الأحد ٣٠ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم ناصر الريماوي

فانتـــازيا المفـــردات

إعادة إحياء لشخصيات قصصية خارج إطار النص الأصلي
لبعض قصص الكاتب الكبير يوسف ضمرة

لم يكن أمام الجميع إلا أن يعربوا عن سخطهم إزاء هذا الصخب المفاجىء الذي داهم البيت بعد منتصف الليل فأيقظهم من غفوة عميقة لم ينعموا بمثلها منذ زمن... على حد تعبيرهم، حتى صغيرتي الرضيعة لم تتوانى بالمشاركة فأبرمت صفقة سريعة مع شياطين العويل... لتكتمل الدائرة،

أشارت زوجتى بحزم لإسكات الجواد بعينين مثقلتين بخدر النعاس، شعرت بحرجي يتضاعف أمامها عندما أقتحم أطفالي الاربعة غرفتنا في فزع شديد ما لبث أن تحول بعد وقت قصير إلى صياح وتذمر، كيف يمكن لهذا الجواد البري ان يفعلها للّيلة الثالثة على التوالي ليخرج علينا بهذا الصهيل الذي هو أقرب للعويل وندب الحظ منه إلى صوت الخيول، فيمزق أستار الليل من حولنا في الغرفة المجاورة ويوقظنا من عمق مناماتنا؟ إمتثلت لأمر زوجتي في خنوع، قفزتُ فوق كومة الأولاد عن سريري وسرت نحو غرفة المكتب، أغلقت متصفح الحاسوب (اللابتوب) في إرباك واضح إغلاقاً نظاميا وأنتظرت حتى إنطفأ تماماً فطويت شاشته ثم أودعته الحقيبة ثم اودعت الحقيبة درج المكتب وأقفلت عليها بالمفتاح فأنقطع الصهيل وتبدد الصخب لتسود وصلة الهدوء من جديد، وقبل أن ألتقط بعض أنفاسي داهمني الجميع بالحضور إلى غرفتي الخاصة، لم أكن بموقف يتيح لي منعهم كعادتي، لمحت في وجوههم يقظة صافية بعد ان تطاير النعاس، إستولت زوجتى على مقعدي المفضل للكتابة بجلوس هادىء يمهد للعاصفة وهي تضم إليها طفلتنا الرضيعة وتكظم غيظاً تغلب على هيبة الملامح لتقول في حذر ولوم بالغيين: الجواد البري للأستاذ ضمرة... يضرب من جديد... أليس كذلك؟ ألم تعدني بإيجاد حل جذري لهذه المسألة؟ حاولت إقناعها بأنني قد أغلقتُ الحاسب إغلاقاً نظاميا بعد الإنتهاء من التصفح ليلة البارحة وأنني كنت على ثقة من إغلاقه التام، ولأنني كنت أكرر ذات المبرر في الليالي الثلاثة الفائتة، لهذا فهي لم تنتظر لأكمل وغادرت غرفتي برفقة جيش الصغار إلى جهة غير معلومة.

توجهت إلى عملي في الصباح، برفقة همّ إضافي إلى جانب هموم العمل التي تجمعت حصراً في سلوك مديرنا الحالي، ليتصدر ذلك الجواد البري قائمة الهموم اليومية وبجدارة، ولما لم أجد حلاً مناسباً، فقد قررت الذهاب للأستاذ ضمرة لعلي أجد عنده إقتراحا أو حلا يريح الجميع، أستقبلني كعادته مبتسماً، ثم أصغى بإهتمام شديد لحديثي، ولم يستهجن الأمر، ثم قال: هذي بسيطة... نتلف القصة من موقعي الألكتروني الخاص وينتهي كل شيء.

وفعلا نفذ ما قاله، وهو ينفث من خلال ضحكته المجلجلة العذبة سحب السجائر الكثيفة في وسط المكان. عدت بسعادة غامرة لمكتبي بالعمل، ولأنني لست محظوظاً كبقية الناس، فقد وجدت مديرنا الملقب "بعنتر زمانه" ينتظرني بمرصاده، أنتظرت قليلاً... وإذا بزميلي يخرج حانقاً من عنده، بينما العديد من الرسومات والاوراق تتساقط من يديه، توجه نحوي ليهمس في أذني: لن تجد اغبى منه في حياتك... أصبح شغلنا لا يعجبه... عنتر زمانه هذا، فأستبشرت شراً، وفعلاً رمى ملفاتٍ عديدة أمامي في كبرياء وقال كل هذه الدراسات لا تعجبني... إنها بدائية ولا تليق بخبرتكم، لم أستطع السيطرة على نفسي، فشتمته وقلت له أنا مستقيل، لقيني زميل آخر كان ينتظر ليدخل بعدي فبادرني بالسؤال: كيف هو أبو علي الآن؟ لعنة الله على أمثاله...، ولم أجبه وغادرت فوراً لبيتي وأنا أشعر بقليل من الرضى لهذه الشجاعة النادرة.

لقيتني زوجتى مقطبة على غير عادتها، غائمة تنذر بعاصفة، لم تنتظر لأحدثها عن أسباب عودتي المبكرة، بل بادرت على الفور: من هي

"زهرة"؟؟؟

  زهرة!!
  نعم زهرة... السيدة "زهرة"
  أنا لا أفهم شيئاً... ما القصة؟
  اتصلتْ بكَ عشرات المرات اليوم وتريد أن تقابلك غداً... وأين يا ترى؟ هنا في البيت أمام عيناي، أنا من تحتاج إلى توضيح... ما القصة يا... دنجوان زمانك؟

داهمنتني كآبه حادة، فلم يكن ينقصني إلاّ أبو علي... وضالتي المنشودة ست "زهرة"... تكهرب المحيط حتى ساعة متاخرة من الليل، لكنني وانا اردد ذلك الاسم المزدوج الذي ابتليتُ به منذ الصباح طافت ببالي فكرة لمعت مثل البرق ثم إختفت، سارعت إلى تأكيدها أو نفيها من خلال موقع الأستاذ ضمرة على (الإنترنت)... وكم دهشت لتلك المصادفة... فقلت في نفسي أنتظر نتيجة الليلة، فإذا لم يصهل ذلك "الجواد البري" فإن الحل بات متاحاً، شعرت بإرتياح عميق إلى تلك النتيجة، تمددت فوق أريكة الصالة ثم رحتُ في سبات عميق.

بعد منتصف الليل بكثير، دوت صرخة هائلة ترافقت مع سقوط شيء ثقيل في الفناء الخارجي للبناية، استيقظ الجميع بما فيهم أفراد أسرتي، ثم علت أصوات خارج البيت أخذت تمزق سكون الليل، فتحت النافذة ونظرت من شقتي في الطابق الثاني إلى مصدر الأصوات، كان بعض الجيران قد تجمهروا حول شخص، قالو انه سقط من الشارع العلوي إلى فناء التسوية السفلية خلف البناية، أما الغريب فهو أرتداؤه لذلك المعطف الثقيل في هذا الطقس المعتدل... حضرت سيارة الإسعاف، حملت الجثة بين الحياة والموت، ثم عاد الجميع للنوم كأن شيئاً لم يكن.

طلع الصباح سارعت لزوجتي سألتها عن صوت الجواد البري أثناء الليل، فاجابت بالنفي، خرجت على الفور قاصداً لقاء الاستاذ ضمرة، استقبلني للمرة الثانية على التوالي بإبتسامته الصافية قائلاً: خير... هل عاد ذلك الجواد للصهيل؟

حدثته بقصة أبو علي وزهرة... فجلجل ضاحكاً مما بدد شيئاً من خجلي أمامه، وقال هذه المرة أبسط من الاولى... نشطب القصة بأكملها من الموقع... كل شي إلا زهرة... كل شي إلا زهرة...

شعرت براحة اكبر هذه المرة، توجهت لمكان عملي لتقديم إستقالتي بشكل خطي، عند بوابة الشركة الخارجية، كان احد الزملاء ينتظر أحداً ما... سارع من فوره ليبشرني: أما علمت بما حدث؟؟؟

- خير....
- مجلس الإدراة تخلى عن خدمات أبو العناتر، مدير الغفلة...

لم أصدق ما سمعته، لكنها الحقيقة تمليتها بنفسي، وقلت للجميع... لمن لم يعرف بعد بالخبر: لقد طار ابو علي... نعم طار وحلقت معه زهرة... ثم غادرتُ وانا أرقص فرحاً.
فتحتُ باب الشقة ودخلت مزهواً بما حدث، صادفت زوجتي تقف في اول الردهة، صامته تكابد هماً ثقيلاً... تعوذت بالله من الشيطان الرجيم... تعال هناك ضيوف السيدة زهرة بإنتظارك!! لم أصدق ما سمعت وشعرت بأن هناك خطأ ما... فهذا لا يعقل، أو ان زوجتي تمازحني، دخلت الصالة وفوجئت بتلك السيدة التي تدعي معرفتي تجلس بإنتظاري، أنا لم أقابلها في حياتي... لا بد انها وهم أو انني احلم... لكن... لكن زوجتي تراها... ألقيت التحية على السيدة، فردت التحية ونادتني باسمي، فاكدتُ لها بأن هذا هو إسمي لكنها مخطئة... فأنا لا أعرفها ولم أطلب مقابلتها... إبتسمت في حذاقة وهي تقول: أنا آسفة كان يجب ان اعّرف بنفسي اولاً... انا موفدة من شركة التامين على الحياة... حضرتُ بناء على رغبتكم... أليس هذا طلب مقدم منك أيها السيد...؟

تبادلنا نظرات ذات معنى أنا وزوجتي توحي بالندم من طرفها لهذا التسرع وأنا بالذنب لغفلتي عن ذلك الطلب لشركة التأمين في غمرة المشاغل اليومية، خرقت زوجتي حاجز الصمت لتسأل مستوضحة: إذن ما قصة زهرة التي إتصلت البارحة؟ ردت الضيفة: نعم تلك كانت زميلتي في العمل وقد كان من المفترض أن تحضر هي لنفس الغرض ولكنها أعتذرت في اللحظة الأخيرة لظرف طارىء، فأنتدبت بدلاً عنها... هذا كل شيء، أنا عني شعرتُ برغبة عارمة في الضحك، وانا أتذكر كلام الاستاذ ضمرة في الصباح: إلا زهرة... إلا زهرة، لكني تمالكت نفسي وأجلتها لحين مغادرة الضيفة، وسألتها: من فضلك لم نتعرف بإسمك بعد...،

  آه... نعم... المعذرة، زهـــــور... انا أدعى زهــــور... أم علي.

تلك الليلة بذلت مجهوداً استثنائيا وأنا أقرأ للأستاذ ضمرة أعماله الكاملة، مستعيناً بالأعمال المطبوعة تارةً، وبمحركات البحث على الشبكة العنكبوتية تارةً أخرى... فقد أغراني ما حدث خلال اليومين الماضيين على معرفة المزيد مما قد يكون مرتبطاً في حياتي اليومية دون أن أدري... كحالة الفقر المستشرية مثلاً، فلربما كان هناك قصة للأستاذ بهذا الخصوص، خصوصاً أنني رجعت إلى الوراء سنيناً عديدة، فتذكرت تلك الظواهر التي لم يكن لها تفسير في حينها... أما اليوم فأراها تتجلى بكل وضوح، فقد تذكرت أمي التي لم تستلم مكتوباً واحداً مما كتبته لها في غربتي ذات زمن، وأشجار حديقتنا في بيت العائلة التي لم تورق وظلت دائمة العري حتى هذا اليوم، ثم أخيراً تلك السحب التي أمطرت فوضى فأنتهت بي هنا... بقيت هكذا حتى وقع بصري على عنوان لقصة لفت نظري وجعلني أعود إلى ما حدث في الليلة الماضية "الصوت والجثة"، فاخذت أقرأ بشغف لأعرف الدوافع وهل لها علاقة بما حدث... وصدمتْ... فعلاً لقد كانت هي تلك القصة وكان هو ذلك الشاب... شعرت بالجزع الشديد، أخذت اتحرك في غرفة المكتب على غير هدى، فالقصة غير مدرجة على الموقع الإلكتروني... ليسهل شطبها كالبقية... وبينما انا كذلك... دوت صرخة هائلة ترافقت مع سقوط شيء ثقيل في الفناء الخارجي للبناية، ركضت أهرول نحو غرفة النوم... أحكمت إغلاق النوافذ جيداً... أسدلت الستائر وأقسمت أن أستبدلها بستائر معتمة اكثر في الغد، ثم تذكرت ان المأساة اكبر بكثير فأنا لست وحدي في البناية هناك ثمانية شقق غيري، فماذا أفعل...؟ هل أطلب منهم التفريق في المضاجع... أم الـتأني وكبت المشاعر الفائضة صوتاً وصورة... أم بتركيب نوافذ كاتمة للصوت... وبينما أنا كذلك خطرت ببالي فكرة، نفذتها على نفقة الاستاذ الخاصة، فأيقظته من خلال هاتفي: صباح الخير

  خير ما الأمر؟؟
  هل تذكر قصة "الصوت والجثة"...؟
  نعم... لكنني نصف نائم... هل هذا وقته يا عزيزي أصلحك الله...
  المسألة هامة... أرجو المعذرة...
  هل تريدني أن أشطبها من موقعي هي الاخرى، أشطب الموقع بأكمله إن أردت... لكن هل هذا هو الوقت المناسب للحديث... لا حول ولا قوة إلا بالله...
  أستاذي الكريم القصة ليست مدرجة على الموقع... إنها ضمن المجموعة الكاملة للأعمال المطبوعة... و...
  هل أمزقها؟ فأعود للنوم...
  لا فقط... أقصد... أنا...
  هل أمزق المجموعه... هل أمتنع عن الكتابة... أقول لك شيئاً ربما أعتزل الكتابة نهائيا... فلا أتسبب بإزعاج لأحد...
  أنا أعتذر أود أن أقول فقط... لو بالإمكان تزويج بطل القصة... رأفة به وبنا...

ساد صمت لفترة قصيرة ثم جلجلت ضحكة قوية على الجانب الآخـر، ضحكة اعرفها... أخذتُ أضحك أنا بدوري مجاراة لأستاذي، إنقطع الخط... وبقيت أسبح وحيداً في قهقة لا تنتهي... إستيقظتْ زوجتي على صخب الحديث، كانت تزبد تحت وطأة الإزعاج تسمرتْ أمامي، خطفتْ سماعة الهاتف من يدي في عصبية مفرطة وهي تقول: هل هذا هو الوقت المناسب للمكالمات الهاتفية... ألا يمكن للأستاذ أن ينتظر حتى الصباح... ماذا يريدُ منكَ في هذا الوقت، قل لي ماذا يريد؟

 [1]


[1• ملاحظة: " الجواد البري"، " أبو علي" و " الصوت والجثة " هي قصص للكاتب يوسف ضمرة، يمكن الاطلاع عليها من خلال الرابط التالي: http://ydamra.maktoobblog.com/


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى