتى رأسها وكأنه يحاول الإجابة على أسئلة محظورة. تتوقف عيناه على يديها، عروقُ ُ خضراء متورمة على ظهر كفها، يظهر على أطرافها تجعدات لا تبرز عادة سوى على يد عجوز داست عليها حوافر الأيام من غير رحمة. سألها بعفوية وسذاجة.
  كيف حال زوجك أما زال كسابق عهده ... أما زال يضربك؟
أطرقت من غير أن تنبس ببنت شفة. شعر ذلك الشاب بالندم لطرحه ذلك السؤال. كان يتألم إذ كان يحبها كثيرا، لكن والدها رفضه بسبب شجاره مع أبيه. حقد عليه لحقده على أبيه. كان الشاب يعشقها لذكائها وخلقها وهدوئها ورزانتها وعفتها. مد إليها بطاقة عنوانه ثم قال:
  إن احتجت أي شيء يا أختي فلا تتردي للإتصال بي.... الله معك.
غادرها وتركها تنظر إليه وعيناها مغرورقتان، محدثة نفسها: كم هو جميل ووسيم، كريم وشهم ... كنت سأكون زوجته لولا أباه الذي كان يتشاجر مع أبي. لماذا ندفع نحن الأبناءَ الثمن! بلعت ريقَها ورجعت إلى شقتِها الصغيرة.
  لماذا تأخرت أيتها الوغدة؟ تركت لي أطفالك ... سأجن ... خذيهم عني وهيئي الطعام لأنني جائع. أفهمت ماذا قلت؟
وضعت فاطومة كيس الخضار في المطبخ ثم أخذت الأطفال إلى الغرفة الثانية ... أخرجت اللعبة الوحيدة التي يملكها أطفالها لتنهي صراخههم وضجيجهم، لكن ذلك لم يزدهم إلا صراخا أكثر. كل يريد اللعبة له. هوت عليهم بالحزام وأقفلت عليهم الباب، ثم توجهت لتهيء الطعام. لم تبال ببكائهم ... أو ربما كانت تبالي ... فاكتفت بدموع تنهمر كالنزيف من قلبها. لو تزوجت رجب لما كانت حياتي جحيما هكذا! كانت تهيء الطعام بعصبية وضعت الماء يغلي لطبخ المكرونة وبينما تقطع اللحمَ كانت تفكر في رجب، ذلك الحبيب الأول ... لماذا يا ربي قدري هكذا ... لم تكمل كلامها وبلا شعور هوت بالسكين على سبابتها التي بدأت تنزف. لم تحس بالألم في تلك اللحظة بقدر ما كانت تتألم وتتحسر ناقمة على قدرها الذي وضعها في هذا الوضع.

أما زوجها فكان يجلس على الأريكة العتيقة التي أصبح لونها يميل إلى السواد لكثرة الأوساخ ... السعال لا يفارقه حتى وهو في لحظات نومه وهدوءه. يفتح علبة الدواء السائل المر المذاق ... لطالما كره أن يشربه ولكن لا مفر. نصيحة الطبيب له، توقفك عن تناول الدواءك معناه صحتك ستزدادُ سوءا ... ابتسم بسخرية على أنفاسه المتجمدة والمتمردة، منذ متى كان يهتم بحياته؟ منذ متى كان يعتبرُ نفسَه، إنسانا له كيان ... وجدان ... مشاعر ....

بدأ يتطلعُ حواليهِ وهو يسعل ... ينظر إلى ديكور الغرفة الحزين ... جدران لا لون لها خالية من الصور عدا آية الكرسي التي كانت معلقة في وسط إحدى الجدران وقريبة من السقف. تلفزيون قديم ينطفئ غالبا وحده ولا يفتح حتى يضربه بخف رجليه. سجادة بنية اللون بالية مليئةُ ُ ببقع الشاي والقهوة وفتات الخبز ... كان يحرّكُ قدميه بعصبية ويشد على أصابعه محدثا طرطقات لا إرادية ويتزايدُ سعالُه ويهتز جسمُه النحيلُ الأسمر الذي ضاق ذرعاً بحمله معه أين ما حلّ. فجأة تدخل عليه زوجتُه مستاءة، حزينة ثائرة والدم ما زال يسيل ساخنا من سبابتِها. غضب بركاني بداخلها، لم تستطع أن تفجره خارجا خوفا من ردّة فعله. قالت خائفة ُ ُ بنبرة مستاءةٍ منخفظةٍ ومتحفظة:
  أريد أن اشتري حفاظا للطفل.
  ألم أقل لك استعملي خرَقا من الثوب لأن ذلك يُوفّر علينا نقودا كثيرة.
اقتربت منه وكأنها تريد أن تنقض عليه، ثم ابتعدت خوفا من أن يفترسَها بضربه كالعادة وقالت:
  لم أر نقودا كل ما تدخره من نقود تحوله لأهلك. هذا المال حقي وحق أطفالي. أليس في قلبك رحمة؟ أحتاج إلى غسالة كهربائية أيضا.
لم يكن يؤلمها الجرح بقدر ما ألمها تطلع رجب إلى تجاعيد يديها بشفقة وحزن.
وقف مُزمجرا وبدأ يلُوحُ بكلتا يديه ووجهه يكادُ يلتصق بوجهها واللعاب يتطاير من فمه، صارخا غير مبالٍ بالنزيف في أصبعها، فالدم صار منظرا مألوفا تعود على رؤيته في وطنه.
منذ متى كنت تغسلين بالآلات الكهربائية؟ منذ متى كنت تتحدثين عن يديك وحساسية جلدِك؟ من غيرّك أيتها القحبة؟ هل تعتقدين أنك ستفلتين من يدي. إن النرويج ايتها النساء أعطتكن حقا أكثر مما لكُنّ. مثلك أيتها الغانية لا يليق بها إلا قطع الرأس بالساطور.

هل تعتقدين أن وجودَك بهذا البلد سيحميك مني؟ لا والله! لا أحد في هذا العالم يستطيعُ ذلك. هل فهمت. غادرت فاطومة إلى المطبخ تندب حظَها. أما هو فجلس على أريكته يزمجرويسب ويلعن ... لا يعرف بمن يبدأ لعنته... بوطنه المليء بالانقلابات والمذابح والمرض والفقر والتعذيب، أو يلعن النرويج التي ظن نفسه سيجد فيها ضالته من الراحة والهدوء والإستقرار وسينعم بهدوء واسترخاء دون أن يقطعَ نومَه صوتُ القنابل والقذائف التي كانت تنهال على مدينته ليلَ نهار ... كان يحلم أنه سيأكل بهدوء وسيعمل بهدوء ... وربما وفر بعضُ المالِ ليرسلُه لوالديهِ واهله في وطنه.

كلّ شيء كان حُلما فقط ... حلما يؤنس به نفسَه. كان ينظر إلى نفسه فيراها هي أيضا مجرد حلم ، طالما يتوق للتهرب منه ومن أطيافِه وساديتِه التي تطارده في صحوه ومنامه، لائذا بهوة سحيقة وحصينة ضد قدرِه المعلق في سماء العدم، وآمالا تسبح في ماض وحاضر ومستقبل غامض، خوف من المجهول، ماض ومستقبل لم ير فيهما حبا ولا حياة ولا وطنا ... بداخلي فراغ ... ليس فيه شيئ ...

تطلع إلى باب الصالون، وذهب بفكره إلى زوجته، وأولاده الثلاثة. نزلت قطرات ساخنة من عينيه، وهطل وابل من التساؤلات التي لم يجد لها حل ... تساؤلات كانت تنزل على عقله محدثة له صداعا حاداّ في رأسه ...

بلدي ... وطني ... لو كان لي وطن .... مثل النرويج، لما جئت إلى النرويج ... لو كان ببلدي سلام .... لما كنت على ما أنا عليه الآن ...

ضحك عاليا ضحكا ممتزجا بالبكاء ... حروبنا ... وجوعُنا ... وفقرنا ... ودلّنا ... وتخاذلنا ... قتلنا ونحن أحياء ... أينفع العيش بعد هذا الموت الذي نعيش فيه ...

تطلع إلى نفسه وكأنه يفحصها أو كأنه يريد أن يتأكد من ذلك الجسد العليل الذي يلبس روحه المريضة، المستاءة، فوجد الإثنان عليلان، سقيمان ... ماتت روحه وتبعها الجسد. عرف أخيرا أن هذا الجسد قد أنهكه المرض، واستوطنته جرثومة خبيثة ... هذا الجسد آن له أن يستريح من حياة الذل والدونية والوحدة ... وحدة في كل مكان ... منذ هروبه وأهله وتسللِه إلى النرويج ... إلى أوسلو.

زوجتي ... أولادي ... ما ذنبُهم ... ما ذنبي أنا؟ إنه ذنب القدر الذي يعطي بسخاء بعض الناس ويحرم الآخرين بقسوة. تمر أيامنا وشهورُنا وسنينُنا ونحن لا نجد الراحة ... كيف لنا أن نعيش ونحيا وكل من حولنا يمقتنا ويمقت وجودنا؟ حثالة ألقت بنا خارج بلادنا . كرهت نظرات الإستعطاف والشفقة ونظرات التأفف والإستياء.
صراخ الأطفال مازال يرج تلك الشقة ُ الصغيرة ... وصراخُ برأسه مازال يقع عليه بدون رحمة كالضرب بالمطرقة.

وقف متجها إلى المطبخ ليرى لماذا زوجته لم تهدىء من بكاء وصراخ الأطفال. فإذا به يسمعُها تتكلم هاتفيا. تبكي وتشكي إلى رجب ذلك الذي كان يحبها يوما ويحلم ببيت وأطفال معها. تطلب منه أن يساعدَها في إيجاد حل لها ولزوجها الذي أصبحت الحياة مستحيلة معه.

أظلمت الدنيا في عيني إسماعيل ... لم يعد في استطاعته أن يميز بعقله وبعينيه وببصيرته شيئا. كل شيء صار أسودا. يداه ترتجفان كباق جسمه، كله أصبح يرتجف روحه وعقله ، بل كل الشقة ترتجف من حواليه. فتح باب المطبخ الذي كان نصف مغلق واتجه إلى الجارور وأخرج ساطورا. كانت زوجتـُهُُ في تلك اللحظة ألقت بسماعة التلفون على الأرض من صعقة المفاجأة ... تسمرت رجلاها في الأرض ... حمل إسماعيلُ السماعة فإذا به يسمع صوت رجب ... " حبيبتي سأبذل كل ما في وسعي لمساعدتك ومساعدة الأولاد.
فقد إسماعيل صوابه وقال بصوت مرتفع:
 سأريحك وأريح الأولاد وأريح نفسي ... أليس هذا الذي تريدين؟ ألا تريدين أن تخلدي للراحة؟ هوى على رأسها بالساطور ثم أسرع إلى حيث الأولاد وهوى عليهم بساطوره لكل واحد منهم ضربة واحدة، فأصبحوا طريحين أرضاً والدماءُ تسيل كالنهر، يمشي بتثاقل والندم ينزف روحه المنتزعة التي تحتظر من علة الزمن ... ثم ألقى بنفسه من النافدة فلون بدماء مأساته الثلجَ الأبيضَ فصار أحمرا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى