الاثنين ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم عبد الهادي الفحيلي

الرمل

أول الصباح.

هدوء يسود القرية التي تثئاب لتطرد النوم عن عيونها. خرجت من البيت لأمارس عادة دأبت على احترافها منذ زمن ليس بالبعيد. منذ عقدت العزم على أن أتمرد على مجهوليتي في هذا السجن الذي يعصرني بين أحداقه. هكذا كنت أسير لمسافات طويلة وأرتاد –أحيانا- خارج القرية الموغل في الشحوب.

تباشير يوم قائظ بدأت تلوح بعد أن أذنت الشمس عن قرب اعتلائها عرش المكان. بعد ساعات أصبحت القرية فرنا حقيقيا، وفي الأفق غمامة تتقدم على استحياء، تخب خطواتها على مهل لكن بثبات.

أسير، صفحة السماء أصبحت أقرب إلى الرمادي. شيء من رمل يخالط هذا الحر يهاجمني. بعد قليل أصبح وقع الرمل أشد وصرت أستقبل كميات منه بسخاء. أبصر الناس يسدون أفواههم وأنوفهم بإحكام ويهربون من وجه الرمل. أنا الوحيد الذي كنت أبتلع الرمل والصهد مع شيء من الذباب، أبصرهم ولا يبصرونني، لا أحد التفت إلي وأنا لا أسد أنفي وفمي.

رفعت من إيقاع سيري. الآن أنا أجري كأنني هارب من شيء ما. فمي مشرع مثل بوابة قديمة، ألهث ككلب مطارد؛ تنتشر الآن كلاب ضالة في كل مكان. أجري، أجري، أذني تتلقف صوت لهاثي الذي يكبر ليغطي المجال من حولي.
عرقي يغرقني والرمل الدافق يتنزل مثلما سياط هذا الحر. الشمس تطلق رصاصها من وراء الغيم القابع في الرماد.

يسرع الرمل خطاه كلما تقدمت في جريي وفي لهاثي. يندس إلى داخلي، تجاوز الثياب ليتسرب عبر المسام. صرت الآن مقلعا حقيقيا للرمال. من أين يأتي هذا الرمل كله؟ ما كان باديا للعيان هو أن السماء كانت ترسله مذرارا.

استمر الرمل يصنع خارطة المكان لأيام لم أبال بحسابها؛ أستيقظ في أول الصباح، أدخل المرآة لأكتشف بأنني أنتفخ كل يوم، أفتح صنبور الماء لينهمر الرمل منه فأغتسل به وأخرج إلى طرقات القرية لأمارس طقوسي في المشي، لا أحد يعيرني انتباها رغم شكلي المتغير والمثير للاستغراب. أستقبل الرمل بكل جسدي، لم أقفل حتى منافذ بيتي في وجهه. أهل القرية سدوا جميع ما يمكن أن يسمح له بالتسرب إلى إلى البيوت. صرت أبصر النوافذ مزوقة بقطع الخشب وكذا اعلى الأبواب وأسفلها. صارت القرية قطعة كبيرة من الرمل!

أسير لوحدي، لا أحد يؤم الطرقات. أنتعل الرمل وأهيم على وجهي أمرغ وجه القرية بمروري الرملي.

بقي سر الرمل غامضا. ما لم يكن سرا هو أنني أجري وأنا ألهث، أبتلع الرمل حتى صرت منفوخا مثل بالون كبير. لا أهتم للأمر؛ صرت كائنا رمليا.

بعد زمن ما، لا أدري مقداره، عندما خفت هطول الرمل أو زحفه، لا أدري، إلى أن هدأ تماما، كنت أسير، لا أجري ولا ألهث هذه المرة. أرى معالم الانشراح تعلو الوجوه. أزال الناس قطع الخشب من النوافذ والأبواب، يخرجون الرمل الذي تسرب إلى البيوت ويتجمعون في حلقات يتداولون في أمر هذا الذي ألم بهم. أسمع كلامهم وأنا أقهقه في داخلي المتماوج في الرمل:

 الرمل نزل من السماء!

 السماء لا تمطر رملا!

 ربما هذه رمال شاطئ ما.

لكن القرية بعيدة جدا عن البحر!

 كثر المنكر في القرية، هذا إنذار من الله.

بعد مدة نسي الناس أمر الرمل والسماء والبحر والمنكر وإنذار الله وكل شيء. لم أعد أسمع ولو كلمة عن ذلك -وأنا أمر يعبؤني الرمل أو أعبؤه في داخلي- كأن شيئا لم يكن. عادت الحياة في القرية إلى سابق تواقيعها. أسرح في الطرقات أكاد أنفجر وعلى شفتي ترتسم ابتسامة ماكرة: "إني أختزن لكم في داخلي صحاري هائلة من الرمل!!".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى