السبت ٢٤ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم ياسمين مجدي

هنا ينتهي العالم

إذا مررت بمكان، وشعرت فجأة بالحب، فأعرف أن أحد المحبين مر قبلك من المكان نفسه، وترك مشاعره لتتخلل قلوب كل من يأتي. فالناس لا يتركون آثار أقدامهم فقط على التراب، إنما تترسب مشاعرهم، وأفكارهم، ونفوسهم حيث يتحركون، ليتركوها كالإرث، يحملها من يعبر خلفهم من الطريق نفسه.

كأن الحياة تتعمد أن يدور كل ما بها في دورة كاملة، وكما تتحلل أجسادنا، وتتحول إلى نبات جميل يموت بعد فترة، ويترك مكوناته لكائنات أخرى تتغذى عليها، فالمشاعر أيضًا يتركها الراحلون خلفهم، وتنتظر الفرصة لتدور هي الأخرى في دورتها، فكل منا يشع طاقة وأفكار، وقبل أن يرحل من المكان يتركها خلفه ليتغذى عليها الآخرون، والأمر نفسه تعيشه فلسطين، لأن كثير من طاقة وأفكار الناس تدور على حدودها، فتصنع منها بؤرة زاخرة بزخم نفسي وعاطفي.

كثير من المناطق في العالم لها خصوصياتها، لأن للجغرافيا سمات معينة تنعكس على جوهر التاريخ والناس، فتلك المدينة الصغيرة،فلسطين، تقع على أطرافها القارات الثلاثة، فعلى يسارها الجنون لأفريقي، حضارة العرب، سحر الزنوج الذين حاكوا بأشجارهم الشامخة حضارة مليئة بالأسرار والأشباح، وحكايات جنيات البحر، والدببة التي تبوح بإنسانية طاغية.

على يمين فلسطين آسيا الناعمة الهادئة، التي تسير بهدوء مرتدية زي الكيمونو، ساحبة أطرافه على الأرض، كأنها تزحف في نعومة خطرة، وتتقدم للأمام، وفي مواجهه فلسطين البحر الأبيض المتوسط الذي يخفي خلفه قارة أوروبا، عالم تكنولوجيا، والأناس التي تتحرك بديناميكية، لكنها في الليل ترتكب كل ما تصرخ به إنسانيتها.

بلد كفلسطين بتلك المواصفات تجمع على حدودها الدنيا بكل تضاربها، وجنونها وهدوءها، فتخزن كل تلك الصفات الإنسانية والنفسية بداخلها، فتصبح الأرض مُشبَعة بجنون العالم، وتتحول إلى رقعة ثائرة تحوي في أعماقها تنوع الحياة الكبير.

نتيجة لهذا الموقع الفريد تبتلع فلسطين في أعماقها تلك المشاعر المتضاربة التي تسكن أطرافها، فتصبح تلك الطاقة النفسية ضخمة على احتمال فلسطين مما يجعلها تنفجر بزلزالها الخاص، وهو أن تكون ثورية، وبؤرة للشغب، والحروب، والمعارك، كما تُصدر رائحة كالعطر تؤدي إلى إنجذاب الجميع لها، وإلى طمعهم فيها.

بهذه الخصائص بثَّت الأرض الفلسطينية طاقة عالقة في زمن فلسطين، طاقة احتشدت بداخلها ثورية كبرى، وعواطف متضاربة، تُرجم بعضها إلى أحداث لا تُنسى كالنكبة، والمذابح، والعمليات الاستشهادية، لكن لايزال هناك في الأفق الكثير الذي سيصفيه التاريخ مع الجغرافيا، ولن يفيد ما قاله الروائي الفلسطيني الكبير (إبراهيم نصر الله) عن بطل روايته (براري الحمى): "كان يركض بكل ما أعطاه الزمن من خوف"، لأن المكان محاصر بالزمن المحمل بتراث المشاعر الثائرة، وستحدث حتمًا أشياء أكبر لفلسطين، تلك البؤرة التي يطمع فيها العالم، والتي قد ينتهي عندها العالم، لأنها تحتوي العالم كله بداخلها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى